Friday, March 27, 2015

على ضفاف الذكريات (16) // ز.كاظم

 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
في أواخر عام 1990 وبينما أمريكا تدق طبول الحرب على العراق، كانت أختي الكبيرة تدرس تخصص طب الأسنان في بريطانيا وقد اتفقنا أن أزورها في أيام الكريسمس.. وصلتُ إلى لندن، ويا للعجب كانت الشمس بازغة في مدينة الضباب، ومنها ركبت الباص متوجهًا إلى مدينتها "كاردف" وهي عاصمة ولاية ويلز وأكبر مدينة فيها، كما تحتل المرتبة العاشرة مساحةً في المملكة المتحدة.. تبعد هذه المدينة عن لندن حوالي ثلاث ساعات بالباص، وكانت الرحلة مملة جدًا إلا من حدث أثار انتباهي.
 
From: London, UK To: Cardiff, UK

كنتُ جالسًا بالقرب من الكراسي الخلفية ولم يكن الباص ممتلئًا بالركّاب. بعد فترة ساعة وإذا بصوت امرأة تتحدث الإنجليزية باللهجة البريطانية. جلستُ قليلًا متفكرًا، ولم أنظر للخلف سريعًا. راجعتُ شريط الذاكرة حينها إذ كانت بالخلف مني امرأة وبنتها مع ولدها، وكانوا سودًا.. كيف يتحدثون كما يتحدث البيض الإنجليز!!! التفتُ للخلف للتأكد.. نعم، إنهم سود.. استغربتُ من ذلك والسبب كان أن السود في أمريكا لهم لهجتهم الخاصة بهم عن البيض، في حين أن لهجة سود بريطانيا لا تختلف عن لهجة البيض!! هل استطاعت بريطانيا أن تزيل الفروقات بين أعراق مواطنيها في حين عجزت أمريكا عن ذلك، أم أن أمريكا بلد متعدد الأعراق تختلف لهجات مواطنيه من منطقة لأخرى على خلاف بريطانيا التي مارست دورها الثقافي في فرض لهجتها على جميع مواطنيها، إلا المتمردين من أمثال الاسكتلنديين والإيرلنديين!

 
قضيتُ قرابة الأسبوعين مع أختي وكانت هناك فروقات كثيرة لحظتها في المعيشة بين بريطانيا وأمريكا.. المباني البريطانية أغلبها قديمة كلاسيكية لها تاريخها العريق مقارنة بالمباني في أمريكا. المفارقة الأولى بين بريطانيا وأمريكا تتلخص في مفهوم "توفير سبل الراحة"، فمع أن أختي تسكن في شقة أغلى من الشقة التي أسكنها في أمريكا، إلا أن سبل الراحة في تلك الشقة متفاوتة جدًا. خذ على سبيل المثال الماء الحار للاستحمام، في شقتي في أمريكا تدخل الحمام وتفتح أنبوب الماء للاستحمام وبعد عدة ثواني يأتيك الماء الحار الدافئ لتستحم، في حين عليك الانتظار في شقة أختي لأكثر من نصف ساعة لكي يسخن الماء، ثم تستحم سريعًا قبل أن ينتهي عليك الماء الساخن وأنت في منتصف غسل شعرك بالشامبو، أو جسمك بالصابون! هذا نموذج واجد، وإلا فالأمثلة كثيرة..

 

هناك أيضًا اختلاف في سهولة التعامل مع الأمريكان عنها عند البريطانيين.. ذات مرة كنتُ عند الكاشير (وكانت امرأة) وسألتها عن حالها فارتبكت وبدى على وجهها الاستغراب وكأنها لأول مرة تسمع أحدًا يسألها عن حالها، في حين أن التحدث مع الكاشير الأمريكي يكون بكل أريحية وطلاقة تشعر معها أنك تعرف هذا الشخص منذ فترة. هناك تمايز حتى في طبيعة اللهجة "الأمريكية" في قبال اللهجة "البريطانية"، في حين تُعتبر اللهجة البريطانية لهجة متغطرسة متكبرة، على عكس اللهجة الأمريكية السهلة! كان ذلك انطباعي في تلك الفترة، وفترة أسبوعين قد لا تكون كافية لتشكيل صورة دقيقة عن المجتمع البريطاني.


لم يكن الجو سيئًا طوال فترة الأسبوعين، ولكن صادف أن هطل الثلج الكثيف على إثر عاصفة ثلجية تم خلالها إغلاق جميع المحلات، لكنها لم تستمر العاصفة لأكثر من يومين.

كانت تدرس مع أختي صديقة لها ابن صغير لا يتعدى عمره السنتين وبرفقتهما أخيها، محمد، الذي كان يصغرني بسنة أو سنتين. تكوّنت سريعًا علاقة طيبة مع أخيها فكنّا نخرج معًا ونقضي الأوقات مع بعضنا البعض خصوصًا إذا كانت أخواتنا في الجامعة. في ليلة رأس السنة قررنا، محمد وأنا، أن نقضيها في لندن. جلنا في الشوارع وكنا نتحدث عن كل شيء تقريبًا.. كانت شوارع لندن مكتظة بالناس مبتهجين مخمورين.. وبينما كنا جالسيْن على قارعة الطريق بعد تعب المسير وقد كنّا نتحدث فيما أتذكر عن الفروق الطائفية كون صديقي سني وأنا شيعي، وإذا بشخص مار يقف ويلتفت إلينا ويأتي سريعًا ليسلّم علينا معتذرًا على تطفله ليبدي استنكاره على حديثنا الطائفي. قلتُ له: إن صديقي سني وأنا شيعي ونحن نتحدث بكل أريحية حول هذا الموضوع ولا يشكل لدينا هاجسًا. سألنا من أين؟ فأجبناه. كان المتحدث إلينا عراقيًا صحفيًا يعيش في السويد في زيارة للندن. قضينا كل تلك الليلة نتحدث معه ونحن نتجول في شوارع لندن فقد كان مطلعًا على أوضاع البحرين، وكان الحديث معه شيقًا.. تبادلنا أرقام هواتفنا وتواصلتُ معه بعدها بفترة لم يقدّر لها أن تطول إذ أن الانقطاع كما هو المآل للكثير من العلاقات العابرة..
 

استمتعت كثيرًا بزيارتي لبريطانيا بالرغم من قصر المدة فقد مضت أيام الأسبوعين سريعًا وأطفقتُ راجعًا إلى أمريكا..
 
رجعتُ إلى سكني في مدينة فانكوفر.. في تلك الفترة كان جاري ياسر. وياسر هذا هو أخو رفيقي الذي جئت معه إلى أمريكا. ياسر على النقيض من أخيه الأكبر، فهو هادئ ورزين ولي علاقة طيبة معه. لم تنقطع علاقتي مع أخيه، فهي بين مد وجزر. بالرغم من سوء العلاقة في فترات متقطعة مع رفيقي نظرًا لسوء بعض خصاله، إلا أنه يتمتع أيضًا ببعض الخصال الجيدة. الطريف أنه ذات مرة كنتُ زائرًا بعض الشباب الإماراتي، وقد كان بينهم رفيقي وكانت علاقتنا حينها في حالة جزر، وقد أطلق لحيته للعنان. وبينما الشباب يتسامرون ويضحكون، وإذا به يريد أن يفتح موضوعًا للنقاش للاستفادة عوضًا عن هدر الوقت في السمر والضحك.. كان موضوعه عن الجنة وأبوابها وأسمائها. كان تأثير الشباب السلفي عليه واضحًا، لكن في قرارة نفسي كنتُ أعلم أن حالته هذه لن تدوم. 

كان يسكن في الطابق العلوي في سكننا إيراني من الإمارات اسمه علي، ونطلق عليه "علي سلسل" والسبب أنه في أحد الأيام أثناء إعداده لوجبة الطعام ذهب إلى ياسر ليسأله عن علبة طماطم "صلصل". وكان يسكن في نفس سكننا أيضًا وصفي (القطيف)، وفي سكن قريب نبيل وحاتم (القطيف). أما طلال وهو من البحرين فقد تعرفتُ عليه في مدينة "سيلم" وكان حينها يسكن في إحدى المُدن القريبة من بورتلاند "كورفلاس" وهي تبعد حوالي ساعة من بورتلاند، وقد أبدى استعداده في أول لقاء به للانتقال إلى مدينتنا.. انتقل إلى فانكوفر وسكن مع إيراني (علي رضا) في سكن يبعد حوالي العشر دقائق عن سكننا. كنّا في أكثر الأحيان نطبخ وتناول الطعام مع بعضنا البعض.
 
ذات مرة كنتُ في شقة ياسر، وقد أراد أن يحدثني في موضوع هام عن أخيه. قدّم إلي شهادة أخيه، وقال انظر ماذا يفعل أخي! مع أنه كان دراسيًا يسبقني بعام، إلا أنه لم ينه مواد الدراسة المقررة، والمواد التي درسها لم ينجح في أغلبها، وقد درس بعض المواد التي لا علاقة لها بتخصصه التجاري كالخياطة مثلًا. وكان يسكن مع أمريكية لديها أطفال، وقد كان ياسر متخوفًا من أن يتزوجها. أراد مني المشورة فأشرتُ عليه أن يتصل بأبيه في الحال ويخبره بوضع أخيه. فصارحني ياسر بأن أباه يعزّ أخيه الأكبر ولا يمكن أن يصدقه في خبر كهذا. أراد مني الاتصال بأبيه، فوافقتُ في الحال. كلمتُ الأب وأخبرته عن وضع ابنه، وشعرتُ حينها أن الأب أصيب بصدمة وخيبة أمل. قرر الأب أن يزورنا ليطّلع على وضع ابنه، خصوصًا فيما يتعلق بعلاقته مع المرأة الأمريكية. 

بمجرد أن جاء أبو نبيل إلى أمريكا ورأى الشقة التي يسكنها ولده ياسر قرر أن ينتقل بأبنائه إلى شقة أكثر رقيًا، وهو نفس السكن الذي يسكن فيه طلال. كان الحاج أبو نبيل دائمًا يدعوني لزيارتهم، وكنتُ أرتاح كثيرًا للاستماع لقصصه وأحاديثه. كنتُ بمجرد أن أدخل الشقة عندهم، يقوم الحاج أبو نبيل بإعداد شاي الحليب الممزوج بالهيل. نتحدث كثيرًا عن الحرب، وأوضاع البحرين وغيرها من الأمور التي كشفت جانبًا من شخصية أبي نبيل لم أكن أعرفه من قبل بالرغم من معرفتي به منذ نعومة أظفاري. تعرّفتُ أيضًا على الكثير من الأمور عن والدي من خلال القصص التي ذكرها أبو نبيل عنه. في تلك الفترة وبالتحديد في مارس 1991 انتشر فيديو قام بتصويره أحد الأمريكان لأربعة من رجال شرطة لوس أنجلوس (البيض) وهم يضربون رجلًا أسودًا بكل وحشية..


