Friday, April 24, 2015

على ضفاف الذكريات (20) // ز.كاظم

 
 
بسم الله الرحمن الرحيم

 
في جاليتنا كانت هناك عدة حالات زواج من أمريكيات أَسْلَمْنَ فتشيعنَ، أولاها كانت للأب الروحي للمركز الإسلامي في بورتلاند الحاج أبي حيدر العراقي ذي العلم والتقى، وكذا الحال بالنسبة للبناني أبي طالب ذي القلب الطاهر، والإيراني فرامرز ذي الروح العالية والأخلاق السامية، والقطيفي أبي سارة ذي الروح المرحة..

معظم الزيجات التي عاصرتها كانت من رجال مسلمين لأمريكيات والحالة الفريدة في تلك الفترة وذاك المكان كانت لأخ أمريكي أبيض أسلم وتشيع أيضًا اسمه عبد النور وقد كان ملتحقًا بالحوزة في نيويورك وكان طالب علم متزوجًا من أمريكية شيعية من السود الأمريكان.. كانت النظرة الأولية لمثل هذه الزيجات تبعث في قلوبنا الاعتزاز بالهوية الدينية حيث كنا ننظر إلى مدى قوة الإسلام إذا تجسد كقناعة عند الإنسان ليجعل منه إنسانًا آخرًا مغايرًا، خصوصًا بالنسبة للنساء اللاتي يواجهن تغيّرًا جذريًا يتعلق بزي الحجاب في مجتمع تربينَ فيه على نمط يكاد يكون على النقيض، ناهيك عن نظرة أهل الأمريكية المسلمة التي تركت ملة أهلها واعتنقت دينًا يقيّد المرأة بصورة خاصة.. مع أن تلك النظرة أخف وطأة من نظرتنا نحن كمجتمعات مسلمة لمَن يترك الإسلام ويعتنق دينًا آخرًا. 

كان الإعجاب يتملكني - وربما تملّك غيري - حول طبيعة هذا التغير للأمريكان المسلمين على الصعيد الفكري والسلوكي.. كنتُ منذ الصغر أحمدُ الله على نعمة الإسلام وولاية أهل البيت عليهم السلام إذ لم أجد في الحياة أغلى من هذه النعمة التي حباني الله بها لأن أولد في وسط مسلم شيعي ينعم بوحدانية الله سبحانه وتعالى، واتباع نبي الهدى محمد ص وولاية علي أمير المؤمنين وبنيه عليهم السلام.. وكنتُ - ولا زلتُ - غير قادر على استيعاب فكرة أن أولد في مجتمع آخر غير الذي نشأتُ فيه، أو ربما لم أشأ أن أستوعب ذلك.. لذلك انتابتني الغبطة لهذه الزيجات التي وُفقن فيها هذه الزوجات الأمريكيات لأن ينعمن بالهداية.. كنتُ حينها شابًا يافعًا لم تصقلني التجربة جيدًا لأخرج بنظرة أكثر شمولية وواقعية وموضوعية، ليس لأن كل الزيجات من أمريكيات كانت فاشلة، بل لكون الكثير منها باءت بالفشل.. الأسباب كثيرة سأتطرق إلى بعضها لاحقًا في سياق المذكرات..  

مرت فترة على دراستي في كلية كلارك أنهيت فيها المواد المطلوبة للسنتين الأوليتين وحان الأوان لأن ألتحق بالجامعة، ولكن كيف ولم أقدّم اختبار التوفل بعد وهو أحد متطلبات القبول في الجامعة! هذا الاختبار الذي بمثابة الشبح المرعب للكثير من الطلبة، فمنهم من يقدمه عدة مرات، ومنهم من يدفع أموالًا طائلة من أجل أن يقوم غيره بتقديم الاختبار.. قدّمتُ رسوم الاختبار ومضت الأيام سريعة ولم يعد هناك متسعًا من الوقت.. ذات ليلة كنتُ زائرًا أحد الأصدقاء في شقته، حاتم من (القديح /القطيف)، وهو شاب يتمتع بالهدوء وحسن الأخلاق والأدب، وقدِم إلى أمريكا مع نبيل إذ هما من نفس المنطقة في القديح.. أثناء حديثنا أخبرته أنني سأقدم اختبار التوفل في الغد، فسألني إن كنتُ مستعدًا، ثم قال لي أن لديه كتابًا للتوفل مع بعض الاختبارات النموذجية.. فطلبتُ منه الكتاب، وقمتُ في الحال بقراءته وتقديم الاختبارات النموذجية في آخره.. مقدمة الكتاب تحوي الكثير من الدروس المختصة باختبار التوفل، وفي نهايته نماذج لبعض الاختبارات.. أعجبني الكتاب كثيرًا وتمنيتُ لو اطلعتُ عليه قبل هذا الوقت.. قدّمتُ الاختبار النموذجي وحسبتُ النتيجة فكانت جيدة فوق المعدل المطلوب بأربعين درجة.. 

في اليوم التالي ذهبتُ إلى مركز الاختبار واختبرتُ وكان الاختبار سهلًا جدًا ربما يرجع السبب الأكبر لتلك الليلة مع الأخ حاتم.. الإعداد لاختبار التوفل يتطلب الدراسة والممارسة للغة الإنجليزية، ولكن أكبر خطوة مساعدة هي الإعداد للاختبار وذلك عن طريق اقتناء الكتب المختصة بهذا الاختبار والقيام بالإجابة على الأسئلة النموذجية.

بعد فترة جاءت النتيجة وكانت فوق المعدل المطلوب.. فرحتُ كثيرًا فقد استوفيت جميع المتطلبات للالتحاق بالجامعة.. كما ذكرتُ سابقًا، فإن دراسة اللغة في المعاهد الأمريكية بصورة عامة لا تعتمد تدريس التوفل بصورة مباشرة، إنما تقوم بتعليم الطالب متطلبات اللغة من قواعد، وقراءة، وسمع، وتحدّث وغيرها، وهي الكفيلة بأن تؤهل الطالب لأن يجتاز اختبار التوفل بسهولة، لكن هذه الطريقة ليست المثلى، إذ أن إدخال برنامج تأهيلي لاجتياز اختبار التوفل من ضمن التعليم في اللغة ضروري إذ من شأنه أن يُهيئ الطالب أكثر لطبيعة الأسئلة المطروحة في الاختبار ليتمكن من اجتيازه بسهولة.
 

التحقتُ بجامعة ولاية بورتلاند، وهي جامعة تقع في وسط (الداون تاون) مدينة بورتلاند، أوريغون.. تأسست الجامعة في عام 1946، وتوفر دراسة البكالوريوس والماجستير وكذلك الدكتوراه في سبعة عشر من المجالات العلمية. هناك فروق كثيرة بين الكلية والجامعة أولها عدد الطلاب في الجامعة فهو أكثر بكثير من عدد طلاب الكلية.. أتذكر جيدًا طابور التسجيل للمواد، إذ كان يستغرق الساعات الطوال انتظارًا لتسجيل تلك المواد.. كذلك فإن قاعات المحاضرات عادة ما تكون مليئة بالطلبة على خلاف فصول الكلية.. لكن الفارق الأكبر بين جامعة بورتلاند وكلية كلارك كان في أخلاقيات وطبيعة معاملة المدرسين للطلبة، والتي ستكشف المذكرات القادمة جزءًا من تلك الفروقات..  

 

من الأمور التي تقوم بها أي جامعة يلتحق بها الطالب من جامعة أخرى أو كلية هو معادلة المواد، وكثيرًا ما يتم ضياع بعض الساعات خصوصًا للمواد الاختيارية.. فالطالب الذي يدرس على حسابه الخاص مخيّر بين أمرين إما دفع الرسوم الباهضة للجامعة ابتداءً بالدراسة من السنة الأولى في الجامعة، أو ضياع بعض المواد حين ينتقل من الكلية للجامعة. 

نظرًا لانتقالي بالقرب من جامعة بورتلاند، قررتُ أن أرحل عن مدينة فانكوفر الهادئة لأرجع مرة ثانية لمدينة بيفرتون، لكن هذه المرة اتفقتُ مع أحد الأصدقاء البحارنة أن نسكن سويًا نتقاسم الحياة المعيشية في شقة تقع على شارع الميري روود في مدينة بيفرتون. كان السكن جديدًا نوعًا ما وراقيًا، ليس كشقتي السابقة، لكن إيجارها كان غاليًا ولذلك قررنا أن نسكن سويًا، إضافة أن علاقة الصداقة بيني وبين طلال قد توثقت كثيرًا في الفترة السابقة.. التقيتُ بطلال عند أحد الشباب في مدينة سيلم وهي مدينة بين بورتلاند وكرفالس، إذ كانت كرفالس هي المدينة التي جاء إليها طلال. دعوته لزيارة بورتلاند فأعجبته المدينة والجالية فيها.. وقد كان زميلًا للدراسة معي في كلية كلارك وكان يسكن في نفس مدينتي السابقة فانكوفر..  

 

تميزت علاقتي بطلال بالقوة كونه بحراني مثلي، بل من نفس العاصمة المنامة التي نشأتُ وترعرعتُ فيها، لا بل من نفس المنطقة - فريق المخارقة -.. كنا من نفس العمر تقريبًا إذ أكبره بعامٍ واحد.. كان طلال شابًا مؤمنًا حليمًا خلوقًا سمحًا، لا تكاد تفارق الابتسامة وجهه، ولم أره غاضبًا قط إلا في موقف في المركز الإسلامي حينما أراد أحد اللبنانيين أن يطرح مشكلة ابنة اخته من زوجها على الملأ، رأيته ينتفض قائمًا ليوقف اللبناني عن طرح الموضوع إذ لا يصح طرح مثل هذه المشاكل العائلية على الملأ وبهذه الصورة خصوصًا أن الزوج اللبناني لم يكن حاضرًا.. 

حياة الطالب ليست كلها دراسة، بل إن جزءًا كبيرًا منها فراغ قد يستثمره الطالب في صقل طاقاته وتطوير إمكاناته، أو قد يهدره في إضاعة الوقت وتفويت الفرص، لكن الحنين للوطن دائمًا ما يكون كالسحابة المثقلة بالرعد والبرق والمطر على جَدَب الفراغ.. كنًا - طلال وأنا - نقضي بعض أوقاتنا في سرد قصة هنا أو موقف هناك نشمّ منه رائحة عبق البحرين.. تستهوينا قصةٌ أحداثها تقع في أزقة المنامة، أو شيلة "لطمية" لغازي العابد كتلك التي تبدأ بـ "على مر السنين، يا رسول العالمين" أو "أذكر يومًا وصلت رسالة، من أمي الحبيبة، من داخل الأسوار في العراق، من داخل المدينة" أو مهدي سهوان "شلال الدماء الهادر" أو "إننا نبكي على عالمنا الإسلامي"، أو سيد محمود "مجرمة دولة أمية"، أو مجيد الحلواجي "شيعتي مهما شربتم ماء عذب فاذكروني".. تهفّ أرواحنا لمأتم الشهيد الذي كان يُعدّ أكبر موكبٍ عزائيٍ في المنامة في عقد الثمانينات وكيف كان يصرّ على الخروج بالرغم من قساوة القبضة الأمنية الحديدية.. نتحسر على أيامٍ قضيناها في عصر يوم الجمعة نركب على الدراجات الهوائية - سياكل - قاصدين عين عذاري لنسبح في مائها الأزرق الصافي.. نتوق إلى قطعة خبز ساخن من خباز عبدالرزاق مع جبن المثلثلات.. نتذكر حادثة استشهاد الشهيد علي العلي وكيف تجمع الناس عند مسجد "مؤمن" وقت المغرب لينتهي المؤذن من الأذان وليبكي قليلًا ثم ينادي ماذا تنتظرون، اذهبوا إلى المستشفى، ليتوجه الناس بصورة جماعية إلى المستشفى وينتزعوا الجسد المعذّب وتبدأ بعد ذلك حقبة الثمانينات الضارية..

