أشرت في المقال السابق ( نحن وقيم علي ) إلى أن اختلال المفاهيم القيمية ترجع بعض أسبابها إلى اختلال مفاهيم التربية من جانب، وعدم اهتمامنا بها من جانب آخر، وفي ظل تأكيد أهل بيت النبوة والعصمة على أهمية التربية والدعوة للإهتمام بها والتركيز عليها حتى إنك لتجد أحاديث وروايات كثيرة، مما يدل على أهميتها البالغة، وتراهم -عليهم السلام- قد رسموا لها منهجا عميقا يعززه معصوم بعد آخر، في ظل كل هذا التأكيد والتركيز، على من تقع مسئولية تربية الأجيال؟
مما لا شك ولا ريب فيه إنها بالدرجة الأولى تقع على الوالدين الذين ينشأ الولد في كنفهما ويمكث في ظلهما، ولذا وجه الإسلام اآأباء والأمهات لهذه المسئولية العظيمة وحث عليها وجعلها حق من حقوق الأولاد على الآباء، يقول الإمام علي لولده الحسن عليهما السلام: "إنَّمَا قَلْبُ الحَدَث كالأرْضِ الخَالِيَة، ما أُلقِيَ فِيهَا مِنْ شَيءٍ قَبلتْهُ، فَبَادَرْتُكَ بالأدَبِ قَبلَ أن يَقسُو قَلبُكَ، ويَشْتَغلُ لُبُّكَ".
إلا أن هنالك مسئولية تقع على عاتق المجتمع ككل من علماء دين ووجهاء ومثقفين وحملة شهادات ومن مؤسسات دينية واجتماعية وثقافية وكل قادر على ذلك، يقول الإمام الصادق عليه السلام: "أيّما ناشئ نشأ في قوم ثمّ لم يؤدّب على معصية، فإنّ الله عزّ وجلّ أوّل ما يعاقبهم فيه أن ينقص من أرزاقهم". وكما أن أثرها -التربية- على المجتمع ككل، فالمسئولية كذلك.. ولذا تجد أول من حمل هذه المسئولية هم الأنبياء والرسل الذين بعثهم الله لهداية الناس والدعوة إليه عز وجل، بل أن رسول الله محمد صلى الله عليه وآله يقول "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
وتجدر الأشارة هنا إلى أن الله عز وجل تكفل بذلك في كتابه المجيد، فنلاحظ إنه -مثلا- يأدب ويعلم الأبناء حسن التعامل مع آباءهم. يقول الله تعالى: ( إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ).
*تربية عليٌ لزينب النموذج الكامل:
زينب، نعم زينب ربيبة بيت النبوة والإمامة، والتي عاشت في كنف أمير المؤمنين عليه السلام يحفها ويغدق عليها بكل مضامين التربية معاني القيم الإنسانية. إن زينب التي عُرفت بخدرها وسترها هي بنت علي الذي كان يضع الحسن والحسين عن يمينها وشمالها وهو من أمامها وفي الليل كلما أراد أن يخرجها حتى لا يُرى ظلها.. زينب القلب الصبور والمحتسب لله عز وجل هي بنت علي الذي تكالب عليه الدهر فصبر وفوض أمره لله تعالى.. زينب الحضن الدافئ الذي لجأ له الأطفال يوم العاشر هي بنت علي الذي ملك قلوب اليتامى المستضعفين في الأرض ولا يجدون مأوى لهم غيره.. زينب التي رغم كل التعب والأرق والمصاب تصلي لله عز وجل من جلوس في ليلة الحادي عشر من المحرم هي بنت علي الذي يقفُ بين يدي الله متململا في كامل الإنقطاع إليه حتى يُغشى عليه.. زينب التي واجهت الطغاة بكل حزم ودون تردد هي بنت علي الذي قتل أبطال العرب وناوش ذؤبانهم ولم تأخذه في الله لومة لائم.. زينب التي صمدت وتحملت كل الأذى في سبيل المحافظة على رسالة الحسين وثورته حتى سبيت هي بنت علي الذي تحمل وصبر على كل الأذى في سبيل المحافظة على رسالة محمد صَلى الله عليه وآله حتى أقتيد بحبل وخير الأوصياء.. زينب العالمة الجليلة التي رفضت التصدق على ركب السبايا هي بنت علي سيد الموحدين والفاروق الأعظم. وهكذا كل فعل قيمي لزينب تجد له أصلا تربويا من أمير المؤمنين عليه السلام، فزينب لم تكن صِنْعَةُ كربلاء وإنما صنْعتُها وصِبغتُها كانت من تربية بيت الرسالة والإمامة، وكربلاء صنعتها قيم علي وتربيته، فكم وكم حوت من مبادئ علي عليه السلام وقيمه، وليس الأمر مقتصرا على مشاركة أبناءه فيها، فإليك حبيب ابن مظاهر صاحبه ومن شيعته، أدبه الأمير وعلمه وزرع فيه القيم وكرسها.
ختاما تأمل قول الأمير لأبنه الحسين عليهما السلام: يا بني أوصيك بتقوى الله في الغنى والفقر وكلمة الحق في الرضى والغضب. والقصد في الغنى والفقر. وبالعدل على الصديق والعدو. وبالعمل في النشاط والكسل. والرضى عن الله في الشدة والرخاء. أي بني ما شر بعده الجنة بشر، ولا خير بعده النار بخير. وكل نعيم دون الجنة محقور. وكل بلاء دون النار عافية. واعلم أي بني أنه من أبصر عيب نفسه شغل عن عيب غيره. ومن تعرى من لباس التقوى لم يستتر بشئ من اللباس. ومن رضي بقسم الله لم يحزن على ما فاته. ومن سل سيف البغي قتل به. ومن حفر بئرا لاخيه وقع فيها. ومن هتك حجاب غيره انكشف عورات بيته. ومن نسي خطيئته استعظم خطيئة غيره. ومن كابد الأمور عطب. ومن اقتحم الغمرات غرق، ومن أعجب برأيه ضل. ومن استغنى بعقله زل. ومن تكبر على الناس ذل. ومن خالط العلماء وقر.
فلنتأمل ولنسأل أنفسنا: أين نحن اليوم من علي عليه السلام؟ أين نحن من قيمه وعبادته وتربيته وكل ما جاء به ونحن شيعته؟!!
إكسير المحبة
23 مايو 2014