العنصرية ضد السود في أمريكا مرت بمراحل عديدة بداية باستعبادهم عندما جيء بهم من أفريقيا، حتى تحريرهم على يد الرئيس الأمريكي أبراهام لنكولن لتبدأ بعدها الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب والتي امتدت لأربعة سنوات راح ضحيتها أكثر من ستمائة ألف قتيل لتتبع بقتل الرئيس الأمريكي لنكولن، ثم تاريخ مرير من الانفصال حتى نهضة الحقوق المدنية في الستينات من القرن السابق. كان المنظر بشعًا، أربعة من رجال الشرطة البيض وهم ينهالون ضربًا وركلًا لسائق سيارة أسود اسمه رودني كنج.


أخذت هذه القضية صيتًا كبيرًا في وسائل الإعلام، وقد تم رفع قضية على شرطة لوس أنجلس وعلى الشرطة المتهمين الأربعة، واستمرت المحاكمة لمدة عام واحد.. سأستعرض أحداث نتائج المحاكمة في الحلقات القادمة. كان أبو نبيل يتابع الحادثة وأخبار الحرب والكثير من الأمور التي فتحت لي معه الكثير من النقاشات والأحاديث الممتعة.

اكتشفتُ أيضًا طبيعية العلاقة بين أبي نبيل وبين ولديه، فبالرغم من كون الابن الأكبر طائشًا، إلا أن أبا نبيل يحبه كثيرًا، في حين لا يكاد يشتهي ياسر مع كونه هادئًا. لم يكن ابنه الأكبر راغبًا في إكمال الدراسة، لكن أمل والده فيه كان كبيرًا. كنتُ أتحدث مع أبي نبيل ذات مرة وقد أخبرني بوعد ابنه أن ينتبه لدراسته وأنه سيقوم بتحسين وضعه والكثير من الوعود التي أعطاه الابن لأبيه، وكنتُ أقرأ في نظراته الأمل مع الوجل.. كان يطمح أن يرى ولده وقد حاز على شهادة البكالوريوس. لم يستمر الابن الأكبر في إكمال دراسته، وقد قرر أن يرجع إلى البحرين، ولا أتذكر إن رجع مع أبيه في تلك الزيارة أم بعد ذلك. انتهت فترة زيارة الحاج أبي نبيل وقد تركت أجمل الذكريات عندي، ولكن زيارته لأمريكا لم تكن الأخيرة إذ بعد فترة حدث حادث استدعاه أن يهرع عن بكرة أبيه لينقذ ابنه الأصغر من سجن محتم!
 
 
يتبع في الحلقة القادمة..

 
28 مارس 2015

الشُيُوعِيَّةُ، وإنْ غَابَ أو (غُيِّبَ) رَسْمُها (22) - "رُؤى من القرآن والعترة (3) / الإسلًامُ، ومسألة العنف" // محمد علي العلوي


• في البدء إشارة:
أشير إلى أنَّ المشروع القرآني مشروعٌ ضخم، وفي ضخامته الكثير من التفريعات والدقائق، وإنَّني لأجِدُ صعوبة في توزيع الأفكار على مقالات متتالية، وفي نفس الوقت فإنَّ المقال الواحد لا يحتمل تطويلًا أكثر ممَّا هو عليه، ولذا، أطلب من القارئ الكريم الانتظار حتى اكتمال الصورة في المقال الأخير مع ملخص على نحو الفهرسة التفصيلية.
__________________________________________________

اضطربت الأحوالُ السياسيَّةُ في المدينة المنورة بعد رحيل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقد وصل الاضطراب إلى دار السيدة الزهراء (عليها السلام)، التي هجمت عليها بعضُ الأطراف السياسيَّة لأخذ البيعة من أمير المؤمنين (عليه السلام)، وعندَّما أظهر رفضه، أُخِذَ من الدار ملبَّبًا إلى مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وفي هذه اللحظة خرجت السيِّدةُ الزهراءُ (عليها السلام) رافِعَةً فؤادها الطاهر بالدُّعاء على القوم.
 
ينقل الشيخُ المفيدُ (قُدِّسَ سِرُّه) في كتابه الاختصاص إنَّها (عليها السلام) قالت للرَّجلين: "لئن لم تكفَّا عنه، لأنشرنَّ شعري، ولأشقنَّ جيبي، ولأتينَّ قبر أبي، ولأصيحنَّ إلى ربِّي.
فخرجت، وأخذت بيد الحسن والحسين (عليهما السلام) متوجِّهَة إلى القبر (قبر الرسول صلى الله عليه وآله)، فقال عليٌّ (عليه السلام) لسلمان: يا سلمان، أدركْ ابنة محمد (صلى الله عليه وآله)، فإنِّي أرى جنبَّتي المدينة تكفآن، فوالله لئِن فعلتْ لا يناظر بالمدينة أن يخسف بها وبمن فيها.
 
قال: فلحقها سلمان فقال: يا بنتَّ محمد (صلى الله عليه وآله)، إنَّ الله تبارك وتعالى إنَّما بعث أباك رحمةً، فانصرفي.
فقالت: يا سلمان، ما عليَّ صبرٌ، فدعني حتَّى آتي قبر أبي، فأصيح إلى ربي.
قال سلمان: فإنَّ عليًّا بعثني إليك وأمرك بالرجوع.
فقالت: أسمعُ له وأطيعُ. فرجعت." (الاختصاص، للشيخ المفيد/ ص184).
 
يذهبُ الشِيعةُ إلى أنَّ الخِلافَةَ مِن بعد رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) حَقٌّ خالِصٌ من الله عزَّ وجلَّ لعليِّ بن أبي طالب (عليه السلام)، ومن الواضح إنَّها ليست مجرد منصب رسميٍّ في الدولة السياسيَّة، ولكِنَّها هنا راجعة لمفهوم (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)، فالقضيَّة قضيَّة حقٍّ وباطل، وهذا بالإضافة إلى ما نزل بأهل البيت (عليهم السلام) من ظلم وغصب للحقوق، ومنها أرض فدك التي كانت تُشَكِّلُ رافِدًا ماليًّا ضخمًا قد أشار إلى حجمه السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) في كتابه: فدك في التاريخ/ ص30.
 
إذن.. غصبُ الخِلافة الإلهية، والغصب المالي والتسلط الاقتصادي، والظلم المباشر وبأشكال مختلفة.
 
ولكِن، هناك بُعْدٌ آخر، غلَّبه أميرُ المؤمنين (عليه السلام) على هذه العناوين الثلاثة (إنَّ الله تبارك وتعالى إنَّما بعث أباك رحمةً)!
 
ماذا لو دعت فاطمةُ (عليها السلام)؟
ماذا لو شهر عليٌّ (عليه السلام) سيفه؟
ماذا لو حشَّدَ ضِدَّ السقيفة؟
لِمَ لم يفعل كلَّ ذلك؟ ولِمَ ترك الدفاع عن حَقِّه في الخلافة وحقِّ زوجته في فدك؟
ألم يكن سيَّدُ البلغاء قادرًا على قلب المعادلات بخطبَةٍ جماهيريَّة يوجِّهُ بها العقول كيفما يشاء؟

فلندقِّق جيِّدًا..
يميلُ الإنسانُ إلى الدِعة والراحة، ويُحِبُّ الأمنَ والسلامَ، ولذلك هو يجلس وينام ويتوقَّف ويتأمَّل ويفكِّر ويتبسم، وما إلى ذلك من أمارات تشير إلى طبيعته وحقيقة تركيبه النفسي.
تتغيَّر مظاهر هذه الطبيعة بمجرَّد عروض التوترات أو مقدماتها أو ما يختلقها، فلا يتمكن المعروض من الجلوس ولا النوم ولا التوقُّف إلا من بعد تعب وإنهاك، ولا التفكير الهادئ ولا التَّبسم إلَّا تصنُّعًا.
 
فلنلاحظ هذه الآية المباركة:
(وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا)..
(وَاسْتَفْزِزْ).. أي: أخرج من استطعت منهم عن حالته الطبيعية، ومارس في ذلك مختلف الوسائل والطرق من الصوت وإثارة الجَلَبَة، وحوِّل طبيعية طلب العيش بالمال والأولاد إلى شهوات وأمنيات واغترار بما في اليد وما يمكن لليد إصابته، وإلَّا فإنَّ الحاكمية مطلقة لحسن التقويم (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)، وبآية الاستفزاز يتبين لنا معنى قوله تعالى (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ)، وأمَّا من لا يستجيب لاستفزازات الشيطان فهو في (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ).
 
ينبغي الالتفات بشكل دقيق إلى الإطلاقات في الآيات الكريمة:
(في أحسن تقويم) مطلقةٌ في الوجود الإنساني، و(الاستفزاز الشيطاني) مطلقٌ في معاش الإنسان، وبالتالي فإنَّ كون هذه القضايا مطلقة، تتقدَّم كبرى في القياس، فتقاس عليها مختلف الأبعاد في حياة الإنسان، من سياسية واقتصادية وتربوية واجتماعية وغير ذلك، فتدخل الطرحة الماركسية لننتهي إلى أنَّ التحريك نحو الصراع الطبقي لمجرد الحضور الطبقي، لا يمكن إلَّا أن يكون تحريكًا استفزازيًّا شيطانيًا. فتأمل جيِّدًا.
 
• الحقُّ والقيمة:
لا شك في أنَّ حقَّ الدفاع عن النفس مكفولٌ بميزان العقل؛ إذ إنَّه ليس من المعقول أن يتعرض إنسانٌ للقتل - مثلًا - فلا يدافع عن نفسه، ولكِنَّ هذا الأمر مقيَّدٌ بعدم وجود ما هو أهمُّ من النفس، ومن جهة أخرى فإنَّ القتل ظلمًا لا يسوِّغ في مقام الدفاع عن النفس الوصول إلى حدِّ القتل، إلَّا إذا انحصرت الخيارات فيه، فلا يتمكَّن من دفعه عن نفسه المهدَّدة بالإزهاق إلا بقتله.
 
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
 
ولو إنَّنا نرفع قوله تعالى (إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)، و(إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ)، لما كان هناك مُبرِّرٌ لتراجع هابيل عن حقِّ الدفاع عن نفسه، ولكِنَّ القبول بالأمر كان في قبال ثلاثة أمور رئيسية:
 
1- المحافظة على (قيمة) الأخوة من جهة والإنسانية من جهة أخرى (ابْنَيْ آدَمَ).
2- التقوى، والخوف من كون هذا الدفاع عن النفس يستند إلى حُبِّ الدنيا وشهواتها (إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ).
3- اليقين بأنَّ ما يجري في هذه الحياة الدنيا إنَّما هو تقرير يُكتب ليُعرض يوم القيامة فيكون الجزاء الحقيقي (وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ).
 
ليس من المتصور أن يكون هابيل جامِدًا مستسلمًا لقابيل وهو يقتله، ولكِنَّ الذي ينبغي لنا استيعابه جيِّدًا، وتغليبه كثقافة قرآنية حقَّه، هو إنَّ دفاع هابيل عن نفسه لم يكن ليصل لحدِّ القتل، فعدم البسط كان في قبال البسط، وهذا واضح بأدنى تأمل في أنَّ هابيل كان متوقِّعًا لنية قابيل، وقد صرَّح بأنَّ الأمر وإن وصل إلى حدِّ القتل، فأنَّ ردَّ الفعل وحتى لو كان في مقام الدفاع عن النفس لن يصل إلى المثل؛ فالخطُّ الدقيق الفاصل بين القرارين (قرار بسط اليد بالمثل من عدمه) خطُّ قيم ومبادئ وإرث سوف يتركه كلاهما لأجيال بشريَّة متعاقبة تأتي من بعدهما.
 