كلما كتمت الغربة على مناسم أنفاسنا، أخرجنا أكسجين الذكريات لنستنشق هواء الحنين لأرض أوال..  


يتبع في الحلقة القادمة..

 
25 إبريل 2015

الأنا المذمومة،، والأنا الممدوحة / محمود سهلان


اعتدنا على استعمال الأنا في مواقع الذّمّ فقط، وهو الغالب على ألسنة النّاس، فعندما تُذكر الأنا، تراها بمعنى الذّمّ والنّقص، إلا فيما ندر، فنستعملها عادةً لمن يحبّ الخير لنفسه طمعًا دون غيره، ولو توسّع حبّ الخير للنّفس أحيانا، لينال غيرها.

حسبما أراه فليست الأنا سوى ما نعبّر عنه بالنّفس، فهل المراد أنْ يدوس الإنسان على نفسه؟ أم الأمر ليس كذلك؟

حينما نطّلع على الآية الكريمة التّالية، قد نصل لشيء مهم، حيث قال تعالى: (وَنَفْسٍ  وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) [الشمس: ٧/٨].

دعني أدّعي أنّك تتّفق معي أنّ الأنا هي النّفس، تلك النّفس التي ألهمها الله الفجور وألهمها التقوى، فإذا كان كذلك، هل يمكن أنْ تكون كلّ الأنا مذمومة؟

بالطّبع لا يمكن أنْ تكون كذلك، فلو كانت كلّها فجور لاستحقّت أنْ تداس، وأنْ تهان، وتُجابه بالقوّة دائمًا، أمّا لكونها مشتملةً على التّقوى، فذلك غير ممكن.

إذن بماذا يمكن أنْ نجيب على ما ورد عن رسول الله (ص) في بعض كلامه، ما يتضمّن أنّ جهاد النّفس هو الجهاد الأكبر، أو غيرها من الأحاديث الواردة عنه وعن أهل البيت (ع)، مما يتعلّق بجهاد النّفس؟

الجواب عليه يلزم جمع كلّ ما سبق، فأقول: ما دام الله ألهم النّفس الإنسانيّة فجورها وتقواها، وما دام قد ورد كلامٌ من المعصوم يحثّ على جهاد النّفس، فإنّ المطلوب هو جهاد النّفس بالنّفس، بتغليب جانب التّقوى على جانب الفجور، والسّيطرة على النّفس بدحره، وإلا فالطّريقان متاحان للإنسان، وهما كامنان بداخله، وعليه أنْ يختار، فإمّا أنْ يميل لجانب الفجور بدعم الشّيطان ومغريات الدّنيا، أو يميل لجانب التّقوى، أو تظلّ الحرب قائمةً بين الجهتين مدّة عمر هذا الإنسان.

في روايةٍ استوقفتني قبل مدّة ليست بالقصيرة قال الصادق (ع): "حبّ الدّنيا رأس كلّ خطيئة"، ومنذ تلك اللّحظات كنت أفكّر في هذه الكلمات، فلما لم يقل (حبّ النّفس)، فوصلت لكون حبّ الدّنيا هو فعلًا ما يبعدنا عن الآخرة، أمّا حب النّفس لا يمكن أنْ يكون دائمًا دافعًا نحو الخطايا والذّنوب، بل قد يكون دافعًا نحو الطّاعة وما يستوجب الجنّة، وليس من يعمل الطاعات، ويترك المعاصي، إلا محبًّا لنفسه أشدّ محبة.

ما توصّلت إليه هو: أنّ النّفس (الأنا) لا يمكن أنْ تكون مذمومةً دائمًا، فقد تكون مذمومةً مرّة، وقد تكون ممدوحةً أخرى، بلا إشكال.

قد يقول البعض هذا ما تعارفنا عليه من جهة استعمال الكلمة، فأقول بأنّ ذلك وإنْ كان له أهمّيّته، لكنّه ليس كلّ الحقيقة، وإنْ كان استعمال الكلمة لفظًا أو معنىً يأتي بمعنى الذّمّ والمنقصة غالبًا، إلا أنّ كونه يأتي بمعنى المدح والثناء لا محذور فيه.

فأنا أحبّ نفسي، لذلك أسعى لنيل رضى ربّي..
 

25 أبريل 2015


الشُيُوعِيَّةُ، وإنْ غَابَ أو (غُيِّبَ) رَسْمُها (26) - "رُؤى من القرآن والعترة (7) / محورية وجود المعصوم (عليه السلام) في اتخاذ القرار.. بالبناء على ما مرَّ" // محمد علي العلوي



نَقْدُ الثقَافَةِ أكْثَرُ مشَقَّةً مِنْ نَحْتِ الجِبالِ قُصُورًا للسَلَاطِين..

عَمِلَ بعضٌ من أصحاب الأئمَّة (عليهم السلام) في وزارات الدولة الظالمة، مثل علي بن يقطين (رضوان الله تعالى عليه)، وهذا مثله في الجانب المقابل مِثلُ الجهاد تحت راية الإمام المعصوم (عليه السلام)، فلا هذا يُصابُ بأيِّ عقل، ولا ذاك يتمكَّنُ أيُّ عقلٍ من تشخيص صلاحه من فساده.

لِعَليِّ بن يقطين الحُجَّة يوم القيامة، ولزهير بن القين مثلها فيه، فالحضور القيادي للمعصوم (عليه السلام) حجة للمؤمنين يوم القيامة، وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لكميل بن زياد: "أخوك دينك، فاحتط لدينك بما شئت" (وسائل الشيعة للحرِّ العاملي، ج18 ص123).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "حلالٌ بيِّنٌ وحرامٌ بيِّنٌ، وشبهات بينَ ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرَّمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرَّمات وهلك من حيث لا يعلم" (الكافي للكليني، ج1 ص68).

عندما نخوض مواجهة مع الظالمين، فعلينا أن نسأل عن البواعث عليها؛ فلا يكفي أن يكون الآخر ظالمًا حتى نواجهه، ولا يكفي أن يكون طاغوتًا، ولا يكفي أن يكون مغتصبًا للحقوق!

نعم، هذا كلُّه يكفي غير المؤمنين لمواجهته، فهم - في أحسن الأحوال - يُريِدون إعادَةَ الأمُور إلى نصابها، وعلى هذا الطريق تُسَجَّلُ الضحايا قرابين عِزٍّ على طريق الحريَّة والإباء..

إنَّه أمرٌ لا بُدَّ أن يُحتَرم في جوانبه الصحيحة، ولا شك في أنَّ الداعين إليه ممدوحون عند كُلِّ عاقل، ولكِنَّ هذا لا يُسوِّغُ للمؤمن التأسي بهم في معادلات المواجهة مع الظالم؛ إذ أنَّ المؤمن لا تُحَرِّكه قضايا الدنيا ما لم يكن رضى الله تعالى محيطًا بحركته من مختلف جوانبها، وهذا متحَقِّقٌ في أخذه بالحلال البيِّن، واجتنابه الحرام البيِّن، وثمَّة طريقٌ آخر أظُنُّه طريق الاختبار الحقيقي للمؤمنين، وهو طريق اجتناب الشبهات بالاحتياط، وإلا فالوقوع في الهلكات كما نصَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله).

عندما نتحدَّثُ عن مواجهةٍ كما هو الحال المعروف في النظرية الشيوعيَّة، فنحن في الواقع نتحدَّث عن تضحيات ودماء وغير ذلك مِمَّا يحتاج لجهة تتحمل المسؤولية أمام الله تعالى يوم القيامة، ومثلها يتحملها عامة التابعين لها، فالاختيار مسؤولية أيضًا، وقد قال الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): "إنَّ الله عزَّ وجلَّ لما خلق العقل، قال له أقبِل فأقبل، ثمَّ قال له أدبر فأدبر، فقال تعالى: وعِزَّتي وجلالي، ما خلقتُ خلقًا هو أكرم عليَّ منك، بِكَ أثيب وبِكَ أعاقب، وبِكَ آخذ وبِكَ أعطي" (عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي، ج4 ص100).

وهنا مسائل ثلاث:

- الأولى:

عندما يأتي الكلام عن المواجهة وظروفها، فلا ظهور في ذلك لمصلحة الخنوع والقبول بالذل، فالاحتياط كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) "بما شئت"، ولذلك فإنَّ لمقارعة الظالم تأسيسات استغرقت من أهل البيت (عليهم السلام) ثلاثة قرون، وتظهر تأسيساتهم بالدرجة الأولى في بناء المجتمع الإيماني الذي عدَّ المعصومون (عليهم السلام) أهله أفضل من أهل كُلِّ زمان، فعَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْكَابُلِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (عليه السَّلام) أنَّهُ قَالَ: "تَمْتَدُّ الْغَيْبَةُ بِوَلِيِّ اللَّهِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ أَوْصِيَاءِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه و آله) وَالْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ .

يَا أَبَا خَالِدٍ: إِنَّ أَهْلَ زَمَانِ غَيْبَتِهِ الْقَائِلُونَ بِإِمَامَتِهِ الْمُنْتَظِرُونَ لِظُهُورِهِ، أَفْضَلُ أَهْلِ كُلِّ زَمَانٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَعْطَاهُمْ مِنَ الْعُقُولِ وَالْأَفْهَامِ وَالْمَعْرِفَةِ مَا صَارَتْ بِهِ الْغَيْبَةُ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُشَاهَدَةِ، وَجَعَلَهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ بِمَنْزِلَةِ الْمُجَاهِدِينَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه و آله) بِالسَّيْفِ، أُولَئِكَ الْمُخْلَصُونَ حَقًّا، وَشِيعَتُنَا صِدْقًا، وَالدُّعَاةُ إِلَى دِينِ اللَّهِ سِرًّا وَجَهْرًا". (بحار الأنوار للمجلسي، ج52 ص122).

وعَنْ جَابِرٍ أنَّهُ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ‏ عَلِيٍّ (عليه السَّلام) وَ نَحْنُ جَمَاعَةٌ بَعْدَ مَا قَضَيْنَا نُسُكَنَا، فَوَدَّعْنَاهُ وَقُلْنَا لَهُ أَوْصِنَا يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ.