حتى نتمكن من استيعاب مثل هذه المواقف، فإنَّنا في حاجة لمراجعة المنظومة الثقافية التي تُشَكِّلُ شخصياتنا أفرادًا ومجتمعات، ومن المُصحِّحات قول هابيل بما يحكيه عنه الله تعالى في نفس الآية الكريمة (إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ)، والمعنى هو إنَّ الردَّ والانتقام قد يُوكَلُ إلى مقام غير مقام هذه الدنيا وعمَّارها من الآدميين، ولذلك نجد خاتمة العمل الرسالي النبوي القويم جوابًا من الله تعالى للظالمين والمتعالين، ولا يتدخل فيه الأنبياء والمرسلون.
 
- تنبيه: سوف يأتي مقال خاص لمناقشة الوظائف الرسالية للمؤمن من جهة، وما يختص به الله تعالى من جهة أخرى.
 
وهنا مثال آخر..
إنَّه وبالرغم من الأذى العظيم الذي لاقاه نوحٌ (عليه السلام) من قومه، وعلى مدى قرون من الزمن، إلَّا إنَّه التزم الدعوة بشتى الوسائل والطرق (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا * مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا * وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا *ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا *لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا).
 
وبعد أن مارس معهم الدعوة بوسائل وأنماط مختلفة، ولقرون متمادية، فهو لم يضق حالًا بما كان، ولكِنَّه خشي على الإنسانية من مثل هذه الثقافات المتصلِّبة، فقال (عليه السلام) بما يحكي عنه الله تعالى (وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا).
 
إنَّه دعاء بالإبادة، وهي مما يختص به المولى سبحانه وتعالى، ولا يصح لإنسان أن يأخذ مكان الله العزيز الجبار في مثل هذه القضايا التي تمسُّ الأرواح، وهذا ما سوف يأتي بيانه في المقال الذي وعدتُّ به.
 
هكذا كانت السيرة المسدَّدة للأنبياء والأئمة (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، كُلُّها في اتجاه إبطال استنكار الملائكة (قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ)، فهم بهذا المنهج يقفون في قبال الإفساد وسفك الدماء، فتكون البشرية بأكملها في قسمين اثنين، الأول منهما (مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء)، وأمَّا ثانيهما فهو (قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ).
 
في مقام إبطال الإنكار الملائكي والاحتجاج عليه، فإنَّ الردَّ يجب أن يكون مقابِلًا أو موجِّهًا لما احتُجَّ به في مقام الإنكار، وقد أظهرت النصوص القرآنية التباعد الكبير بين الخطِّ الرسالي للأنبياء وبين استعمال القوة من أجل هذه الدنيا وما فيها، بل كان التأكيد على إنَّ القوة خيار النهاية، كالكي في العلاج.
 
• مشكلة في البين:
نعاني في عموم مجتمعاتنا من الانفلات الذهني من الأقصى إلى الأقصى المقابل، فعندما يَرِدُ طرحٌ لا يتوافق مع ظاهرة أو فهم أو توجُّهٍ معين، فإنَّ بعض الأذهان تذهب مباشرة لتوجيه هذا الطرح توجيه النقيض المقابل، وهذا خطأ ثقافي أدَّى بنا إلى الكثير من الأزمات والصراعات.
 
عندما يقول الإسلام بالسلميَّة والسلام ونبذ العنف، فذلك لا يعني الاستسلام والخنوع، وليس هو تكريس للضعف والمهانة.
 
يُقِرُّ الإسلام حملَ السِلاح ومواجهة الأعداء، ويأمر بإرهابهم المفضي لتعظيم المجتمع المسلم وعدم استصغاره (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ)، كما وإنَّه يحِثُّ المؤمنين على الاهتمام بالبناء الجسدي، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "علِّموا أولادكم السِباحة والرِماية" (الكافي للشيخ الكليني ج6 ص46).
 
الكلام في هذا المقال حول الأصول التي لا ينبغي أن تُغادَر إلَّا بِأدِلَّةٍ تُشَرِّعُ مُغادرتها لعناوين المواجهة ورَدِّ الحجر من حيث أتى؛ إذ إنَّه في الكثير من الموارد تلتبس الأمور فتُغادَر الأصول بلا حُجَّة شرعية تبرأ بها الذِمَّة أمام الله تعالى، وفي مثال الحجر ورَدِّه يأتي قول الله تعالى (وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ)، وأيضًا (أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ).
 
وهذا لا يعارض على الإطلاق قوله تعالى (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّواْ إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُواْ فِيهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا)، ولا يعارض قوله عزَّ وجلَّ (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ).
 
الإسلام حارب في بدر، وصالح في الحديبيَّة.. والإسلام صالح معاوية على شروط، وقاتل يزيد في كربلاء.. والإسلام قال لابن معاوية: "مثلي لا يبايع مثلك"، وقبل بولاية العهد في حكم المأمون العباسي..
 
يُرَكِّزُ الإسلامُ ويوجِّه اهتمامات المؤمنين للحكمة وتحصيل مقدِّماتها، للتَّمكُنِ من التشخيص الدقيق للموضوعات، ولذلك قال تعالى (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ)، فليس الأمس كاليوم، وقد يكون الموقف السابق غير نافع في موضع آخر، وإن تشابهت الظروف بحسب النظر القاصر، فإنَّ عنوانًا غير ملحوظ يطرأ، فتتغير المعادلة، ومن هنا كانت الوصيَّة بالاحتياط شديدة، خصوصًا في الدماء.
 
وعلى أيَّة حال، فإنَّ موضوع القوة والمواجهة يأتي في مقالات قادمة إن شاء الله تعالى.
 
نرجع إلى التأصيل، وأضع هنا مجموعة من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة في السلم وفي العفو والصفح:
 
- قال تعالى: (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
- وقال تبارك ذكره: (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً).
- وقال سبحانه: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ).
 
وفي آية من الآيات الثقافية الفكرية المتقدِّمة والمخالفة لجوهر الثقافات السائدة في المجتمعات البشرية، يقول الله تعالى (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).
 
فبالرغم من جرائمهم المتكَرِّرة والواضحة والمتعدِّية، إلَّا إنَّ الله سبحانه يرفض الإطلاق والتعميم، ويأمر رسوله الأكرم (صلى الله عليه وآله) بالعفو والصفح.
- ويقول أبو جعفر الباقر (عليه السلام): "إنَّ الله رفيقٌ يُحِبُّ الرِفقَ، ويُعطي على الرِفق ما لا يُعطي على العنف" (وسائل الشيعة ج15 ص269).
- وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "من زي الإيمان الفقه، ومن زي الفقه الحلم، ومن زي الحلم الرفق، ومن زي الرفق اللين، ومن زي اللين السهولة" (وسائل الشيعة ج12 ص159).
- وعن أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: سمعته يقول: "إذا كان يوم القيامة جمع الله تبارك وتعالى الأوّلين والآخرين في صعيد واحد ثمّ ينادي مناد: أين أهل الفضل، قال: فيقوم عنق من الناس فتلقاهم الملائكة فيقولون: وما كان فضلكم، فيقولون: كنّا نصل من قطعنا ونعطي من حرمنا ونعفو عمّن ظلمنا، قال: فيقال لهم: صدقتم ادخلوا الجنّة" (الكافي ج2 ص107).
 
هذا، والنصوص التي تؤصِّل للسلم والصفح والعفو أكثر من أن يحصيها هذا المقال، فالشريعة السمحاء ترى - بحسب فهمي القاصر - القوة الحقيقيَّة إنَّما هي في قدرة الإنسان على ضبط نفسه ولجمها عن الانجراف في يتارات الضِدِّ والتأليب، وهذا ممتدٌّ من الداخل الإيماني إلى الخارج في التعامل مع العدوِّ، وهو ما يحتاج إلى تأمُّل وتدبُّر كبيرين.
 
• أمران:
أولًا: في الوقت الذي تؤسِّس فيه الثقافة الشيوعيَّة إلى المواجهة على طول الخط وبنمط واحد هو نمط العنف و(الثورات)، فإنَّ الإسلام يركِّز على تجنُّب الإنشغال بغير البناء الداخلي للمجتمع المؤمن، عقائديًّا وفقهيًّا وأخلاقيًّا، ويُصِرُّ على أهمِّية التجاوز عن الآخر ما كانت فسحةٌ.
ثانيًا: تذهب ثقافات المواجهة إلى ضرورة التسلح لممارسة الانقلابات والتخلص من الآخر، عدوًّا كان أو صديقًا غير موافق، وذلك تحت مسميات الانبطاح والتخاذل والجُبن وما نحوها، وأمَّا الإسلام فيريد القوة للمجتمع المؤمن، ولكِن لإرهاب العدو والمحافظة على كيانه من أطماع الطامعين، وهذه مرحلة مترتبة على الوجودين الثقافي والفكري أخلاقًا وعقيدة وفقهًا، وإلَّا فالقوة مع ضعف هذه الدعامات الأساسية تحوِّلُ العقل إلى شيطنة مدمِّرة كما هو حال الأقوياء اليوم.
 
• وفي الختام..
حتَّى نتمكَّن من الانتِّقال مع أفكار المقالات القادِمة، فإنَّي أطلبُ من القارئ الكريم تدبُّر هذا المقال تدبُّر دراسة وتتبع.
 
ويبقى سؤالان أطرحهُما الآن وفي خاتِمَة كل حلقة من حلقات هذه السلسلة:
 
بأيِّ عينٍ وثقافةٍ ونَفْسِيَّةٍ ورُوحيَّةٍ نقرأ كتابَ الله المجيد وأحاديثَ المعصومين (عليهم السلام)؟
 
هل نحن على الطريق الصحيح أو أنَّنا في حاجة إلى مراجعات عاجلة وجادَّة جِدًّا؟
 
 
نلتقي في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى..
 
 
28 مارس 2015

فلنكتب.. مقالك بداخلك // أم حسين

 

وقلمي بين يدي أخط كلماتي..
تلك هي أفضل حالاتي،
فمن أوسع من الورق صدرًا؟!
ومن أقرب من القلم صاحبًا؟!
ومن أفضل من الكلمات لتفهم مشاعرك وتصفها؟
 
تربطني بكلماتي علاقة أعمق من كونها مجرَّد تعابير عمَّا تختلج به نفسي وما يجول في فكري، وما تلك إلا مظاهر عبرت عن جزء يسكن داخلي كان ضوؤه خافتًا فسلطت إضاءة عليه..
هي ليست مجرد كلمات.
 
سمعتُ أحدهم يقول: "كلُّ فرد لديه القدرة على كتابة مقال".
أتفق مع هذه المقولة، بشرط توفر مخزونٍ من المعلومات والمفردات العلمية، والمعرفة بأسلوب الكتابة بما يُمكِّن الفرد من كتابة مقال.
 
ولكن ما الذي قد يدفع الإنسان إلى الكتابة!!؟
 
في رأيي المتواضع، إن لم تكن الكتابة مهنة لدى الإنسان، فليس هناك أقوى من دافع الإنسانية المنتِّجة لحسِّ المسؤولية اتجاه الآخرين دافعًا على الكتابة.
 
قطعة نثرية محدودة في طولها، تتَّسم بالأصالة والتعبير عن الذات و تقدم لقارئها فكرة، أو موضوعًا، أو قضية جديرة بالمناقشة تحمل بين  طياتها الإمتاع المقنع، وتكون عباراتها منتقاة وواضحة، وتتَّسم بخفة الروح و دقة الملاحظة.. ذلك هو المقال.
 
وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أنَّ عنوان المقال يعتبر من أساسيات البناء المقالي، فينبغي أن يكون مناسبًا جذَّابًا، وقد يكون في كثير من الأحيان هو المفتاح الأهم للفكرة المقالية.
 
وأمَّا المقدمة فهي لخلق حالة شعورية تُعبِّد الطريق وتفتح أبواب العقل لاستقبال ما سيُطرح في صلب الموضوع، ومن الأهميَّة بمكان أن ندرك القيمة العلمية للمقدمة، فهي ليست مجرد كلمات تصاغ قبل الموضوع، بل هي الفقرة التي من المفترض أن تكون جامعة لجوهر الفكرة المقالية بما يهيء القارئ لما هو بصدده من أفكار.
 
المقدمة فنٌّ ومهارةٌ، كلَّما أتقنها الكاتب، كلَّما تاقت لكتاباته العقول الواعية..
 
ولا تفوتني الإشارة إلى ما لعلامات الترقيم من أهميَّة بالغة لا تقل عن حروف المقال وكلماته، فهي ذات دلالات علمية مثلها مثل الحروف والكلمات.
 
كلُّ ذلك قد يثمر مقالًا جميلًا، ولكنَّه قد لا يكون مفيدًا ما لم تكن روح الكاتب حاضرة فيه، فعندما يغيب الانفعال الوجداني تغيب روح الكلمة، فتصبح ميتة  فهي لا تمثل جزءًا من النفس، فحين تكون روح الكاتب حاضرة تنساب الكلمات كشلَّال ماء ينساب على الصخور فيخلق جداول ومسارات.
 
ومن تلك العلاقة العميقة يستشعر الكاتب مسؤولية كلمته..
 
قد تفقد كلمات المقال روح كاتبها، فتتحول إلى مجرد خطوط ورسومات!
فكرت في أسباب ذلك، ووقفت على بعضها، فقد يكون السبب هو:
 
- الحالة النفسية: فهي مهمَّة جدًا في تعزيز علاقة الكاتب بقلمه وكلماته.

- ضعف المخزون العلمي: فالقراءة المتجددة والمستمرة، وذات التتبع الواعي لكل ما يحيط بالمعلومة، تنعكس في المقال روحًا متألِّقة.

- ضعف التواصل مع المجتمع: فالتواصل الدائم مصنع للأفكار.

- زاوية النظر: إنَّ لتغيير زوايا النظر للأمور ومحاولة التحليل بخلق تساؤلات الدور الأكبر في شمولية النظرة وحياة العقل.

-الروتين: فهو يقتل التفاعل مع الأمور.

- التأمل والهدوء: وهذه وصيَّة قرآنية معروفة.

- تأثير الأشخاص المحيطين: فالمرء يُعرف بخليله.

عقولنا تولِّد أفكارًا، وعلينا أن نهب أفكارنا روحًا فتحيا ونحيا، وإن ماتت أجسادنا.
 
 
28 مارس 2015
 

جدّد حياتك بالتفاؤل // أم علي

 
 
التفاؤل شعور ينبع من أعماق النفس بالرضا والثقة الكاملة بحسن الظن بالله عز وجل، وقوة تتحول إلى راحة نفسية وجسدية، وسيطرة كاملة على مشاعر وأفكار متعبة، وهو نظرة إيجابية عندما توصد الأبواب، وتنهار الأماني. 

إن الإنسان المتفائل سعيدٌ في حياته، متوكل على ربه، طموح ومبادر لكل ما هو خير ورائع وجميلٍ فيرسم سعادته وسعادة الآخرين. والسعادة التي يخبئها الله لنا تختبئ دائمًا بينَ طياتِ حزن عمِيق أو ُكرب شديد لا تتطلب عناء بحث، بقدر ما تتطلب ثقة كاملة وصَبر جميل. والصبر الجميل هو أن تجعل شكواك لله. ويؤكد ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم "وإذا استعنت فاستعن بالله".

وديننا الحنيف يدعونا إلى التفاؤل وليس إلى التشاؤم واستباق الأمور التشاؤمية وليس إلى سوء الظن بالله. ولا يجوز لمسلم بصير بأمر دينه أن يستسلم للتشاؤم ويمَكِّنَه من قلبه وكيف يرضى المسلمون الصادقون الواعون ذلك لأنفسهم، وهم يقرؤون قولَ ربّهم عزّ وجلّ: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ)(يوسف/87). يقال في تفسير هذه الآية الكريمة: يقول تعالى مخبرًا عن يعقوب على نبينا وعليه أفضل السلام أنه ندب بنيه على الذهاب في الأرض يستعلمون أخبار يوسف وأخيه بنيامين، والتحسس يكون في الخير، والتجسس يكون في الشر، ونهضهم وبشرهم وأمرهم أن لا ييأسوا من روح اللّه أي لا يقطعوا رجاءهم وأملهم من اللّه فيما يرونه ويقصدونه فإنه لا يقطع الرجاء ولا ييأس من روح اللّه إلا القوم الكافرون، ويقال في قول الله عز وجل "وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ" فإن الرجاء يوجب للعبد السعي والاجتهاد فيما رجاه وأولى ما رجاه العباد هو فضل الله وإحسانه ورحمته وروحه، {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} فإنهم لكفرهم يستبعدون رحمته، ورحمته بعيدة منهم، فلا تتشبهوا بالكافرين. ودل هذا على أنه بحسب إيمان العبد يكون رجاؤه وأمله في رحمة الله.

فكم هو جميلٌ أن نتفاءل عند الملمات
ورائعٌ أن نتفاءل عندما تتوالى علينا النكبات.

هو تشريعُ ربنا عز وجل وهو طوقُ نجاة لأ نفسنا. وقد أمرنا سيدنا ورسولنا صلى الله عليه وآله وسلم بالتفاؤل والأمل، ونبذ التشاؤم.

لا شيء كالأمل والتفاؤل بعد الإيمان يولّد الطّاقة، ويَحْفز الهمم، ويدفع إلى العمل، ويساعد على مواجهة الحاضر، وصنع المستقبل الأفضل. الأمل والتفاؤل قوّة واليأس والتشاؤم ضعف، الأمل والتفاؤل حياة واليأس والتشاؤم موت في مواجهة تحدّيات الحياة، حيث لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس.

النّاس صنفان: يائس متشائم يستبق الأمور التشاؤمية ويسيء الظن بالله و بنفسه وبالآخرين ويواجه تحدّيات الحياة بالهزيمة والهروب والاستسلام، ويصور المستقبل بنظرات سيئة انهزامية، وآمِلٌ متفائل يواجه الحياة بالصبر والكفاح، والشجاعة والإقدام، والضمان والثقة بنصر الله. فما أروع الأمل والتفاؤل، وما أحلاه في القلب. وما أعْوَنَه على مصابرة الشدائد والخطوب، وتحقيق المقاصد والغايات والآمال.

التشاؤم واليأس ثمرة من ثمرات الانهزام والانكسار والخيبة والفشل، وصفة من صفاته. فمن التفاؤل يولد الأمل، ومن الأمل يولد العمل، ومن العمل يولد النجاح. ومهما اختفت من حياتك أمور ظننت أنها سبب سعادتك تأكد أن الله صرفها عنك قبل أن تكون سببًا في تعاستك. إذا تعسرت أمورك، وهاجمتك الهموم والأحزان فثق بالله،  فهو كفيل بتفريج همك، وتيسيرأمورك، وإذا شعرت ببعد الناس عنك أو بوحشة أو غربة، فتذكر قرب الله منك.

يحكي الرواة أنه كان ملك معروف بتشاؤمه وكان له وزير عكسه تمامًا، وكان يستشيره في كل أموره وكان الملك يقربه منه ويصطحبه معه في كل مكان وكان كلما أصاب الملك ما يكدره قال له الوزير "لعله خيرًا" فيهدأ الملك.

في أحد الأيام خرج الملك إلى الصيد ورافقه الوزير وفي هذه الرحلة أصيب الملك في يده واضطر إلى قطع أصبعه وهو متذمر جدًا قال له الوزير لعله خيرًا؟ فغضب الملك غضبًا شديدًا وأمر بحبسه وفي طريقه إلى السجن قال: لعله خيرًا - متفائلًا-. ومرت الأيام، خرج الملك كعادته لممارسة هوايته المفضلة بالصيد وأثناء مطاردته لفريسته ابتعد كثيرًا عن حرسه ولم يدري بنفسه إلا في وسط قبيلة في الأدغال، يمارسون طقوسهم في تقديم قربان إلى الآلهة منتظرين أي شخص غريب يدخل قبيلتهم، وشاء أن يكون الملك؟ فربطوه وبينما هم يستعدون لقتله رأوا اصبعه المقطوع فأمرهم زعيمهم أن يطلقوا سراحه لأن القربان يجب أن يكون شخصًا كاملًا بدون عيب في جسده، وحين عودة الملك أمر بإطلاق سراح وزيره، وروى له قصته وبين له كيف أن اصبعه المقطوع هو الذي نجاه من الموت وأنه عنده حق في كلامه، ولكنه سأله قائلًا: لقد سمعتك تقول وأنت ذاهب إلى السجن لعله خير؟ وهل في السجن خير؟ فرد الوزير: يا أيها الملك لو لم أدخل السجن لكنت معك في رحلة الصيد وأنا ليس في جسمي عيب، لتركك أهل القبيلة ولقدموني أنا بدلًا منك إلى آلهتهم قربانًا.

يقول ديل كارنجي في كتابه "دع القلق وابدأ الحياة" حياتك من صنع أفكارك وذلك أن للإنسان تأثيرًا في أفكاره ومشاعره وسلوكياته حيث أن من أسرار النفس إذا راودتها أفكار سعيدة أصبحت سعيدة سليمة معافية، وإذا سيطرت عليها أفكار التعاسة غدت شقية وتعيسة.

لذلك إذا تملكتنا أفكار الخوف أوالمرض فغالبًا سوف نصير مرضى أو جبناء نشعر بالذلة. وإذا فكرنا في الإخفاق استولى علينا الفشل سريعًا، وإذا دأبنا نتحدث عن متاعبنا ونندب حظنا، ونرثي لأنفسنا فسوف يهجرنا الناس ويتجنبون صحبتنا، فكل واحد عنده ما يكفيه من المتاعب والمشكلات، لذلك، المتشائم يلعن الرياح و المتفائل يتوقع أن تكون سببًا فى تغيرالحال الراكد بينما الواقعي يضبط الشراع على وجهته. يقول ويليام آرثر وارد المتفائل هو مسافر بلا رحلة يرحل من اللامكان إلى السعادة.