فَقَالَ: "لِيُعِنْ قَوِيُّكُمْ ضَعِيفَكُمْ، وَلْيَعْطِفْ غَنِيُّكُمْ عَلَى فَقِيرِكُمْ، وَلْيَنْصَحِ الرَّجُلُ أَخَاهُ كَنُصْحِهِ لِنَفْسِهِ، وَاكْتُمُوا أَسْرَارَنَا، وَلَا تَحْمِلُوا النَّاسَ عَلَى أَعْنَاقِنَا، وَانْظُرُوا أَمْرَنَا وَمَا جَاءَكُمْ عَنَّا فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُ فِي الْقُرْآنِ مُوَافِقاً فَخُذُوا بِهِ، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مُوَافِقاً فَرُدُّوهُ، وَإِنِ اشْتَبَهَ الْأَمْرُ عَلَيْكُمْ فَقِفُوا عِنْدَهُ وَرُدُّوهُ إِلَيْنَا، حَتَّى نَشْرَحَ لَكُمْ مِنْ ذَلِكَ مَا شُرِحَ لَنَا، فَإِذَا كُنْتُمْ كَمَا أَوْصَيْنَاكُمْ وَلَمْ تَعَدَّوْا إِلَى غَيْرِهِ، فَمَاتَ مِنْكُمْ مَيِّتٌ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ قَائِمُنَا كَانَ شَهِيدًا، وَمَنْ أَدْرَكَ قَائِمَنَا فَقُتِلَ مَعَهُ كَانَ لَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ، وَمَنْ قَتَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَدُوّاً لَنَا كَانَ لَهُ أَجْرُ عِشْرِينَ شَهِيدًا". (الأمالي للشيخ الطوسي، ص232).

إنَّه لمن الصعب ونحن نعيش المادة ومعادلات الأرقام، أنْ نتمكَّن من استيعاب حقيقة القوة العظمى لمثل هذه التأسيسات في إرغام أنوف الظالمين والجبابرة، ولكِنَّها الحقيقة - كما أرى -، ويدل عليها قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)، فما هو حجم انتصارنا لله تعالى في واقعنا اليوم؟

لا يحتاج الجهاد إلى جيوش وأعداد، ولكِنَّه يحتاج إلى ثُلَّة مؤمنة تتمثل الطبيعة التي انتسب إليها أصحاب الحسين (عليه السلام) في كربلاء، وإلَّا فقضية مواجهة الظالم ورفع راية المقاومة والتضحية ليس مما يميز المؤمنين. فتأمل جيِّدًا.

إنَّها طبيعةُ التدين والتسليم الخالص للثقلين المقدَّسين، وتجنب التحايل عليهما بأيِّ شكل من الأشكال.

- الثانية:

هل يختصُّ قرار المواجهة مع الظالم وقيادتها بالمعصوم (عليه السلام)؟

هناك مجموعة من الشعارات والمقولات لا أعرف منشأها الحقيقي، ولكِنَّني أتمكن من قراءة آثارها الثقافية بشكل واضح، منها: الحقوق تنتزع ولا تؤخذ، ولا يفلُّ الحديث إلا الحديد!

لم أجد - بحسب تتبعي - أصولًا أدبية ثقافية في تراث الثقلين المقدَّسين لمثل هذه المقولات إلا بتكلُّف التأويل، أو ربَّما وُجِدَتْ مُعَارَضَةً بمحكمات أعرض عنها من أخذ بها، إمَّا غفلةً أو عن قصد!

وعلى أيَّةِ حال، فإنَّ مثل هذه الشعارات، تسبَّبتْ واقعًا في أنَّ بعض الثقافات حصرتْ المواجهة في القيام المباشر على الظالم، وبطريقة واحدة، شَعاراتُها من شاكلة تلك التي ذكرتُها قبل قليل.

أقول:

عندما نُقَرِّرُ حجم المسؤولية التي يتحمَّلها المتصدِّي برايَةِ المواجهة المباشرة مع الظالم، فإنَّ العقل لا يعارض تحركَّه من حيث هو قاطع بتحمُّله للمسؤولية كاملة، وبما أنَّه يقطع بما هو عليه، فمن الطبيعي أن لا يصادر قطوعات الآخرين، خصوصًا إذا كانت على نفس المستوى من الصدق الذي يقوم عليه قطعه.

وبالتالي، هناك من يقطع بضرورة المواجهة مع الظالم ولكن بأساليب أخرى غير الاصطدام المباشر، ولصعوبة عمل الاثنين في ساحة واحدة، فإنَّه من الضروري أن يعمد كلُّ طرف منهما لتسقيط الآخر، وهذا السلوك هو عين ما تؤسس له النظرية الشيوعية في المواجهة بين البروليتاريا ومن لا ينخرط فيها من سائر العمَّال!!

ما ينبغي أن يقال هنا:

طالما أنَّ أحدًا لا يتمتع بحصانة القيادة المعصومية التي تتعامل مع الحوادث بناءً على الانكشاف التام، فإنَّ الاصطدام الداخلي لا يمكن القبول به من جهة الشرع؛ فالقطع بلون اليقين مع عدم وجود المقدِّمات اليقينية، فيه نوع واضح من الجرأة على مقام العصمة.

نعم، إنَّه لا بُدَّ من إيجاد طريقة للتوفر على أكبر قدر من التوافقات الثقافية بين التوجهات المتعاكسة على مستوى الفكر والسلوك، وهذا لا يتأتَّى بمناقشات متوترة وتفريغات نفسيَّة مشحونة، ولا باصطفافات حزبية وتيَّاريَّة أو ثقافية وفكرية لا أشكُّ في عُقمِها، ولكنَّه رهين دراسات علميَّة معمَّقة تتبعها منظومة عمل ثقافي صحيح، وإلَّا فما يحدث اليوم لا أتمكَّن - شخصًا - من القبول به لا من هذا الطرف ولا من ذاك.

ما أفهمه، هو أنَّ قرار المواجهة المباشرة مع الظالم لا يقتصر على المعصوم (عليه السلام)، ولكِنَّه مشروط عقلًا وحِكمَةً بوجود جهة ذات عقليَّةٍ راجِحَةٍ، وقُدرَةٍ واقعيَّةٍ على تحمُّل المسؤولية الكاملة أمام الله تعالى.

وما أفهمه، إنَّه لا يحِقُّ لأحدٍ أن يحمل الآخرين مسؤولية خياراته هو، وهذا أمر من المعيب مناقشته أصلًا، فالقضية محسومة أدبيًا، ومن المعيب، بل ومن الشؤم أن تشتغل مختلف التيارات والتوجهات على تجيير الدين انتصارًا لنفسها وتسقيطًا لخيارات الآخرين.. هذا عيب كبير يكشف عن معائب مركَّبة.

- الثالثة:

لا شكَّ في أنَّ البناء العلمي والمعرفي يحتاج إلى أوقات ومراحل متطاولة، إلى أنْ يظهر ثقافة وفكرًا في حياة الإنسان فردًا ومجتمعًا، وفي المقابل، فإنَّ حركة التسارع والتطارد على نسق (Action) في مصطلح أفلام هوليود، أقرب للتفاعل من قِبل عامة المجتمع البشري الذي يهوى المشاهد السريعة المثيرة (وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً)، ولذلك فإنّني أتوقع لشخصية (ثورية) حقيقية أو سينمائية، شهرةً أكثر من شهرة صدر المتألهين الشيرازي، أو الفارابي، أو المفيد، أو الطوسي، أو المحقِّق الكركي..!!

هؤلاء صنَّفوا للإنسانية، وشيدوا صروحًا للعلم والمعرفة، ولكِنَّهم ليسوا مما تهواه القلوب مثل أيِّ شخصيَّة ذات ثقافة خطابية كما حُرِّر في سيكولوجية الجماهير.

وبالتالي، فإنَّه ليس من الصحيح اختزال التشيع في فكرة المواجهة المباشرة مع الظالم، بل هو في أصله اختزال أدعو لمراجعة مقدِّماته مراجعة جذرية؛ فما أعتقده هو أنَّ تيار المنهج الخطابي (بحسب موازين الصناعة) قد طغى بشكل أو بآخر، ولسبب وآخر على عموم الثقافة التي يعيشُها شيعَةُ أهل البيت (عليهم السلام)، وخصوصًا في القرن الأخير، وعلى وجه الخصوص بعد طروِّ بعض التحالفات بينهم وبين جهات وتيارات (غير إسلامية)!

بعد هذه الإشارات في المسائل الثلاث، فما ينبغي الإلفات له، هو أنَّ المؤمن لا يصحُّ منه الانحصار في حدود هذه الدنيا وموازينها، وهذا ما أشرتُ إليه في المقال السابق من خلال القوسين (قوس الأنبياء وقوس الإمام المهدي عليهم السلام).

فلنتوجه الآن بالنظر في تركيز القرآن الكريم على حقيقة الآخرة وضرورة الإيمان بها وبما يكون فيها من الوفاء الإلهي بالوعد (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء * وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ * وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ * يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ * لِيَجْزِي اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَذَا بَلاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ).
هنا تحدٍّ آخر، وهو تحدِّ مقاومة الوقوع في ظلمات الظلم، فينقلب طالبُ الحقِّ إلى مشروع لظلم جديد بعناوين جديدة، والحال (كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى)، أي يستغني برأيه ويستقل به عن مصدر النعم، وهو الله تعالى والخلفاء من آل محمد (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وبهذا الاستغناء يطغى الإنسان بعد أن كان على الجبهة المقابلة.

من الواضح لي، إنَّ الاحتياط بتجنب اقتحام الشبهات لا يتمُّ إلَّا بالانشغال الداخلي على صعيد التأسيس والبناء، وهذا في حدِّ ذاته دعاء عملي للإمام المهدي (عليه السلام) بالفرج، وهو ما يحتاج منَّا إلى تأمل ودقة نظر.

أُوقِفُ القارئ الكريم في هذا المقال على خطبة للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وأدعوه للتكفر في ملاحمها، وقياسها ليس على واقع الحياة اليوم، بل على خصوص واقعنا كشيعة لأمير المؤمنين (عليه السلام)، ثُمَّ فليكن السؤال التالي:

هل تحتاج مجاهدة الظالمين والطغاة لمؤهلات إيمانية خاصة، أو أنَّها لا تحتاج إلى أكثر من عضلات وقلوب كزبر الحديد؟
عن عبد الله بن عباس، قال: "حججنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حجَّة الوداع، فأخذ بحلقة باب الكعبة وأقبل بوجهه علينا، فقال: معاشر الناس، ألا أخبركم بأشراط الساعة؟

قالوا: بلى يا رسول الله.