نرى أن التشاؤم يفضي إلى الضعف بينما المتفائل يقود نفسه إلى راحة البال ويقود نفسه إلى القوة والنجاح. فعندما تكن متفائلًا فكل شىء ممكن. والمتفائل يرى أن أكثر المصائب في أغلب الأحيان ماهي إلا نعم مستترة. وهذا ما يؤكده قول الحق "وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شرٌ لكم".

يقول أحد المفكرين أجمل وأروع هندسة في العالم أن تبني جسرًا من الأمل على نهر من اليأس.

لماذا التشاؤم في كل صغيرة وكبيرة ولماذا الخوف إذا سيطرت عليك الهموم وأنت ترى الشمس لا تظلم في ناحية إلا و تضيء في ناحية أخرى؟ إذا فقدت مالك فقد ضاع منك شيء له قيمة، وإذا فقدت شرفك فقد ضاع منك شىء لا يقدر بقيمة، أما إذا فقدت الأمل فقد ضاع منك كل شيء. ليس المحزن أن يموت الإنسان، ولكن المحزن أن يموت ما بداخله.

يقول ويليام جيمس لا يجب أن ندع مخاوفنا تمنعنا من تحقيق أمانينا.

تأكد أيها المتشاؤم أنه عندما يغلق فى وجهك بابٌ، يجب أن تفتح باباً آخر. الغ كلمة مستحيل من قاموس حياتك. هي كلمة موجودة فقط في قاموس المغفلين والكسالى. ولا تذرف الدموع إذا ذهبت الشمس، فدموعك ستحجب عنك رؤية النجوم، وتأكد أنه عندما يغلق الله سبحانه وتعالى أمامنا بابًا ذلك لكي يفتح لنا بابًا آخرًا أفضل منه، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.

ولكن معظم الناس يضيع تركيزه ووقته و طاقته في النظر إلى الباب الذي أغلق، بدلًا من باب الأمل الذي انفتح أمامه على مصراعيه فالأمل تلك النافذة الصغيرة التي مهما صغر حجمها إلا أنها تفتح آفاقًا واسعة في الحياة.


28 مارس 2015

العرض السايب.. يُعَلِّم السرقة // إيمان الحبيشي


 
مثل متداول يردده المصريون وربما غيرهم؛ "المال السايب يُعَلِّم السرقة" ويقال هذا المثل حين يُراد توجيه الإنسان، ليحفظ أمواله مثلًا، أو لتحذيره من مغبة (التفريط) والإهمال، ربما بشكل عام وفي كل الأمور.

"السايب" كلمة دارجة تعني المُهمَل، فعندما تُهمِل حفظ ورعاية أموالك، فقد يسرقها المتربصون. بل أكثر من ذلك، فقد تتفتح الشهية نتيجة عملية الإهمال تلك، فيسرقها حتى من لا باع لهم في السرقة!

الكثير من قصص الخيانات الزوجية تنتشر بيننا، أكثر من انتشار النار في الهشيم، سَرَّعت عملية انتشارها، حالة الانفتاح التي نعيشها في العالم بأسره، وفي مجتمعنا على وجه الخصوص، عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة. وأجدني أقف عند الكثير من قصص الخيانات الزوجية "من طرف المرأة بتحديد أدق" لأقول؛ كما أنّ المال السايب يُعَلِّم السرقة، فالعرض السايب حتمًا.. يُعَلِّم السرقة أيضًا! 

لست بصدد تحليل نفسية المرأة، وسرعة تأثرها، وعاطفتها الحنونة الناعمة الجياشة، ولا أظن أن هناك من ينكر أُذنها الموسيقية، التي تُطربها الكلمات العذبة، وروحها العَطِشة التي تندفع باتجاه نفوس، تُجيد إحاطتها واحتوائها والاهتمام بها. لكني بصدد لفت النظر لتلك المميزات، التي جُبلت عليها المرأة، لتكون جناح الطيبة والحنان في الأسرة، ليس على مستوى الأمومة فحسب، بل حتى على مستوى البنوة والأخوة، وفي مختلف مواقعها في الحياة، لتكون بجدارة الطرف الأجمل والأحّن والأبرّ في المجتمع.

هناك نوعان من حالات التسيب التي تجعل المرأة - كزوجة - لقمة سائغة للخيانات الزوجية، دون أن أُغفل دورها المتمثل بمدى قوتها أو ضعفها أمام تحديات الحياة والحرمان. فإنني أقول أن للزوج دور كبير بل أساس في تأهيل زوجته، لتكون قوية محصنة قادرة على دفع تحديات العالم الخارجي، البعيد عن أسرتها، القريب جدًا من تحديد مدى استقرار ونجاح العلاقات داخل تلك الأسرة.

حالة التسيب الأولى، يتحمل وزرها زوج جاف مهمل قاس، أما أنه اختار الصمت حوارًا له مع زوجته، أو اختار الغلظة سبيلًا للحوار معها. زوج تعيش معه المرأة حياتها محرومة من جبر خاطرها بكلمة طيبة، قال عنها رسول الرحمة صلى الله عليه وآله بأنها "صدقة" حتى وكأنه يرفض أن يتصدق بطيب القول مع أقرب الناس إليه، وقد قال رب العزة (والأقربون أولى بالمعروف).

زوج يجيد الاستنقاص من قدر زوجته، إما سرًا أو أدهى من ذلك، حين يستنقص من قدرها علانية، أمام أبنائها أو في عموم محيط أسرتها، لتطرب مع أول مبادرة احترام من رجل خارج إطار علاقتها الزوجية!! أو لتتهاوى دفاعاتها مع تكرار مبادرات الاحترام والتقدير والحب وبإلحاح من رجل، قَبِلَ أن يكون الشيطان له وليًا!

* هل يعد إهمال الزوج مبررًا لتخون زوجته عقدًا شرعيًا وعلاقة مقدسة كالزواج؟
قطعًا لا مبرر لحرام الله، لكن الله أقرّ مؤسسة الزواج لتكون سكنًا للزوجين عند بعضهما، ومتى ما تخلَّت تلك المؤسسة عن تحقيق أهدافها، فلا بد أنّ انحرافًا أو خللًا قد يطرأ، يهدد وجودها وأهم أساساتها وهي أساس الإخلاص، لتتهدم أسس تتبعها أسس، وأسفًا لتلك المرأة الطاهرة التي سقطت في وحل الخيانة بسبب حرمان كان ليقيها منه زوج يشعر بمسؤوليته تجاه الله، وتجاه أسرته ومجتمعه، ليكون خير الناس كلهم، ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وآله أن (خيركم خيركم لأهله.. وأنا خيركم لأهلي

ألا يتحمل ذلك الزوج المهمل، وزر زوجته أيضًا كما تتحمل هي وشريكها وزرها؟!

حالة التسيب الثانية، قد تختلف تمامًا عن الحالة الأولى، حتى تكاد تكون نقيضًا لها. فكما أن إهمال الجانب العاطفي والاجتماعي في العلاقة الزوجية، قد يكون سببًا من أسباب الكثير من حالات الخيانات الزوجية، فإن إهمال الجانب التوجيهي والرقابي - وإن توفر الجانب العاطفي والاجتماعي - ليس أقل وطأة منه.

إن زوجًا محبًا واثقًا يحترم زوجته، ويثق في إيمانها وشخصها، مثال حقيقي للزوج الذي تطمح اليه الكثير من النساء، وإنَّ وجود درجة من التوجيه والتقييم والتقويم بين الزوجين، لا تعد أبدًا ناقضًا لحالة الاحترام والثقة تلك، فزوج يقيِّم حجاب زوجته الشرعي، ويدعوها لمراعاته ليس على مستوى القماش الذي تستر به بدنها، بل حتى عبر مراعاة وتنمية وتعزيز جوانب العفة في شخصها، هو زوج صالح حفظ عرضه عن السرقة!

الكثير من الأزواج رجالًا ونساءً يعتقدون أن وضع أسس وحدود للكثير من السلوكيات، ووضع أسس وحدود للكثير من التصرفات، بين الزوجين في علاقتهما معًا، أو علاقتهما بأبنائهما، أو علاقتهما بالمجتمع، انما هو سبيل من سبل الاستنقاص والشك وقلة الاحترام، بينما لا تنتظم حياة عبثية عشوائية، ولا يستغني عن التقييم والتقويم والنصح إنسان إلا معصوم! وأقول آسفة أنّ تَرك الكثير من الرجال للحبل على غاربه في يد زوجاتهم، حمل الكثير منهن، إما جهلًا أو غرورًا أو ضعفًا، لسلسلة من الخيانات الزوجية التي كان من الممكن تحصين الأسرة منها عبر عمليتي (الاكتفاء) و (التوجيه).

فأن يقوم الرجل بكفاية سمع ونظر وقلب وجسد زوجته، عبر تلبية حاجاتها بكل حب وصدق ومسؤولية، ثم قيامه بتوجيه وتقييم وتقويم سلوكياتها، وحفظ أسس وحدود الأسرة بينهما، عاملان مهمان يبعدان كل صاحب قلب مريض ونفس أمارة بالسوء لتلقف عند باب تلك الأسرة حجرًا. إنهما حجران أساسيان وقائيان يحميان الأسرة من أن تتمكن منها أمواج الحاجة العاتية التي قد تلقي بالإنسان لبئر عار سحيق. والوقاية يا سادتي خير من العلاج.

همسة:
إن ألأم الرجال، رجل فتح دار رجل آخر، ليضع يده النتنة على عرضه، فأي نية سليمة يحملها رجل مؤمن، حين يلاحق ببصره ولسانه ويداه امرأة متزوجة وكأن نساء الكون بحلال الله لا يسعونه!


28 مارس 2015

صناعةُ الكذب.. وأكثر // محمود سهلان

 
 
يكبر ابنه فيسمعه يكذب في كلّ شيء، من أصغر الأمور لأكبرها، فيما قد يبرّره له وفي غيره، فيغضب عليه، ويصرخ في وجهه، ويضربه على أيّ مكان من جسمه، فيزيد الأمر تعقيدًا..
 
مهلًا. أيّها السّيّد/ أيّتها السّيّدة: مَن الذي جعل هذا الولد أو تلك الفتاة يفعلان هذا؟
 
تتعدّد الأسباب والمؤثّرات التي تحوِّل الإنسان إلى كذّاب، تلتصق به صفة الكذب، ويُعرف بها، ومن هذه الأسباب ما يربِّي الوالدان أبناءهما عليه، وهي متعدّدة، أذكر منها ما يلي:
 
١/ الخوف من العقاب: فإنّنا نعاقب الأبناء بالصّراخ والضّرب والحرمان وغيرها لأيّ سبب، سواءٌ كان خطأً أم لا، وكان يستحقُّ اتّخاذ إجراءٍ أم لا، فلمجرّد أنّه كثير الحركة نعتبره (شيطانًا)، ولسقوط كأسٍ من يده وتكسّره نعتبره (مجرمًا) مستحقًّا للعقاب، ولأنّه كتب على الجدار لزم ضربه وتأديبه، كلّ ذلك لأنّه كان ولدًا طبيعيًا!!
 