قال: مِنْ أشراط الساعة إضاعة الصلوات، وإتّباع الشهوات، والميل مع الأهواء، وتعظيم المال، وبيع الدين بالدنيا، فعندها يذوبُ قلبُال مؤمن في جوفه كما يذوبُ المِلحُ في الماء ممَّا يرى من المنكر فلا يستطيع أن يغيِّرَهُ، فعندها يليهم أمراءُ جورة، ووزراءُ فسقة، وعرفاءُ ظلمة، وأمناءُ خونة؛ فيكون عندهم المنكر معروفًا، والمعروف منكرًا، ويؤتمنُ الخائنُ، ويُخَوَّنُ الأمين في ذلك الزمان، ويُصَدَّق الكاذب، ويُكَذَّب الصادق، وتتأمَّر النِساءُ، وتُشاورُ الإماء، ويعلو الصبيان على المنابر، ويكون الكذب عندهم ظرافة وسببَ الطرب، فلعنة الله على الكاذب وإن كان مازحًا.

وأداء الزكاة أشدُ التعب عليهم وخسرانًا ومغرمًا عظيمًا، ويُحقِّرُ الرجلُ والديه ويسبَّهما، ويبرُّ صديقه، ويُجالِسُ عدوَّه، وتشارك المرأةُ زوجَها في التجارة، وتكتفي الرجالُ بالرجالِ والنِساءُ بالنساءِ، ويُغارُ على الغلمان كما يُغار على الجارية في بيت أهلها، وتشبَّه الرجالُ بالنساء، والنساءُ بالرجال، وتركب ذوات الفروج على السروج، وتُزخرف المساجد كما تُزخرف البِيَعُ والكنائس، وتُحلَّى المصاحِفُ، وتُطوَّل المنارات، وتكثُرُ الصفوف، ويَقِلُّ الإخلاص، ويكثُرُ الرياء، ويؤمَهم قومٌ يميِلُونَ إلى الدنيا، ويُحِبُّون الرئاسة الباطلة.

فعندها قلوبُ المؤمنين متباغضة، وألسنتُهم مختلفة، وتحلَّى ذكور أمتي بالذهب، ويلبسون  الحرير و الديباج وجلود السمُور، ويتعاملون بالرشوة، والربا.

ويضعون الدين، ويرفعون الدنيا، ويكثُر الطلاقُ، والفراق، والشكُّ، والنِفاقُ، ولن  يضر الله شيئًا، وتكثر الكُوبَة، والقِيناتُ، والمعازِفُ، والميلُ إلى أصحاب الطنابير والدفوف والمزامير وسائر آلات اللهو.

ألا ومَنْ أعان أحدًا منهم بشيءٍ مِنَ الدينار، والدرهم، والألبسة، والأطعمة، وغيرها فكأنَّما زنى مع أُمِّه سبعين مرة في جوف الكعبة.

فعندها يليهم أشرارُ أمتي ، وتُنهتك المحارِم ، وتُكتسب المآثم، وتسلُط الأشرار على الأخيار، ويتباهون في اللباس، ويستحسنون أصحاب الملاهي والزانيات، فيكون المطرُ قيظًا، وتغيظ الكرام غيظًا، ويفشو الكذب، وتظهر اللجاجة، وتفشى الفاقة.

فعندها يكون أقوامٌ يتعلَّمون القرآن لغير الله، فيتَّخذونه مزامير، ويكون أقوامٌ يتفقَّهون لغير الله، ويكثُر أولادُ الزِنا، ويتغنّون بالقرآن،فعليهم من أمَّتي لعنة الله ، ويُنكِرون الأمرَ بالمعروف والنهيَّ عن المنكر حتّى يكون المؤمن في ذلك الزمان أذلَّ من الأَمَة، ويُظهِر قُرّاؤهم و أئمتهم فيما بينهم التلاوم والعداوة، فأولئك يُدعون في ملكوت السماوات الأرجاس الأنجاس.

وعندها يخشى الغني من الفقير أن يسأله، ويسأل الناس في محافلهم فلا يضع أحدٌ في يده شيئًا.

وعندها يتكلَّم من لم يكن متكلمًا.

فعندها تُرفع البركة، ويُمطرون في غير أوان المطر، وإذا دخل الرجلُ السوقَ فلا يرى أهله إلا ذامًّا لربِّهم، هذا يقول: لم أبع شيئًا، وهذا يقول: لم أربح شيئًا.

فعندها يملكهم  قومٌ إن تكلَّموا قتلوهم، وإن سكتوا استباحوهم، يسفكون دمائهم ويملأون قلوبهم رعبًا، فلا يراهم أحدٌ إلَّا خائفين مرعوبين.

فعندها يأتي قومٌ من المشرق، وقومٌ من المغرب، فالويلٌ  لضعفاء أمَّتي منهم، والويلُ لهم من الله، لا يرحمون صغيرًا، ولا يوقِّرُون كبيرًا، ولا يتجافون عن شيءٍ، جثَّتهم جثَّة الآدميين، وقلوبهم قلوب الشياطين، فلم يلبثوا هناك إلَّا قليلًا حتى تخور الأرض خورةً حتى يظن كلُّ قوم انَّها خارت في ناحيتهم، فيمكثون ما شاء الله، ثم يمكثون في مكثهم فتُلقي لهم الأرض أفلاذ كبدها.

قال: ذهبًا وفضةً؛ ثم أومأ بيده إلى الأساطين، قال: فمثل هذا، فيومئذٍ لا ينفع ذهبٌ ولا فضةٌ، ثم تطلع الشمسُ من مغرِبها.

معاشرَ الناس، إنِّي راحِلٌ عن قريب، ومنطلقٌ إلى المغيب؛ فاُوَدِعَكم وأوصيكم بوصية فاحفظوها: إنِّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن تمسكتم بهما لن تضلُوا أبدًا.

معاشر الناس، إنِّي منذرٌ، وعليٌّ هاد.
والعاقبة للمتقين، والحمد لله رب العالمين". (مستدرك الوسائل للميرزا النوري، ج11 ص372).

أقول: من يقومُ - بالله عليكم - على الظالمين؟ وتحت قيادة من؟

ثُمَّ أقول: ما هي الوظيفة الشرعية للمؤمنين في ظلِّ هذه الأجواء الموبوءة؟

ليست القضية في إزالة الظالمين، ولكنَّ القضية كلَّ القضية أنْ لا نكون ظالمين نحن مكان ظالمين.

هل نحن أقرب إلى الوقوع في مزالقٍ وظلماتٍ وقع فيها غيرنا.. أم لا؟

تأمَّلوا الدلائل والعلامات.

وفي المقال القادم إن شاء الله تعالى، أناقش التداخلات بين الدولة في المفهوم القرآني العتروي، وبينها في المفهوم السياسي الذي أسَّسه معاوية بن أبي سفيان!

ويبقى سؤالان أطرحهُما الآن وفي خاتِمَة كل حلقة من حلقات هذه السلسلة:

بأيِّ عينٍ وثقافةٍ ونَفْسِيَّةٍ ورُوحيَّةٍ نقرأ كتابَ الله المجيد وأحاديثَ المعصومين (عليهم السلام)؟

هل نحن على الطريق الصحيح أو أنَّنا في حاجة إلى مراجعات عاجلة وجادَّة جِدًّا؟

نلتقي في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى..



25 أبريل 2015

الزيجات والفتاوى العاطفية / أبو مقداد




"الخميني (قد) حينما سألوه كيف تكون رئيس دولة وعالم دين ورجل سياسة، بشجاعتك وتبقى على زوجة واحد؟ قال بحكمة العادل لنفسه: إني أخافُ أن ألقى الله تعالى وأنا ظالم لواحدة ولم أوفيها حقوقها فيكف ابلي نفسي باثنتين!

ومن قول للسيد السستاني لوصفه لزواج المتعة: ليس كل حلال يجب أن نقبله لأنفسنا ومن يتعلق بنا، فلو خطب بنتك مسلم أفريقي شديد السواد ونتن الرائحة وقبيح الوجه هل تقبله؟ مع أن التزويج حلال بل مستحب.

للأسف مشايخنا على المنابر ما يذكرون هذه النماذج الفريدة الخالدة، والتي تستحق التخليد، ويذكرون فقط مثنى وثلاث ورباع ومنقطع وكل ما يخدم حاجاتهم الخاصة"

هذا مقطع من (برودكاست) طويل تم تداوله في الأيام الأخيرة بشكلٍ كبير وغريب في المجموعات والحسابات الشخصية في مختلف برامج التواصل الاجتماعي، وخصوصًا من الفئة النسائية، وفي بعض المجموعات تحولت هذا الرسالة لنقاشٍ محتدمٍ بين من يؤيد وبين من يرفض، ليتحول الرجل الرافض لما جيءَ في مضمون الرسالة لمجرد (حيوانٍ شهواني) تحركه غرائزه، والمرأة التي توافقه الرأي قليلة أدب ووقحة، بينما الرجل المؤيد للرسالة هو رجل عاقل ومثالي وتتمناه كل بنت وامرأة، والمرأة المؤيدة، تمارس حالتها الطبيعية!

في الموضوع عدة زوايا أحاول الإحاطة بها بقدر الإمكان، متمنيًا عدم الإطالة عليكم..

أولًا: أتحدث عن موضوع النقل بلا مصدرٍ:-

في الآونة الأخيرة كما لاحظتُ كانت تُنشر وتنتقل عبر برامج التواصل الاجتماعي بعض العبارات أو المقولات وتُنسب للكاتب المسرحي ويليام شكسبير، أو العالم الفيزيائي ألبرت آينشتاين، ونيوتن وغيرهم، بعضها كان يُنسب لهم من باب الدعابة وبعضها كان جادًا، شخصيًا لم أتحقق من صحة تلك المنقولات فلم تكن تعنيني، ثم فجأة تطورت الحالة لأن صارت تُنسبُ بعضُ المقولات التافهة والسمجة لأمير الكلام الإمام المعصوم علي بن أبي طالب (ع) وعلى المراجع العظام، وحين تبحثُ عن مصادر لتلك المنقولات لا تجد سوى نقلها المتكرر والشائع بلا أي مصدر معتمدٍ من مصادر نقل الحديث. القضيةُ ليس هيّنة كالنقل لآينشتاين، لأن كلام المعصوم حجة على غيره، وكلام المعصوم قد يتسبب بآثار ونتائج سلبية وانحرافات عديدة والروايات لدينا في حرمة التقوّل على الله والمعصوم والفتيا بغير علمٍ كثيرة، أذكرُ منها "عن الباقر في صحيح أبي عبيدة قال: "من أفتى الناس بغير علمٍ ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتياه" وقال تعالى" قل إنما حرم ربي الفواحشَ ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون" وهذا نصٌّ صريحٌ على حرمة النقلِ بدون علمٍ وإن لم يعلم كذبه، والقضية لا تقتصر على اجتناب هذا الفعل لحرمته فقط، إنما لأثره المترتب عليه والذي ربما تسبب في حرمته بآيات صريحة وروايات صحيحة!

لذلك فنقل مثل هذه الرسائل أعلاه بلا أي مصدرٍ ودليل ستكون كذبًا وحكمها الحرمة إن لم تصدر فعلًا عن القائل.

ثانيًا: التأمل والتفكر في مضمون المنقول:-

الكثير الكثير من الروايات والمقولات المنقولة كذبًا على لسان المعصوم عليه السلام، لو رجعنا وقرأناها بأقل درجة تأملٍ سنكتشفُ ضعف سبكها وسوء صياغتها وركاكة مضمونها بالنسبة لما عُرف عن لغة المعصوم وفصاحته، فهناك الكثير مما يروج له وينتشر انتشار النار في الهشيم، لا يحتاج لأكثر من تأمل بسيط لرفضه، وبعضٌ منه مضمونه مخالفٌ للمنهج الإسلامي وفكره، إلا أنه ينتشر.. وأيضًا هناك مما يُنشر مما أُحسِنَ صياغته وذُيِّلَ بمصادرٍ وهمية، لذلك ينبغي على المؤمن قبل أن يتسرع في نشره لمثل هذه المقولات، أن يعود ليبحث عن المصدر الحقيقي، أو أن يسأل أهل الخبرة والاختصاص.

وكذلك نجر الأمر على الفقهاء والمراجع العظام، فالقضية أيضًا تحتاج تتبع وسؤال ومصدر، ومع عدم وجود المصدر الموثوق الحقيقي، وإن كان الكلام قد صدر فعلًا على لسان الفقيه فهل يجوز نشره باسمه؟!

في (البرودكاست) المنشور أعلاه مقولتان لفقيهين عادلين يشتهر بين عموم الشيعة عدلهما وتقواهما، الأولى على لسان السيد الإمام الخميني رحمه الله وقدس روحه الزكية الطاهرة، يقال فيها على لسانه بأنه يخاف أن يلقى الله وهو ظالمٌ لامرأةٍ واحدة، فكيف يبلي نفسه باثنتين!!!

أولًا: في هذه الكلمة دعوةٌ صريحة لنسف فكرة تعدد الزوجات خوف الوقوع في الظلم، فلا داعي لأن يبتلي الإنسان بزوجة ثانية بعد ويكفيه الابتلاء بالأولى، إن صح صدور هذا  على لسانه - وحاشاه - فببساطة سنقول له، وما الضمانة في أن لا تظلم الزوجة الأولى أيضًا، فهل ستلقى الله ظالمًا لامرأة؟ أم أن ظلمَ واحدةٍ قليلٌ أمام ظلم اثنتين على مرجعٍ بعظمتك؟

ثانيًا: كيف يقول الله وانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورُباع، ويأتي مرجعٌ حمل لواء تجديد نشر الدين في الكرة الأرضية بأجمعها ليخالف تشريعًا سماويًا بتصريحٍ كهذا، وهو القدوة فيه!

ثالثًا: كيف استطاع النبي محمدٌ أن يدير الدولة الإسلامية آنذاك ولم تعقه زيجاته؟

وإنّ من يطلع على كتب وكتابات السيد الخميني ببساطة يمكنه ملاحظة سطحية وتفاهة هذا الفكر المنقول في الرسالة الكاذبة هذه، وحاشى لروح الله أن ينطق بهذه الكلمات!!!

المقولة الثانية هي لآية الله العظمى وزعيم الحوزة العلمية في النجف الأشرف السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله وحفظه الله أمينًا للدين وللعراق.. يقال فيها على لسانه بأنه يرفض الزواج المنقطع بحجة أنه ليس كل حلالٍ يجب أن نقبله على أنفسنا، فلو تقدم للخطبة (أفريقي شديد السواد نتن الرائحة قبيح الوجه) فهل ستزوجه ابنتك؟!

حين يقول نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وعلى آله، إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، وحين يقول، لا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى؛ فنفهم رأسًا بأنه لا يمكن لفقيهٍ عادلٍ أن يفرق بين البشر بجنسيتهم أو بلونهم أو بقبحهم وجمالهم وما شابه، وهذه لن تكون في معاييره، بل أنه أولى من يطبق المعايير الشرعية، لذلك لا يمكن لأي عالم دين فضلا عن فقيهٍ كالسيستاني أن يتفوه بمثل هذه الكلمات التي ما أنزل الله بها من سلطان ويستنقص من رجل مسلم بسبب عرقه أو لونه!!

أغلق هذه النقطة وأقول بأن الكلام المذكور في الرسالة خاطئ وباطل، لانتفاء وجود المصدر ولعدم قبوله عقليًّا!

ثالثًا: فيما يخص قضية تعدد الزوجات والزواج المنقطع!

أتصور بأن هذا من أكثر المواضيع الجدلية المثارة بين النساء والرجال، والحرب الطاحنة التي لا يقبل رفضها الرجال باعتبارها حقًّا من حقوقهم، ولا تقبل قبولها النساء، باعتبارها انتهاكًا لحقوقهم، وقصة لا تكاد تنتهي حتى تبدأ من جديد، بإطارات مختلفة وتبريرات متعددة، وعواطف منفلتة، وغالبًا تنحصر تبريرات الرجال في أن هذه الزيجات بأنها حقٌ شرعي، واعتراض النساء بأنها ظلم باسم الشرع، ويكاد الرجال يختزل الشرع في روايات و آيات الزواج، في حين تكاد النساء تكفر بذات الآيات والروايات، والصراع مستمر!

الأحكام الشرعية الخمسة - الواجب، المستحب، المباح، المكروه، الحرام - أوجدها الله، والله عز وجل لا يوجِدُ شيئًا بلا علة ولا حكمة، فلكل حكمٍ شرعيٍّ علتهُ الخاصة به المنعكسة على الفرد المجتمع والدين، فلا يوجد محرَّمٌ عبثيٌ فقط من أجل تحريمه، ولا يوجد واجبٌ شرعي عبثي من أجل تطبيقه فقط، وهكذا على بقية الأحكام، لكلها علة وجودية، ومن الجيِّدِ بعد الإمتثال لها أن نبحث في عليتها وحكمتها، و بما أن لموضوعنا الأساسي في هذا المقال حكمًا شرعيًا فلا بد أن لهذا الحكم علة ما من الجيد أن نبحث فيها.

خلق الله الرجل تعدديًّا، والمرأة متفردةٌ بالفطرة، وهذا ما يمكن ملاحظته في السلوك البشري، فلا يكتفي الرجل الطبيعي بامرأة واحدة تلبي حاجاته العاطفية والنفسية، قد يقبل بواحدةٍ وقد يرضى بها، إلا أنه سيظل قادرًا على أن يرتبط بأخرى أو أخريات، وبالمقابل لا يمكن أن تتمكن المرأة الطبيعية أن تتقبل رجلين في حياتها تحت أي مبرر، وهذا أحد علل تشريع هذه الزيجات، كما أن من عللها الأخرى أنها تغطي حاجة وقابلية الرجل لأكثر من امرأةٍ من جهةٍ، وأنها تساهم بشكلٍ ما في حل مشكلة من أكبر مشاكل النساء، وهي النساء اللاتي تعذَّر بهم أمر الزواج لسببٍ أو لآخر، فوُجدَ هذا النوع من الزواج كمشروعِ حلٍّ قد يساهم في الحل مشاكل الكثير منهن.

طبعًا لا أحصر هنا عليّة وحكمة الزواجين المذكوريْن في ما عللته أنا، فهذه نتائج تأملي الشخصي، وقد يحتملان فلسفات أكثر وأعمق، ولكن الغرض هنا من الإشارة لهذا الأمر أن نتجنب إطلاق الفتاوى العاطفية التي تناسب أمزجتنا، وأن لا نعترض على حكمٍ شرعي بحجة أنه لا يناسبنا، بل من المفيد جدًّا لو بحثنا في فلسفة كل حكمٍ شرعي، وفهمناه جيدًا ومارسناه عن معرفة وقناعة.. ولكن بعد أن نمتثل له بالطبع.


25 أبريل 2015

لقريتي وفاءٌ و عزة .. / زينب المغلق


"الثعلب.. فات فات، وبذيله.. سبع لفات" هذه الأنشودة ترنّ في أذني كلّما عادت بي الذاكرة إلى أزقّة قريتي الجميلة، التي ولدتُ ونشأتُ بين رمالها، حيث كنّا مجموعةً من الفتيات يفترشنَ الأرض على شكل حلقة، ونحن نردّد هذه الأنشودة: "الثعلب.. فات فات، وبذيله.. سبع لفات" والتي يقع عليها الاختيار تخرج من إطار الحلقة، ومن تبقى وحيدة حتّى نهاية اللّعبة هي الظّافرة بالمركز الأول، لكي تصبح هي الثّعلب في المرة الأخرى.

أيام جميلة حقًّا، كم تسامرنا فيها بحب وبراءة بين طرقات القرية.. وكم كنّا نتعاون مع بعضنا لندّخر بعض المال من مصروفنا ليتسنّى لنا شراء بعض المأكولات والمرطبات، والسعادة الكبرى هي ذهابنا لخيّاط القرية لنجمع أكبر عدد من قطع الأقمشة، لكي نصنع لدُمانا ملابسًا.

إذًا تعالوا معي لأُحدّثكم عن هذه القرية الصغيرة، التي أصبحت جزءًا لا يتجزّأ مني، بل أتباهى وأفتخر عندما يناديني مَن حولي (زينب السهلاوي) أو (السهلاوية).

السهلة الجنوبية هي إحدى قرى البحرين الصغيرة مساحة وسكّانًا، أمّا جغرافيًّا فتقع جنوب غرب المنامة، ومن أبرز المعالم التي تشتهر بها القرية، هو مسجد الشّيخ عزيز الذي يفصل بين السهلتين، ومن أكبر عوائل هذه القرية، العوائل التّالية: الرفاعي، المغلّق، آل موسى و آل عيسى.

أصل تسمية القرية بهذا الاسم هو طبيعة تربتها السّهلية الزّراعية الخصبة، وكثرة العيون العذبة والبساتين التي تمتاز بالطبيعة الخلابة، لذا نجد أغلب رجالاتها انخرطوا في مجال الزراعة وتربية المواشي، ولأجدادي تاريخٌ عريق في هذا المجال.

صِغر مساحة القرية له مميزات عدة، إذ أنّ العوائل الموجودة - بالقرية - جميعها مترابطة مع بعضها، ففي المناسبات ترى وجوه الجميع حاضرة وكأنّهم عائلة واحدة، ولا أخفي عليكم بأنّ أفراحنا وأحزاننا واحدة.

هناك بعض الشّخصيات التي لها بصمات واضحة في القرية، مثل: الوجيه السيد مهدي السيد كاظم صاحب اليد المعطاءة، التي امتدّت لكل بيت محتاج، وهو الرئيس الفخري لمركز السهلة الجنوبية، والحاج أحمد المتروك رحمه الله، وتاريخه حافل بالإنجازات الخيرية، فهو من ساهم بالأرض التي بني عليها مأتم الرسول الأعظم، وهناك بعض الأساتذة الأفاضل الذين ساهموا في بناء جميع مؤسسات القرية وتطويرها على كافة الأصعدة، منهم على سبيل المثال لا الحصر، الأستاذ سعيد السهلاوي رحمه الله، وهو من الأساتذة المخضرمين على مستوى البحرين، والأستاذ سيد عباس فردان، فهو أيضًا من الأساتذة القدامى اللذين انخرطوا في السلك التربوي، وخرّجَ الأجيال، والأستاذ جاسم آل موسى. كذلك لا ننسى الخطباء والأدباء رحمهم الله، كالحاج الملا عبد الرسول السهلاوي، والحاج الملا محسن سليم، فدواوين أشعارهم تُذكر في كل محفل من المحافل الدينية.