٢/ دروس الأبوين العمليّة: يُدَقُّ جرسُ الباب، ويطلب أحدهم لقاء الأب والحديث معه، ولسببٍ أو لآخرٍ يمتنع الأب عن مقابلته، ولكنْ كيف؟
بكلّ بساطة يطلب من ابنه أنْ يذهب للرّجل الواقف على الباب، ليخبره أنّ والده ليس موجودًا بالمنزل! بعد هذا الدّرس العمليّ وأشباهه، يجد هذا الطّفل أنّ والده تخلّص من أمر أزعجه بسهولة، فيكون هذا الدّرس العمليّ حاضرًا في ذهنه حتّى يكبر، ليلجأ إليه عندَ الحاجة..
 
هناك العديد من الأسباب لصناعة الكذّاب لا محالة، لكنّني اخترت الوقوف على هذين السّببين، لما لهما من أثرٍ كبيرٍ بنفس الطّفل، يصنعه أقرب المقرّبين إليه، فيجعلون هذا الطّفل مليئًا بالعقد النّفسيّة والفكريّة، فيخلقون لديه ثقافاتٍ سيّئةٍ، منها الكذب، وإلّا فإنّها ليست الصّفة الوحيدة التي يكتسبها الطّفل، بسبب هذه التّصرفات السّابقة الذّكر وشبهها.
 
إذا كان ما سبق ذكره صحيحًا، فإنّ تصرّفات الأبوين من أهمّ أسباب كون الطّفل بهذه الحال، سواءً في صغره أو بعد كبره، فيما يتعلّق بهذه الصّفة أو غيرها، فلا ينبغي إغفال ذلك، ولا التّقاعس في فهم حياة الأطفال، ولا في تعلّم طرق تربيتهم. ومن الواضح أيضًا إنْ كان هناك أثرًا سلبيًّا لبعض سلوك الآباء مع وأمام أبنائهم، فدون شكٍّ لبعض سلوكيّاتهم أثرٌ إيجابيٌّ عليهم، فلزم مراعاة ذلك، ومحاولة التّأثير على الأبناء إيجابًا لا سلبًا، بما يتوافق مع الفطرة الإنسانيّة، فيكون كلّ واحدٍ من الأبوين قدوةً حسنةً للطّفل.
 
آمل أنْ أكون قد أعطيت صورةً مقاربةً للواقع الذي نعيشه، وللغفلة التي نحن فيها عن الأسباب التي أوصلتنا إلى هنا، سواءً في الحديث عن الكذب، أو غيره من السّلوكيات والصّفات.
 

٧ جمادى الثاني ١٤٣٦ هـ

الدولة.. ليست هي الوطن // أبو مقداد

 

يقالُ بأن الوطنَ هو الحدود الجغرافية التي تحدّ مكانًا ما، أو المنطقة التي يولد فيها الإنسان، هكذا نتعلمُ منذ الصغر، وقد نلاحظ ولا نلاحظ، أننا منذ الصغر، فإنا نأنسُ لوجود أطفالٍ يشتركون معنا في المرحلة العمرية، ثم نلاحظ ولا نلاحظ أيضًا، حين نسافر لدولة قريبة ونشاهد سيارةٍ بلوحةٍ تعود لبلادنا نلتفت لها وتشد انتباهنا، ومن ثم نلاحظ ولا نلاحظ أيضًا، حين نسافر لدولةٍ أجنبيةٍ ونُصادفُ شخصًا ما يتحدث بلغتنا الأم أننا نود الحديث معه وإخباره بأننا نتحدث بلغته، وثم نلاحظ ولا نلاحظ أيضًا، بأنا نتقرب تلقائيًا ونشعر بالاطمئنان حين نصادفُ مسلمًا ينتمي لعقيدتنا في بلدٍ غير مسلم  وإن لم ينتمِ لبلادنا، أو لم يتكلم بلغتنا!!

نعم، نلاحظ هذه المشتركات وتلفتُ انتباهنا، ولا نلاحظ أنها هي الوطن الذي ننتمي إليه.. الوطن الذي لا يمكننا رسمه على مجرد خارطة؟

لم يلفت انتباهنا لهؤلاء المذكورين أعلاه جوازَ سفرٍ، ولا نشيدًا وطنيًا، ولا عَلَمًا نعتز به، بل هنالك بعض الأمور غير المادية، الأقوى من مجرد جوازٍ نعبرُ به حدود الدول، وأنا أتحدث عن وحدة الهدف والمصير والعدو، وتفاوت مستويات المشتركات بين الأفراد والمجتمعات، ويأتي التفصيل لاحقًا.

الدولة ليست الوطن!

الدولة هي مجموعة أفرادٍ يمارسون نشاطهم على إقليم جغرافي معين، ويخضعون لنظام سياسي معين يتولى شؤونها، وتشرف الدولة على أنشطة سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية وقضائية، وما شابه، والتي تسهم في ازدهازها وتحسين مستوى حياة الأفراد فيها، والدولة هي قسم من التقسيمات الجغرافية التي تقسم العالم.*

فهل الرقعة الجغرافية هي الوطن؟ وهل النظام السياسي هو الوطن؟ وهل حدّ مساحة ما - مهما اختلف حجمها - وإطلاق عليها مسمى دولة، كفيلة بأن تجعل هذه المساحة وطنًا؟!

يقولُ أمير الكلام علي ابن أبي طالب "الفقر في الوطن غربة، والغنى في الغربة وطن".. إشارة لأن معيار الفقر والغنى قد يتدخل في تحديد ما إذا كانت رقعة جغرافية ما تشكل وطنًا للإنسان أم لا. الفقر والغنى في حديث الإمام كانا معيارَيْن، وكذلك في مقدمة المقالِ، فإن اللغة قد تشكل معيارًا آخرًا، كذلك الدين، وكلها تتدخل في أن تكون إما مشتركاتٍ بين الأفراد والمجتمعات أو مقومات فردية تسمح للفرد بالتعايش مع المجتمع، فالوطن في الدولة الأجنبية قد لا يتجاوزُ إنسانًا يشاركك اللغة أو الاعتقاد الديني، وقد يكون مركزًا وظيفيًا يدر المال عليك، والوطن في الدولة، وبسبب شيوع تشابه اللغة والدين مثلًا، فإن المطلوب من الوطن أن يقدّم للفرد ماهو أكثر من مجرد المشتركات البسيطة، بل يحتاج أن يقدمَ أكثر من ذلك، من قبيل الأمن العام، والحياة الكريمة، ويظل الإنسان أبدًا يبحث عن هذه المميزات وأين ما تحقق له أكبر جزء منها سيعتبره وطنًا له، ولذلك فالإنسان عادةً في رحلة البحث عن وطنٍ بشكل مستمر!

وبشكلٍ عام، فهي مقومات معينة إن توافرت في مكانٍ ما، استحق هذا المكان أن يسمى وطنًا، وإن لم تتوافر فسيظل الإنسان في غربته، لا بد له من البحث عن وطنه في رقعة ما، أو أن يصنع من المكان الذي يقطنه وطنًا له بحسب حاجته!

حين يُقسم العالم سياسيًّا فهو يًقسم لدولٍ وأقاليم، بحسب حاجة الساسة والمصلحة السياسية، ولكن علماء الاجتماع حين يقسمون العالم، فأنهم يقسمونه وفق تركيباته المجتمعية، فالحدود الجمركية لن تمنع أن يكون المجتمع البحراني والمجتمع القطيفي متشابهان أو يتعاملون معه كمجتمعٍ واحد، ولكنه ورغم عدم وجود أي حدود جمركية، ولا جغرافية، يعتبرون أن المجتمع القطيفي مختلف عن مجتمع الرياض في السعودية مثلًا، لا لأن المسافة ابتعدت فحسب، إنما يملك المجتمعان البحراني والقطيفي من المميزات الكثير، مما لا يوجد بين نظيره القطيفي الرياضي، مثل تقارب اللهجة، ووحدة الهوية الدينية والمذهبية، والعادات والتقاليد، ووحدة الهم والمصير، هذه بعض العوامل بالإضافة لأخرى جعلت القطيف وجزء من البحرين مجتمعًا واحدًا، مجتمعًا لم يشترك في الجنسية ولا في جواز السفر ولا في الصفة الدولية، فكلاهما اليوم ينتميان لوطنٍ واحد، ودولتين، كذلك هي العلاقة بينهما وبين أي أحدٍ يشترك معهما في وحدة مصيرهما وما شابه، علاقة وطنٍ واحد، وإن تعددت الدولُ للعشراتِ وللمئات.

المصير المشترك، عاملٌ مهمٌ ينبغي عليَّ وعلى أبناءِ (وطني) في كل مكان، الذين استهدفهم في هذا المقال، أن نلتفت له ونركز على أن يكونَ مصيرًا محقِّقًا للهدفِ الأسمى الذي يعد الله به المستضعفين في الأرض، هناكَ (وطنٌ) نحتاجُ أن نبنيه بكلِّ ما أوتينا من طاقة وجهد، وتقع مسؤولية بنائه على كل فردٍ منا، من الخسران أن نتخاذل بأنانيتنا عنه.

القومية حسب قول ماتزيني: هي انماء جماعة بشرية لدولة واحدة شريطة أن يجمعها تاريخ واحد ولغة واحدة وثقافة واحدة.

وأقول: بأن هذه القومية ينبغي لنا أن نتمسك بها جيدًا، وينبغي لنا أن ننميها بيننا، وأتصور بأن القومية ستكون حلًا للكثير من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسة والثقافية في مجتماعتنا، شريطة أن تكون هذه القومية قومية (وطنية) وليست قومية (دولية)، وطنية بالمفهوم الذي أحاول أن أشير له في هذا المقال طبعًا.

الإحساس بمسؤولية وحدة الهم والمصير، والشعور بالانتماء، والقومية الوطنية التي أدعو لها، ستكون مؤسسة ومساهمة وصانعة لثقافة تكافلية جديدة ربما نحن فقراءٌ فيها اليوم، واستقلالية نحتاجها جدًا، عبر آليات وتفاصيل ربما تم ذكر بعضها في مقالات سابقة، وربما أتطرق لبعضها في مقالات لاحقة.
 
ختامًا أقول بأننا في هذا العصر، ومنذ عقودٍ على الأقل، نواجهُ حربًا ممنهجةً وشرسة، لا تهدف لقتلنا فحسب، إنما تهدف بالدرجة الأولى لتعريتنا من هويتنا التي نتمسك بها، لهجتنا التي نعتز بها، ثقافتنا التي تمثلنا، عاداتنا وتقاليدنا وأصالتنا التي تكوننا، عقيدتنا التي تربينا، إيماننا الذي يهذبنا، وكل هذه الأمور هي التي تجمعنا في وطنٍ لا يكترث في أي دولةٍ هو. 

إن اهتمامنا بالوطن الذي أقصد، سيجعلنا - في كل العالم - أقوياء، لن تتمكن أي دولة من أن تركعنا في أي زمانٍ ومكان، القوة الوجودية التي حتمًا نحتاجها، وربما نحن مأمورون بالتمهيد لبنائها. 