إن مررت بجانب السهلة ودورها
              فحيّيها بالسّلام قبل أن تزورها

هذا ليس كلّ شيء، وإنّما قليل مما خطّته أناملي، عندما تحركت الذكريات بداخلي، فسارعت بكتابة ما كتبت، ولعلني أتوفق لكتابة بحث أوسع لاحقًا، عن قريتي وقرى بلادي الأخرى، الزاخرة بالتاريخ العريق، على جميع المستويات.
 

25 أبريل 2015

مجتمع أحوَل!! / إيمان الحبيشي


 

(إنّا في مجتمع لا يرى الخطأ إلا عندما تُمارسه امرأة)!
عبارة أُلقيتْ بإحدى مجموعات التواصل الاجتماعي، لفتت نظري كثيرًا، وأدخلتني في سلسلة من الأفكار والتوقعات والهواجس. كما أنها ذكرتني بعبارة قرأتها  منذ مدة للدكتور علي شريعتي: "أُشفق على الفتاة حين تسوء سمعتها، فهي لا تستطيع تربية لحيتها لتمحو تلك الصورة".. في إشارة لازدواجية معايير مجتمعاتنا - بحسب رأي شريعتي - وهو ما جعلني أطرح على نفسي تساؤلًا في غاية الأهمية: 

هل يعقل أنا نعيش حقًا في مجتمع أحول! عَمِّي عن أخطاء الرجل، بينما يرى خطأ المرأة مرتين؟!

في البداية لا بدّ وأن نعود لطبيعة ودور الرجل والمرأة في المجتمع، كل على حدة، قبل أن نقرر عقد مقارنة في أسلوب تعامل المجتمع مع كل منهما.

سابقا كتبت مقالًا تطرقت فيه للدور التكاملي بين المرأة والرجل*، أوضحت خلاله خلل الدعوة للمساواة المطلقة بينهما - بحسب وجهة نظري وربما وجهة نظر الكثيرين - وعليه فمن الطبيعي أن يختلف تعامل المجتمع مع كل منهما، لاختلاف طبيعة ودور كل من الرجل والمرأة.

بينما بدأتُ أتصفح بعض الدراسات من أجل الإعداد لمقالي هذا، وقعتْ بين يديّ دراسات تتحدث عن الخجل، وهو في ثقافتنا ما نسميه "الحياء" حيث وجدتُ أنه وعلى مستوى العالم فإن المجتمعات تجد أنّ الحياء صفة أنثوية، وهو ما أجده وستجدونه مقبولًا حتمًا، بين صفحات عقولكم وقلوبكم، حتى وإن ادّعت دراسة أخرى، وصولها لنتيجة مثيرة تُختصر في «أن "الخجل" عند الرجل أكثر منه عند المرأة! أما التفسير العلمي بحسب تلك الدراسة فمرتبط بالهرمون الذكري الذي هو أكثر تأثيرًا في حركة الدورة الدموية، وفي المواقف المحرجة، يتزايد هذا الهرمون ويساعد على اتساع الشرايين والشعيبات الدموية الطرفية، خاصة في الوجه، بينما نجد أن الهرمون الذكري لدى النساء أقل بكثير منه لدى الرجل».

ولأن الطبائع البشرية، لا تحكمها الهرمونات بل ثقافة المجتمع، فأجدني مصدقة لملازمة صفة الخجل للمرأة، وتقلص نسبتها أو اختلاف أسلوبها عند الرجل، والشواهد على ذلك كثيرة، خصوصًا في مجتمعنا وثقافتنا. شاهد القول أنه وبسبب ارتباط صفة الخجل بالمرأة، فلربما صار المجتمع يرفض أي خطأ تمارسه هي بالذات أضعافَ رفض المجتمع لخطأ الرجل، على اعتبار أنّ في ممارستها للخطأ خروج عن طبيعتها أولًا، وأن كسرها لحاجز الخجل وخروجها ضده، تمرد على المجتمع أيضًا، مما جعل تكلفة خطئها "نسبيًا" أكبر من الرجل، ذلك أن المجتمع - ونظرًا لطبيعة ودور المرأة - وضع الكثير من القواعد في سبيل رعاية وحفظ ذلك الدور وتلك الطبيعة - بعيدًا عن تقييم تلك القواعد - ما جعل ارتكاب المرأة لخطأ ما، تحدٍ لقواعد المجتمع وجرأة كبيرة عليه.

تلك ليست دعوة لمعاقبة المرأة، عند ارتكابها لخطأ ما دونًا عن الرجل، فالحق أن الرقابة الاجتماعية وسيلة مهمة للردع، ولأن هدف المجتمع هو وأد الخطأ واستمرار الحالة الصحية له، فالطبيعي أن يُرفض الخطأ أيًا كان ممارسه، رجلًا أو امرأة، على أن تكون هناك آليات صحيحة لردع الأخطاء وتصحيحها، بل وتأهيل مرتكبيها للعودة والانخراط في مجتمعهم بشكل صحيح، يحفظ المجتمع دون أن يخسر أفراده ما أمكن ذلك.

الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله يقول: (الحياء شعبة من شعب الإيمان) وحينها لم يفرق الرسول بين حياء المرأة والرجل، ذلك أن الحياء المقصود هو التورع عن ارتكاب المحرمات، وهو المطلوب من الرجل والمرأة على حد سواء.

وحين يخاطب الله عباده فيقول: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) فانه يقول أن لا فرق بين عبادة الرجل وعبادة المرأة، فالصادق والصادقة والقانت والقانتة والصائم والصائمة، لهما من الأجر ذات المغفرة والأجر العظيم.

وحين يأمر الله عباده فيقول:  (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارهمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجهمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ) فانه لم يستثن الرجل ولم يخص المرأة.

إذًا فالمشكلة الحقيقية ليست في أن نردع خطأ المرأة، بل أن يتم التغاضي عن خطأ الرجل، وأتصور ان الكارثة الحقيقية تقع، عند ظلم بعض الفئات الاجتماعية النسائية، بينما تفرش الدنيا زهورًا للفئات الاجتماعية ذاتها حين تكون من الرجال! وهو ربما ما حدا بالبعض لأن يعمم صفة "حول المجتمع" في نظرته للمرأة والرجل.

على سبيل المثال؛ فعندما يفقد رجل زوجته فإن المجتمع كل المجتمع يدفعه للزواج من أخرى، لترعاه وترعى شؤون بيته وعياله "والحي أبقى من الميت"، بينما ذات المجتمع يجد أن زواج الأرملة "قلة إخلاص" للزوج الذي أفنى حياته في رعايتها، أو حتى للأبناء الذين تقوم على رعايتهم وإن لم يخرجوا من تلك الرعاية مع زواجها! وعلى ذلك قس الكثير من الأمور.

إذًا فمجتمعنا يعاني درجة من الحول، حين يحكم على المرأة بالحياة مرة واحدة في عمرها الطويل، فإن ترملت انتهت حياتها عند تلك المحطة! وإن رفضت الاستمرار مع زوج سيء الطباع، حكم عليها بالتمرد، وعوقبت بالرجم عند تلك الثورة، في حين سيدعو المجتمع الرجل الذي ابتلي بامرأة سيئة لأن يكسر رأسها بالطلاق! 

يقال أن الحوَل عيب يمكن علاجه.. فهلا قومنا حَوَل مجتمعنا من أجل بصيرة أفضل!  


24 إبريل 2015
______________________________________________
المقال السابق بعنوان تكامل المرأة والرجل: 

Friday, April 17, 2015

على ضفاف الذكريات (19) // ز.كاظم

 
 
بسم الله الرحمن الرحيم

في آخر ليلة لنا في أورلاندو قررنا أن نزور مدينة صغيرة بالقرب منها اسمها "كيسيمي" وبينما نتجول بالسيارة فيها وإذا بلافتة على مبنى معزول مكتوب عليها ليالي العرب "Arabian Nights"..
 
  

ما هذا المكان؟ وما علاقته بالعرب؟! هل من الممكن أن يكون من أماكن فساد العربان التي نسمع عنها؟

كان المكان مطوّقًا ومعزولًا، يكتنفه الغموض.. حاولنا أن نستكشف المبنى من جوانبه، لكنه كان مسوّرًا.. تملّكنا الفضول حتى كاد أن يفتك بنا.. حاولنا أن نستكشف المكان من يمين المبنى إلى شماله..

لم نرغب أن ندخل فلربما كان مكانًا للفسوق والفجور، ولكن الفضول لم يكن ليتركنا.. بعد مداولات طويلة قررنا أن نغامر وندخل.. فهذه فرصة العمر لنرى كيف يتصرف العرب في هذه الأماكن.. دفعنا قيمة الدخول وكان العرض مع عشاء.. ماذا سنرى! وكيف سنتصرف!!
 
دخلنا فتفاجأنا.. وإذا بهذا المكان الذي نسجنا الخيالات حوله لم يكن إلا سيركًا!! ولم نجد عربًا فيه إلا نحن الثلاثة!!!
 
لا طاولات، ولا كراسي فاخرة.. لا عربٌ ولا زندقة.. وإنما خيول واستعراضات!!
 
خيّمت على رؤوسنا خيبة أمل كغمامة سوداء ترعد وتبرق ولكنها عقيمة لا تمطر.. قضينا تلك الفترة ونحن نشاهد الاستعراض تارة نضحك على أنفسنا، وأخرى نلومها! حتى الطعام لم نتمكن من أكله.. الحمد لله تم إغلاق هذا المكان بعد خمسة وعشرين عامًا ربما بسبب دعواتنا عليه!  
 
Arabian Nights Orlando  

من أجمل المعالم السياحية التي زرناها في مدينة أولاندو (فلوريدا) هو منتزه "عالم البحار"  SeaWorld الذي افتتح في عام 1973.. وبالرغم من كونه معلمًا تجاريًا سياحيًا يزوره السواح بالملايين كل عام ليدر على أصحابه ملايين الدولارات، إلا أن فيه أمورًا تثير الإعجاب من ضمنها مدى قدرة الإنسان على تدريب وتطويع الحيوانات البحرية.. فالعروض التي لا يتجاوز كل عرض منها الساعة تكشف تلك العلاقة بوضوح، فعرض الدولفينات مثلًا وهي تمتلك ذكاءً كبيرًا تراوح وتقفز مع أصوات الموسيقى وحركات المدربين.. أما ذلك الحوت الأسود القاتل "شامو" والذي يصل طوله إلى 14 قدم ويزن قرابة التسعمائة كيلوجرام فهو أعجوبة في الاستعراض،، فأول ما يبدأ العرض يأتي إلى منصته ليسلم على الجمهور بتحريك ذيله يمينًا وشمالًا، ورأسه من الأعلى إلى الأسفل.. ثم يبدأ العرض بحركات استعراضية تكشف عن جمالية هذا الكائن وهو يقفر في حركة بهلوانية فوق الماء، وينتهي برش الجمهور بالماء.. 