ويبقى السؤال عالقًا، وموجهًا لي، وللجميع في كل بقاع الأرض: هل أنت تنتمي للدولة؟ أم للوطن؟


28 مارس 2015

Friday, March 20, 2015

الهواتف الذكية بين الاستثمار، والاستدمار // أبو مقداد



لم يكن جهاز الهاتف شيئًا مفهومًا لدى الناس، ما هو هذا الجهاز الذي يوصل صوت الإنسان للآخر في مكانٍ بعيد بمجرد لمسِ أرقامٍ معينة. المسألة تبدو كالخرافة، البعضُ يصدقها مُجبَرًا والبعضُ الآخر يكاد يُقسمُ أن في الأمرِ سحرًا. والحياة تسيرُ بشكلٍ طبيعي حيوي بدون هذه الأجهزة، وقنوات التواصل الاجتماعي ثرية جدًّا، وإن كانَ مداها محدودًا. يخرجُ الزوج في الصباح لعملهِ، وحتى ينتهي ويعودُ ينقطعُ اتصاله بعائلته، وهو أمرٌ طبيعيٌّ لا إشكالية فيه، الزيارات الأسبوعية الروتينية لمنزل العائلة مُتَّفقٌ عليها لا تحتاج لتأكيد، والجميع يفهم الجميع!
هكذا كانت الحياة، ببساطتها وعفويتها وانسيابيتها، من أجل التواصل الاجتماعي لا بدّ للفرد من القصد والحركة والوصول، والإشعار الوحيد المتاح والعملي، هو طرق الباب، وانتظار الجواب.. حتى بدأت فكرة الهاتف في الانتشار بين البيوت لتسهيل عملية التواصل هذه، شيئًا فشيئًا حتى تحوّل هاتف المنزل للهاتف النقال، والذي لم يكن يملكه سوى الأب في الأسرة فقط، ويُستخدم لحالات الضرورة فقط.

هذه كانت البداية، وهي - بحسب رأيي - عملية تطور طبيعية. فإلى أين وصلت يا ترى؟!

فجأةً وبمقدمات ربما تكون بسيطة، غزت الهواتف الذكية - حسب ما تُسمى - جيبَ كل فردٍ منا، وتحولت من وسيلة اتصال تُستخدم عند اللزوم، لحاجة ضرورية لا يمكن الاستغناء عنها أبدًا، وصار شاحن الطاقة للهاتف من ضرورات الحياة بجانب الماء والطعام والهواء، بل أكثر من ذلك، أصبحت داخل هذه الهواتف مجتمعات أخرى وحياة اجتماعية ثانية غير التي نعيشها على أرض الواقع!
 
وبنفس صعوبة الانفصال عن المجتمع، صار من الصعب أن ننفصل اليوم عن هواتفنا ( الذكية )!

يضج الهاتف في برامج التواصل الاجتماعي، منها الكتابي، ومنها المصوّر، ومنها من يعتمد تقنية الصوت أو الفيديو، وبكلها تنشغل الأذهان وتُطأطأُ الرؤوس. هذه الأجهزة وهذه البرامج، احتلت من وقتنا الكثير، كما أنها جمعت العالم كله في كفٍّ واحدة، وأصبح من الممكن أن تصل لأي نقطة لأي معلومةٍ لأي شخصٍ مهما كان بعيدًا في المسافةِ عنك بلمسة شاشة، كما صار من الممكن أن تشرد بذهنك عن من يجلس بجوارك لأبعد نقطةٍ ممكنه!

لست بصدد السرد الوعظي لمساوئ الهواتف الذكية، ولست كذلك من الدعاة لمحاربتها أبدًا، لأني أظن بأنها التطور الطبيعي لهذا العصر، فمن الصعب جدًا الاستغناء عن الهواتف في عصر ثورة الاتصالات هذه، طبعًا قد يعتزل أحدهم الانخراط الكثيف في هذه البرامج ولكن ولو بجزءٍ بسيط سيبقى متعلقًا بها ولو على مستوى حياته الأسرية، سواء كان هذا الإنسان أبًا أو أُمًّا، طفلًا أو كهلًا، جميع المراحل العمرية والطبقات الاجتماعية ستجد أنها تملك علاقةً خاصةً بهواتفها!

- هل يمكن ضبطها؟!

أتذكر أني بلغت الثامنة عشر من عمري قبل أن يُسمحَ لي أن أقتني هاتفًا محمولًا خاصًّا بي، خاضعًا لسيلٍ شديدٍ من التحذيرات مِن قبلِ الأسرة الحاكمة في المنزل، ومُراقبةٍ أشدّ من مراقبة شركات الاتصال، بالإضافة لأن هذا الهاتف لم يكن يحمل من خياراتٍ أكثر من إجراء مكالمة، وإرسال رسالة من سبعين حرفًا، ولعبة الثعبان الشهيرة، كما يمكنني تغيير نغمة الهاتف، لذلك فكانت نسبة احتمالية سوء استخدامي لهذا الهاتف ضئيلة جدًّا، ورغم ذلك كانت المراقبة المرعبة تحوم حولي، واستغرقت وقتًا حتى نلت ثقة والديّ باستحقاق، اليوم أخي الأصغر امتلك هاتفه الخاص قبل أن يكمل التاسعة من عمره، وذلك للضرورة، ومن الصعب جدًّا على الأبوين أن يمنعانها. وهاتف اليوم - بطبيعة الحال - مختلفٌ جدًّا عن هاتفِ أمس، فبرامج التواصل الخاصة والعامة تحكم سيطرتها، بخيرها وشرها، وزر البحث قد يوصلك لعمق الكعبة، أو يجلسك على كرسي حانةٍ في لحظات، فالرقابة باتت صعبةٌ جدًا جدًا!
مَن يا ترى يحمي فضولَ الصغار والمراهقين من العبثِ في المفاسدِ التي بين يديهم، ومسؤولية مَن يا ترى أن يدفعهم للاغتراف من الكنز الذي بين يديهم؟

اليوم لم يعد بالإمكان أن ينتظر الأب بلوغ ابنه للثامنة عشر أو قبلها بقليل حتى يخبره عن تفاصيله الحساسة ليقوّمه، ويجيبه عن تساؤلاته التي يصعب شرحها لمن هم في سنه، فهاتفه سيقوم باللازم، وإن لم يقصد هو البحث عن تفاصيل، أو لم يشأ أن يتساءل، فالإعلانات المفاجئة، أو بعض المعلومات والصور في بعض البرامج كفيلة بإثارة العديد من الأسئلة التي غالبًا لن يجاب عليها بشكلٍ صحيح!

في تصوري أن المراقبة اليوم لم تعد ممكنة بذات الدقة التي تمت مراقبتنا فيها، وما يحتاجهُ الآباء هو أن يؤسسوا منذ البداية جيلًا قابلًا لممارسة هدايته بنفسه، مراقبًا لنفسه بنفسه، حذقًا في سلوكياته، وبالطبعِ فإن هذه العملية ليست بالسهلة، ولكنها أجدى من محاولة مراقبته وتوجيهه إن فات الأوان، فالطفل لا بدّ له أن تؤسَّس نفسيته على أن تكون صالحة، لا معقدة. فالتربية في ظل سيطرة برامج التواصل الاجتماعي تحتاج لتقنية خاصة وحذرة جدًّا.

- هل هو تواصلٌ اجتماعي؟ أم عزلة اجتماعية؟!

- كتوصيفٍ - ممكن أن نطلق على برامج التواصل بأنها تمثل مجتمعًا افتراضيًّا، يلتقي فيه الناسُ بشكلٍ ما، يتبادلون أحاديثهم، أفكارهم، صورهم، وما شابه، وهو مجتمعٌ يشابه بحدٍّ كبيرٍ ذاك المجتمع الحقيقي، ولشدة رواجه أظن أن للمجتمَعَيْن انعكاسٌ واضح على بعضهما البعض، وتأثيرٌ ملحوظ، والجوانب الإيجابية في هذه الناحية عديدة، تدخل فيها إمكانية الوصول لأي معلومةٍ، أو البحث عن إجابات للعديد من الأسئلة بسرعة، إمكانية التواصل مع الآخرين بشكلٍ سريع ومستمر وغيرها من الفوائد والآثار، إلا أن ما أود أن أشير له هو حالٌ يكاد يكونُ سائدًا في بيوتنا وتجمعاتنا، حيثُ تجد الجميع ينحني على هذه الهواتف، ورغم اكتظاظ المكان بمن فيه، إلا أنه و في كثير من الأحايين فإن الهدوء هو سيد الموقف، لم نعد نجيد التواصل كما السابق، فالكل منشغلٌ بما في يده عن الآخرين، كثيرٌ من لقاءاتنا أصبحت باهتةً، وبدل أن يتعزز تواصلنا الحقيقي، بتواصلنا الافتراضي، صار الإنشغال بالأخير هو المتسيّد، ناهيك عن حجم المشاكل التي قد تنشأ نتيجة للإنشغال الدائم بهذه البرامج، سواء كانت مشاكل تربوية أم مشاكل زوجية، أو اجتماعية، أو ربما حوادث سير، واقعًا، فالأم قد تنهر أطفالها اليوم بفضاضة إن شاغباها أثناء اندماجها في هاتفها، والزوج قد يهمل جزءًا كبيرًا من حق بيته بسبب هذا المجتمع الافتراضي الجديد، عوضًا أن يكون الهاتفُ سلاحًا داعم لحياة الفرد الاجتماعيّة، صار هادمًا لها!!

يقول أحدهم مازحًا: أنا اليوم أستطيع تحمل السجن لسنواتٍ بشرط أن يكون معي هاتفي أو جهازي الآيباد!
وهذه ليست مزحة بقدر ما هي واقعٌ على أن الإنسان صار على استعدادٍ أن يمارس عزلته عن الناس ولو بشكلٍ تام، إن تمكن من التواصل مع جهازه الخاص، وحقيقة للآن لم أعلم، أهو تواصلٌ اجتماعي، أم عزلة!؟

طبعًا فلهذه الأجهزة الفوائد الكثيرة والجمة، أهتم في ذكر واحدة منها، وهي إمكانية دراسة أي علمٍ وتخصص من خلاله، فالشبكة العنكبوتية اليوم صارت تضج بالدروس والعلوم التي يعجز الإنسان من الاغتراف منها ولا تنتهي، كما أستثمر المقام للإشارة ببرنامجٍ من أهم البرامج التي أستفيد منها شخصيًا، فبالأمس كانت القراءة بالنسبة لي تعتمد على ادخاري للأموال وزياراتي القليلة للمكاتب، واليوم أجدني مع تطبيق "المكتبة الجامعة" كواحد من الكثير من التطبيقات التي تحتوي على العديد  من الكتب بمختلف أنواعها والثرية بالمعلومات والأفكار، ومع توفر العديد من الكتب بصيغتها الرقمية (pdf) صار بإمكاني القراءة في كل مكان وفي كل زمان بكل سهولة.