بعد انتهاء العرض، قمنا ومشينا قليلًا لنتذكر أننا نسينا الكاميرا على المقعد.. عدنا سريعًا وإذا بالكاميرا قد اختفت في دقائق معدودة واختفت معها آمالنا في استرجعاها.. ما هذه الحالة المزعجة من مد اليد على مال الغير! ذهبنا إلى قسم المفقودات لنسأل عن الكاميرا المفقودة ونحن على يقين أنها لن ترجع.. لم يجدها أحد، لكنهم طلبوا منا أن نترك معلوماتنا عندهم ليرسلوها لنا بالبريد إن وجدوها مع وصف للكاميرا.. نعم، صحيح، سيقوم أحد ما بإرجاعها وسيقومون هم بإرسالها لنا على البريد! لم نكن لنصدقهم، ولكن تركنا معلومتنا عندهم مع وصف دقيق للكاميرا.. وبعد عدة أسابيع استلمناها من البريد!! معقول، أن أحدًا وجدها وسلمها للمفقودات!! نعم.. كان موقفًا شريفًا من يد أمينة قامت بمسؤوليتها في حفظ المال المفقود. موقف لم نكن لننساه..

بعد قضاء عدة أيام في فلوريدا شددنا رحالنا للرجوع.. يتميز خط الرجعة بأنه ممل ومتعب على خلاف خط الذهاب.. ليس لدينا ما نأمل لرؤيته غير بعض الأصدقاء في ولاية أريزونا.. كانت عودتنا على مدينة لتل روك لنقضِ يومين آخرين مع محسن أبو عضلات وزميله نزار.. ثم اتخذنا خطًا للرجعة يمر على الولايات الجنوبية (تكساس، نيومكسيكو، أريزونا، كاليفورنيا) إلى ولاية أوريغون.. كان خط الرجعة قلما نقف فيه إلا لنتزود من الوقود أو للأكل والصلاة.. 

أيقضني نبيل لصلاة الفجر في طريقنا إلى ولاية أريزونا.. فتحتُ عينيي والشمس لمّا تبزغ.. سألت نبيل ما هذه الرائحة! إنها رائحة روث البقر.. نظرتُ حوالي وإذا نحن عند محطة بنزين.. اشمأززت من هذا المكان، ما هذه المدينة! وهل نحن في أمريكا أم المكسيك!!! المباني قديمة وبالية، والأرض قاحلة صفراء! سألت نبيل عن المدينة، فقال إنها لاس كروسز، في ولاية نيومكسيكو الأمريكية! معقول! هذه المدينة وهذه الولاية في أمريكا! ومَن يسكن في هذه المدينة الصغيرة القاحلة ذات الرائحة العفنة!!! قلتُ ذلك وأنا على موعد مع القدر.. هذه المدينة ستكون محطة دراستي في المستقبل القريب.. ليس ذلك فحسب، بل ستكون من أفضل المناطق التي سكنتُ فيها وكوّنتُ فيها الكثير مع العلاقات بل وفتحت لي آفاقًا في العمل الإسلامي والاختلاف العرقي والمذهبي!!!
 
وصلنا مدينة توسان في ولاية أريزونا (ولاية نبات الصبّار)، وهي مدينة صحراوية تحيطها خمسة نطاقات صغيرة من الجبال.. تتميز بجوّها الحار مع رطوبة عالية.. كانت نسبة الطلبة العرب فيها كبيرة وأغلبهم يدرس في جامعة أريزونا.. ترتكز التنمية الاقتصادية في هذه المدينة على تطوير جامعة أريزونا، والتي تعتبر حاليا ثاني أكبر مكان للعمل في المدينة.. الطلبة العرب الذين زرناهم قاموا بحسن الضيافة على أكمل وجه.. قضينا معهم عدة أيام جميلة، ثم طفقنا راجعين مرورًا بولاية كاليفورنيا، وكانت المسافة بين توسان إلى مدينتا ما يقارب الواحد وعشرين ساعة، وهي مسافة طويلة جدًا نقتفي فيها الطريق تلو الطريق تحت أنوار النجوم ليلًا وهي تزين صفحة وجه السماء، وصفاء نور الشمس صباحًا وهي تزهو بأشعتها من بين السحاب على جبال كاليفورنيا / أوريغون..


كانت الرحلة مفيدة جدًا لنا فقد أبانت لنا اختلاف الطبيعة الجغرافية والتضاريسية بين الولايات، وكذلك اختلاف القوانين المرورية، واختلاف طباع الأمريكان ولهجاتهم.. كنّا نعتمد على الخريطة في الوصول إلى المناطق التي نريدها، وعند دخولك لأي ولاية فإن في بدايتها مركزًا صغيرًا تباع فيه الخرائط وبعض الأشكال المزخرفة عن الولاية، كما يُزوّد الزائرون ببعض المعلومات العامة عن الولاية.. ومع طول مسافة السفر فإنه يستولي عليك العجب والاستغراب من هذه الطرق والشوارع التي تشق الأرض كالحيات على قارة كبيرة كأمريكا.. نظام الطرق والشوارع مع اختلاف الولايات إلا أنه متشابه إلى حد كبير.. وأكثر شيء أثار انتباهنا التخطيط الهندسي للشوارع بصورة عامة، إذ وأنت تقطع المسافات الشاسعة فإنك تمر على مناطق لا يوجد فيها إنسان ولا تكاد أن تنتبه إلى عداد البترول وهو يقارب على الانتهاء إلا وترى محطة بنزين في منطقة نائية لا توجد إلا هي، وكأنما قد تم التخطيط لأماكن هذه المحطات.. كذلك، تستغرب من الأيدي العاملة التي شقت هذه الطرق في الجبال والصحار والهضاب وغيرها.. صادفنا عدة مرات عمالًا أمريكان في مناطق نائية جدًا وهم يقومون بتصليح أو تعمير الشارع، ويلفت انتباهك ذلك الرجل الواقف وهو يرتدي قبعته وقميصه الأصفر تحت وطأة حر الشمس الحارقة، والذي كل مهمته أن يمسك باللافتة لتنبيه السيارات القادمة للتخفيف من سرعتها.. أما في الليل، فالشوارع مظلمة لا إنارة فيها ولا تهتدي إلا بمجسمات صغيرة في الشارع تعكس ضوء السيارة.. كنا نستغرب من هذا البخل لدولة عظمى كأمريكا في عدم إضاءة شوارعها!!



كنا نتوق شوقًا للرجوع إلى مدينتنا، حبًا فيها أو ربما سأمًا وتعبًا من طول السفر وعناءه.. لا أعلم كيف استطعنا أن نواصل تلك الرحلة التي استغرقنا الكثير منها في الطريق.. تنام في الكرسي الخلفي متقوّسًا وتصحو وتسوق وتتوقف لشحن البترول، تصلي وتأكل قليلًا لتعيد الكرة مرة أخرى.. لكن بالرغم من التعب والنصب إلا أنها رحلة مليئة بالأحداث والمغامرات والدروس.. 


 
يتبع في الحلقة القادمة..

 
18 إبريل 2015

الكبوات والعوائق..تداركٌ أو لا تدارك // محمود سهلان

 
 
كثيرًا مّا يتعرّض الإنسان للكبوات في حياته، أو لا أقل بعض العوائق الخارجة عن يديه، أو حتى بعض التّقصير منه، ممّا يؤدي لتأخره في مجال أو آخر، مما يؤثّر على كلّ حياته.
 
هذه الكبوات، وهذه العوائق، وهذا التقصير، تؤدي بالإنسان لخسارة الكثير من الوقت، والكثير من الفرص في حياته، وربّما الكثير من الجهد، فهي بالتالي تؤخّره عن أهدافه (إن كان له أهدافًا)، أو عن الوصول لما يغطّي حاجاته، سواء كان الخلل على مستوى الدّراسة والعلم، أو على مستوى العمل والكسب.
 
هذه الحالة نتيجة لبعض المقدّمات لا محالة، والآن صارت مقدّمة مجتمعة مع مقدمات أخرى، لترسم لنا نتيجة جديدة، فمن الضروري حينها عدم إغفالها، فيلزم لمن مرّ بهذه المرحلة أنْ يفكّر فيها، ويدرسها جيدًا، ليتدارك ما يمكنه تداركه، وينطلق في حياته من جديد.
 
قد نستطيع تقسيم النّاس باعتبار الهدفية إلى أصحاب أهداف، وإلى غيرهم، وهم اللّاهدفيون، أمّا الثاني فعادة يكون أصحابه ممن جعلوا أهدافهم لا تتعدى حاجاتهم ورغباتهم، فحولوها أهدافًا، فتلك الكبوات أو العوائق الماضية، تقل أهمّيتها، ويقل تأثيرها في مشوارهم، ففي النهاية يمكنهم العثور على وظيفة يستحقون عليها أجرة، أو تجارة تدر عليهم المال، وهنا تكون حياة هؤلاء مناسبة بالنسبة لهم، وما سبق من كبوات وعوائق وتقصير وتضييع للوقت والفرص، لم يكن له ذلك الأثر بالنسبة لهم. وإن كان في حقيقته ذا أثر، ومع ذلك قد يفشل هؤلاء حتى في توفير هذه الحياة.
 
أما أصحاب الأهداف الكبيرة، سواء كانت على المستوى الفردي أو على المستوى الجماعي، فإنّ هذه الكبوات والعوائق يكون له الأثر الكبير في مشوارهم، فإنّ ضياع الوقت، وضياع الفرص، من شأنه أنْ يؤخر هؤلاء عن التقدم نحو أهدافهم، إما بمراوحتهم ذات المكان أو بتراجعهم للخلف أحيانًا، فيترتب على ذلك بعض الأمور، من أهمها أنّ هؤلاء قد يعيشون الكثير من الألم النفسي على ما ضيّعوه، والضغط النفسي الملازم لسعيهم لتعويض ما فات، خصوصًا وأن الحاجة للحاق بركب الناجحين من أصحاب الأهداف، ستجعلهم يكثفون جهودهم، ويضغطون أوقاتهم، فتغدو الـ ٢٤ ساعة قصيرة جدًا بأعينهم.
 