ختامًا.. الأجهزة التي بين يدينا، هي نتاج التطور الذي ربما اخترقنا دون أن نشعر أو نرغب، وربما أصبحت من ضروريات العصر، وحالها حال الكثير من الأشياء حولنا، فهي سلاحٌ ذو حدَّين، يمكننا من خلاله أن نصعد لقمة التطور، أو أن ننحدر لقعره، نحتاج فعلًا للحكمة التي تفرّق لنا بين الاستثمار.. والاستدمار!
مسؤوليتنا اليوم، أن نعرف كيف نطوع هذه الأمور لتضيف لمخزوننا الفكري والاجتماعي والإنساني، لا لأن تأخذ منه، ومسؤوليتنا الأكبر هي أن نساهم في إنشاء جيل جديد، يعرف جيدًا كيف ينظمَ نفسه جيدًا، وكيف يكون مسؤولًا عن نفسه ومراقبًا لها.
 
 
20 مارس 2015

على ضفاف الذكريات (15) // ز.كاظم

 
 
بسم الله الرحمن الرحيم

لم أكن لاختلط بهم.. أراهم في الجامعة، وبعض الأحيان بالقرب من سكننا.. وأقصى تعامل معهم هو السلام من بعيد.. كان الشيرازيون لهم وجود نشط في أمريكا لكنه في بداية التسعينات بدأ في التفكك والضعف نظرًا لتخرج الكثير منهم ورجوعهم إلى بلدانهم.. كان يُعرف مكان تجمعهم باسم مركز الشباب المسلم.. ظلّت هذه العلاقة هكذا حتى رحيل آخر جماعة منهم، وقد قامت بإغلاق مكان تجمعها وأتت بكتبها (في صناديق) إلى المركز الإسلامي لكي يتم الاستفادة منها.. فقام القائمون على المركز بوضع الصناديق في مخزن المكتبة، ولم يتم وضع كتاب واحد من كتبهم في المكتبة.. هذه الكتب ظلت في صناديقها لفترة عامين قبل أن يتم تغيّر آخر أدى لخروجها من ظلمتها ووحدتها.

لا تزال أحداث الكويت محل اهتمامنا الدائم، وكذلك كان اهتمام الرأي العام الأمريكي الذي لم يكن متشجعًا للدخول في الحرب خصوصًا بعد هزيمته النكراء في فيتنام والتي تركت أسوأ الأثر عند الشعب الأمريكي اتجاه حروب أمريكا.. الساسة الأمريكان كانوا يريدون العراق، لكن كيف؟! 

في 10 أكتوبر من ذلك العام ظهرت فتاة في الخامسة عشر من عمرها باسم "نيرة" في جلسة بواشنطن أمام مجلس حقوق الإنسان وبحضور جمع من نواب مجلس الشيوخ الأمريكي. 4 دقائق ألقت فيها تلك الفتاة شهادتها وكانت كفيلة بترجيح كفة الرأي العام الأمريكي لخيار الحرب. بكت الفتاة، وشهدت أنها كانت متطوّعة في إحدى مستشفيات الكويت وقد رأت بعينيها الجنود العراقيين الغازين وهم يسرقون حاضنات الرضع (الخدج) من المستشفى وتركوهم ليموتوا.



 
استخدم الرئيس جورج بوش الأب هذه الشهادة في عدة من خطاباته الداعية للحرب، وكذلك قام عدة من نواب مجلس الشيوخ بذلك أيضًا. كانت تلك الشهادة كافية لقلب الرأي العام الأمريكي بعد أن كان يحاسب كثيرًا ويحذر من الولوغ في أي حرب بعد وحل فيتنام الذي اكتشف فيه خداع حكومته والجرائم التي قام بها الجيش الأمريكي في الفيتناميين والخسائر التي تكبدها الشعب الأمريكي والتي على إثرها قام بحركة احتجاج داخلية ضد الحرب يترأسها الكثير من الشباب والطلبة الأمريكان وغيرهم حتى دفعوا بالرئيس الأمريكي نيكسون لأن يوقف الحرب.


أتذكر ليلة قصف العراق والتي حولت ليله نهارًا.. كانت الأفكار متضاربة وكذلك المشاعر، بين مؤيد للحرب نكاية في صدام المجرم وما قام به من جرائم بشعة قبل وبعد حربه على الكويت، وتشريد الشعب الكويتي الذي أصبح لاجئًا في البلدان الأخرى، وبين رافض للتدخل الأمريكي واستباحة المنطقة بأكملها أمام مرأى العالم. لم يكن هدف أمريكا شريفًا نظرًا لتاريخها الأسود في الحروب التي قامت بها، وكذلك هناك توجّس من استغلالها لهذه الحرب في بسط المزيد من سيطرتها ونفوذها في المنطقة خصوصًا وأنها هي التي دعمت صدام طوال حكمه، بل زودته بالأسلحة الكيمياوية ليستخدمها ضد شعبه. كان الإعلام الأمريكي مطبقًا على جرائم صدام عندما قام بها، بل أتذكر الكثير من المعارض التي كان يقوم بها المهجرون العراقيون تحوي صورًا عن بشاعة إجرام صدام، ومع ذلك لم يحرّك ذلك ساكن عند الأمريكان. أما الآن، فالحرب قائمة وأفواج من الجنود تقدر بمئات الألوف من الجيش الأمريكي تتوجه لكي تخلص الكويت من هذا الطاغية التي ربّته على يديها.


كنا نشهد حينها حقبة زمنية جديدة، لم نكن نسمع أخبار الحرب عن طريق المذياع أو جريدة الأخبار وبعد عدة أيام أو ساعات، بل كان البث مباشرًا.. قناة السي إن إن كانت تنقل أحداث العراق حين حدوثها.. كنّا جلوسًا في بيت أحد الأصدقاء نشاهد التلفاز ينقل أحداث الحرب مباشرة.. كانت القنوات التلفزيونية تعجّ بالتحليلات السياسية عن قوة العراق وشراسة صدام حسين وما هي ردة فعله المتوقعة، لكن الخسيس فرّ كالفأر هاربًا مذعورًا بعد أن أِشعل النار في حقول النفط، أو ربما قام بذلك الأمريكان أنفسهم فالساسة الأمريكان هم من علموه الخسة. بعد فترة من المتابعة للإعلام الأمريكي اتضحت سياسة الأمريكان العسكرية وهي خلق عدو بين فترة وأخرى وتضخيمه لإحداث حالة خوف ورعب منه ثم يتم التهيئة والاستعداد لمواجهته والقضاء عليه.



في تلك الفترة، كان التلفزيون يقيم الكثير من الاستطلاع على آراء الناس حول العراق والحرب وكان اللافت للانتباه هو جهل الشعب الأمريكي بالجغرافيا والشعوب الأخرى. في أحد البرامج كان هناك سؤالًا يطرحه مقدم البرنامج على الناس في الأماكن العامة وكان السؤال هو: أين تقع العراق؟ جاءت الإجابات مختلفة، إلا أن الإجابة المضحكة هي: بالقرب من ألمانيا!!! كيف لشعب أن يتحمس لحرب لا يعلم أين موقع الدولة التي سيحاربها؟ وكيف لدولة متطورة علميًا ومسيطرة عالميًا أن يكون مستوى الثقافة عند شعبها بهذا التدني؟!

كان صديقي عباس في تلك الفترة مشغول البال، كثير الهم.. لم يكن يركز كثيرًا في الدراسة مع أنه طالب مجتهد.. كنا نحاول أن نخفف عنه بعض ذلك الهم، لكن تلك الأشهر كانت قاسية عليه جدًا. ليس من السهل أن ترى وطنك محتلًا.. كنا نسمع الكثير من الأحداث والقصص عن خروج الكويتيين من الكويت ولجوئهم إلى البلدان الخليجية المجاورة وكذلك إلى الغرب. في تلك الفترة أيضًا تعرفتُ على كويتيٍ آخر لا أتذكر عن حاله كثيرًا بل لا أتذكر حتى اسمه، إلا أن الطريف فيه أنه نصب عليّ مبلغًا من المال، مع أن حاله كان ميسورًا، والمبلغ الذي أعطيته إياه لم يكن كثيرًا.. بعد أن أدنته المبلغ، اختفى من المنطقة، وكل ما أتذكر أن أحد أصدقائنا القطيفيين قد لامني على مساعدته فكان جوابي له أن العيب عليه لا عليّ. كان الشاب خلوقًا وله علاقة جيدة معنا، فلم أجد ما يدعوني للريبة منه لكي لا أساعده. قد يكون المال ثمينًا لكن شرف الأمانة أثمن.   

انتهت الحرب في فترة قياسية قصيرة جدًا لا تتعدى الأسابيع.. قبل توقف إطلاق النار بعدة أيام كان لبوش تصريح بأن رأيه أن يقوم الشعب العراقي بعزل صدام، وكذلك قامت السي آي أي بدعم قناة صوت العراق الحر - في السعودية - بالدعوة للانتفاض والانقلاب على صدام، لتبدأ بعدها مباشرة انتفاضة الشعب العراقي على الحكم البعثي.. تلك هي الانتفاضة الشعبانية.. هذه الانتفاضة التي تأخرت أحد عشر عامًا عن دعوة السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) للشعب العراقي بالانتفاض على الحكم البعثي، لكنه لم ينتفض وتم اعتقال السيد واخته ومن ثم إعدامهما.. كانت الانتفاضة فرصة كما يبدو، فالحظر الجوي من الأمريكان على صدام ساهم كثيرًا في سيطرة الشعب العراقي على المحافظات.. سقطت المحافظات.. محافظة تلو محافظة.. حتى سقطت أربعة عشر محافظة من أصل ثمانية عشر.. كان النصر وشيكًا..

ذات صباح وبينما أقرأ الجريدة، وإذا بخبر عن سماح الأمريكان للعراق باستخدام الطيران لإخماد الانتفاضة وكان العذر أقبح من ذنب. تم مد صدام بالطيران تجنبًا للفتنة وخوفًا من تقسيم العراق! انتهت الانتفاضة بقتل الآلاف من العراقيين وتهجير ما يقارب المليون ونصف. 
 
تبيّن بعد انتهاء الحرب بعام أن "نيرة" المجهولة الاسم لم تكن إلا بنت السفير الكويتي في أمريكا من عائلة الصباح، وأن شهادتها كانت بتنظيم شركة علاقات عامة "هيل آند نولتن"، وأن شهادتها تحوم عليها الكثير من الشبهات. وبذلك اعتبرت هذه الشهادة مثالًا كلاسيكيًا على البروباجندا الإعلامية، إذ لم يثبت أن العراقيين قد سرقوا حاضنات الرضع، بل أن التقارير كشفت أن الأطفال الذين ماتوا إنما بسبب هروب الأطباء والممرضين من الكويت. أثيرت ضجة كبيرة على هذه الحادثة، إلا أن الطيور طارت بأرزاقها.

بينما العراق يضج بانتفاضته، ضجت أمريكا بحادثة صورت أحداثها كاميرا فيديو من بلكونة أحد المواطنين الأمريكان بعثها لأحدى القنوات.. يظهر في الفيديو أربعة من الشرطة الأمريكان البيض وهم ينهالون ضربًا على أسود..


يتبع في الحلقة القادمة..

 
20 مارس 2015