عطفًا على ذلك، فإنّ من الأفضل لكلّ مقبل على هذه الحياة أنْ يسعى للسير بشكل صحيح، في الوقت المناسب، وأنْ لا يركن للكسل، وحب الراحة، وما إلى ذلك من الصفات السلبية التي تؤدي لتضييع الوقت والجهد والفرص، فإنّه سيدفع ثمنها لاحقًا بكلّ ألم ومرارة، بل قد تكون عائقًا لا يتجاوزه مدى حياته، خصوصًا إذا كانت نفسه ضعيفة، فلا تكون حينها كبوة أو عائقًا، بل تكون رصاصة الرحمة على كلّ أحلامه وآماله وأهدافه. لذلك فمن الأفضل أداء الأمور بوقتها، وبذل الجهد بوقته، قبل أن يتضاعف المطلوب مرات ومرات، فيتضاعف الجهد المؤدي للوصول للمطلوب مرات ومرات ومرات.
 
لست أدعو من تعرّض لمثل هذا الأمر، وتأخّر في طريق تحقيق أهدافه، لأن ييأس أو يتراجع، بل على العكس تمامًا، أدعوه للجد والاستمرار للوصول لمطلوبه، ولو كلّفه ذلك كثيرًا، لكنّ الحياة هي هكذا، فلزم منا أنْ ننبه لهذه الحال، لا كحديث مثالي كما قد يراه البعض متّهمًا (فالمثالية عند بعضهم تهمة)، بل كتجربة عشتها لا أريد لغيري أنْ يعاني جانبها السلبي، وأريد له أنْ يأخذ الإيجابي منها، ويستمر في سعيه لتحقيق أهدافه، مهما كانت التكلفة باهظة، فقد قال لي أحدهم كلمة رسخت في ذهني (أنت اقتحمت الحياة)، وكان تعبيره قريبا للدّقة كما أظن.
 
قال تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) [التوبة: ١٠٥].
 
 
٢٩ جمادى الآخرة ١٤٣٦ هـ

الشُيُوعِيَّةُ، وإنْ غَابَ أو (غُيِّبَ) رَسْمُها (25) - "رُؤى من القرآن والعترة (6) / محورية وجود المعصوم (عليه السلام) في اتخاذ القرار.. إشكال وجواب" // محمد علي العلوي

 
 
أفادني بعض مِمَّنْ أُقدِّرُ متابعتهم لهذه السلسلة من المقالات بإشكال استظهروه من الحلقات الأخيرة، ومُحَصَّله أنَّ الدعوة فيها توجِّه نحو التراخي وترك الساحة للظالمين دون مقاومة ولا ردع ولا جهاد، بحجَّة تعلُّق أمر القرار بالمعصوم أو لا أقل بنائبه من الفقهاء المراجع، وفي ذلك تكريس للبلادة والقبول بالذل المبرَّر (دينيًّا).
 
في الواقع أنَّ الجواب على الإشكال المذكور هو المرجو من هذه الحلقة والتي تليها، وفي مقامه نحتاج لمقدَّمات..
 
• المُقدَّمة الأولى:
 
يقول الله تعالى (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)، ولاستيعاب بعض أبعاد ومضامين هذه الآية المحورية، علينا الإجابة على سؤال: خليفة لِمَنْ؟ من هو المُستَخْلَف؟
 
الجواب:
 
عن محمد بن إسحاق بن عمار قال: قلت لأبي الحسن الأول (عليه السلام): "ألا تدلني إلى من آخذ عنه ديني؟
فقال: هذا ابني علي، إنَّ أبي اخذ بيدي فأدخلني إلى قبر سول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا بني، إنَّ الله عزَّ وجلَّ قال: (ِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) وإن الله عزوجل إذا قال قولًا وفى به". (الكافي للكليني ج1 ص312).
 
وفي حديث طويل عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، إنَّ الله تعالى قال للملائكة: "إنِّي أُريد أنْ أخلُقَ خلقًا بيدي، وأجعلَ مِنْ ذرِّيته أنبياء ومرسلين، وعِبادًا صالحين، وأئمَّةً مهتدين، أجعلهم خُلفَاءَ على خلقي في أرضي، ينهونهم عن معصيتي، ويُنذرونهم من عذابي، ويهدونهم إلى طاعتي، ويسلكون بهم سبيلى، وأجعلَهم لي حجَّةً عليهم وعُذرًا ونذرًا". (علل الشرائع للصدوق ج1 ص105).
 
يظهر من هاتين الروايتين وغيرِهما، إنَّ الخليفة الذي أرادَ الله تعالى أنْ يجعله في الأرض هو المعصوم المُنتَجَب، وأمَّا من ولاه فهو على طريق الخلافة الإلهية، وإلَّا فالمحل للمعصوم (عليه السلام) كمحل القطب من الرحى.
 
ومن الواضح أنَّ المُستَخلِف هو الله تعالى، لصريح قوله (ِنِّي جَاعِلٌ)، وبذلك فإنَّ لهذه الأرض نظام إداري استوى عليه الله تعالى (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)، ثمَّ أرجع الخلائق إليه عن طريق النبيِّ والأئمة (عليهم السلام)، وهو قوله عزَّ وجلَّ (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ)، و(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
 
ونتيجة المقدَّمة الأولى، هي: إنَّ أمرَ المؤمنين في هذه الحياة الدنيا إنَّما هو للمعصوم (عليه السلام)، وليس في هذا حجر على العقول ولا مصادرات للفكر، وهذا ما تبينه الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي تحض على التدبر والتفكر والإبداع، ولكنَّ هذا كله مشروط بعدم الخروج عن أطر المنظومة الحاكمة لولاية المعصوم (عليهم السلام).
 
• المُقدِّمة الثانية:
 
يقول الله تعالى (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ).
 
تتدخَّل الإدارةُ العُليا بشكل مباشر في وقت معلوم، ويكون حينها النصرُ للمستضعفين وتمكينهم في الأرض، بإرادة الله تعالى، وقيادة المعصوم (عليهم السلام)، فعن عبد الرحمن بن سمرة قال: قلت: يا رسول الله، أرشدني إلى النجاة.
فقال (صلى الله عليه وآله): "يا ابن سمرة، إذا اختلفت الأهواء، وتفرَّقت الآراء، فعليك بعلي بن أبي طالب؛ فإنَّه إمام أمتي، وخليفتي عليهم من بعدي، وهو الفاروق الذي يميز بين الحقِّ والباطل، من سأله أجابه، ومن استرشده أرشده، ومن طلب الحقَّ مِنْ عنده وجده، ومن التمس الهُدى لديه صادفه، ومن لجأ إليه آمنه، ومن استمسك به نجَّاه، ومن اقتدى به هداه.
يا ابن سمرة، سَلِمَ من سَلَّمَ له ووالاه، وهلك من ردَّ عليه وعاداه.
يا ابن سمرة، إنَّ عليًّا مني، روحه من روحي، وطينته من طينتي، وهو أخي وأنا أخوه، وهو زوج ابنتي فاطمة سيدة نساء العالمين من الاوَّلين والآخرين، وإنَّ مِنْه إمامَي أمتي، وسيدَي شباب أهل الجنة: الحسن والحسين، وتسعة من ولد الحسين، تاسعهم قائم أمتي، يملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما مُلِئت ظلمًا وجورًا". (الأمالي للصدوق ص78).
 
ومحصِّلة المقدمة الثانية هي إحراز القوس الثاني من قوسي الخلافة الإلهية التي انطلقت بآدم (عليه السلام) وتنتهي بالمهدي من آل محمد (صلوات الله وسلامه عليه).
 
• المقدَّمة الثالثة:
 
قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم على لسان الملائكة الكرام (قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ).
 
في تصوري أنَّ التخوف من الإفساد وسفك الدماء هو الذي كان مسيطرًا على الملائكة، وهو كاشف عن القصور الفكري العميق الذي يعيشه الإنسان في كُلِّه التكويني، فلا يتمكن من إشاعة التسبيح والتقديس، وهذا ما علِمَه عنه الملائكة، ولكنَّ الجواب الإلهي جاء مؤكِّدًا على القوسين المُتَحصِّلين من المقدَّمتين الأولى والثانية، وجوهره كما عن تفسير العسكري (عليه السلام): "ثمَّ قال: وعلَّم آدم الأسماء كلها، أسماء أنبياء الله وأسماء محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والطيبين من آلهما، وأسماء رجال من خيار شيعتهم وعصاة أعدائهم، ثمَّ عرض محمَّدًا وعليًّا والأئمَّة على الملائكة، فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين.." (بحار الأنوار للمجلسي ج11 ص117).
 
وبذلك، فإنَّ الرافع للتخوُّفِ من قضية الإفساد وسفك الدماء، ليس إلَّا الخلافة الإلهية المتمثلة في الخلق الكامل الطاهر للأنبياء والرسل والأئمة (عليهم السلام).
 
مشكلة:
 
في نظري، إنَّ القضية تدور حول المقدار الهائل من الغرور الذي يعيشه الإنسان، فهو يريد التخلص من كلِّ قيد، حتى لو كان المُحَقِّق لقوله عزَّ وجلَّ (وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ)!
 
ولأنَّ الكثير منَّا يعيش ردَّ فعل خطير ضدَّ مقتضيات الولاية (وهذا ما سوف أبيِّنه في المقال القادم إن شاء الله تعالى)، فإنَّنا اليوم، نشهد الكثير من دعاوى التخلص من الاتصال بالفقهاء، وهذا مفهوم - في نظري - وإنْ تلبَّست تلك الدعاوى بقميص العلمية.
 
وقد وصلنا مؤخَّرًا إلى توجُّهات تفرض على الجميع تحمُّل خياراتها، وكأنَّها هي الخلافة الإلهية في الأرض!
 
كيف كان، فنحن اليوم نواجه أصعب الامتحانات وأكثرها جِدِّيَّةً، والسؤال الذي ينبغي أن يُطرَحَ:
 
ما هو تكليف المؤمنين في زمن غيبة الخليفة المعصوم القائد (عليه السلام)؟
هل يُسلِّمون للطغاة والجبابرة؟
هل يعيشون الذلَّ والخنوع؟
 
أم:
 
يقاتلون ويجاهدون ويبذلون ما يملكون حتى ظهور القائد المهدي (عليه السلام)؟
 
ثُمَّ:
 
إلى أيِّ درجة يتسامح الله تعالى مع المؤمنين في أمر الدماء والأعراض إذا ما أخطئوا التشخيص؟
 
• ملاحظة مُهِمَّة: كان من المفترض أن يستطرد المقال في الإجابة على الأسئلة أعلاه وغيرها، ولكِنَّ الإشكال الذي طرحه البعض، جعلني أتريث وأترك مجالًا للقارئ الكريم لإجالة النظر وإطالة الفكر في قضية أحسبها من أهم وأعقد القضايا الفكرية التي نعيشها اليوم.

ويبقى سؤالان أطرحهُما الآن وفي خاتِمَة كل حلقة من حلقات هذه السلسلة:
 
بأيِّ عينٍ وثقافةٍ ونَفْسِيَّةٍ ورُوحيَّةٍ نقرأ كتابَ الله المجيد وأحاديثَ المعصومين (عليهم السلام)؟
 
هل نحن على الطريق الصحيح أو أنَّنا في حاجة إلى مراجعات عاجلة وجادَّة جِدًّا؟
 
نلتقي في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى..
 
 
18 إبريل 2015