اعتصرتْ العراقَ على مدى أكثر من أربعة عقود أحداثٌ مؤلمةٌ، ما كان العراقيُّ ليفيق من أحدها حتى وقع في أخرى، فابن الرافدين أُجبر على صنوف من الحروب العسكرية والثقافية والتربوية والاجتماعية امتدت من ذاك الزمن حتى وصلت اليوم لحرب من نوع جديد تمامًا يستحق أن نطلق عليه (مارشال) عدواني برز بقوة، بل بشراسة في واقعة الموصل- محافظة نينوى!
مع مطلع يونيو الجاري، وتحديدًا في الثلث الأول منه، وردتْ أخبارٌ بدخول مجموعات مسلحة من تنظيم ما يسمى بدولة العراق والشام (داعش) مدينة سامراء واحتلالها، وعلى وقع هذا الخبر انتفخت العناوين بين مُهَلِّلٍ فَرِح ومسترجع غَضِب، ولم يخلو الأمر من ثالث قد أسكته العَجَبُ، غير أن الواقع الخبري يقول بأن سامراء تحت سلطة (داعش).
فَرِحَ الغاضبُ وأخذَ المهُلِّلُ مكانه، فقد حرر الجيش العراقي مدينة سامراء وانتهى الحدث.
يومان وإذا بالخبر الجديد يؤكد السقوط التام لمدينة الموصل في محافظة نينوى، والأصعب من ذلك على قلوب البعض أن هذا السقوط كان على إثر انسحابات جماعية لآمري الثكنات العسكرية ومعهم أفراد من الجيش، فبدا الأمر أنها خيانة عظمى من عمق الجسد العسكري في الموصل، ومن المهم أنْ نشير إلى أنَّ مثل هذا الحدث لم يشهده العراق منذ الانتفاضة الشعبانية في ١٩٩١ ميلادية عندما سقطت أربعة عشر محافظة في أيدي المعارضين للنظام السابق.
حصر البعض احتمالاته في أن سقوط الموصل لم يكن إلا لخيانات من رتب رفيعة في الجيش العراقي، في ما وجه آخرون إلى أن وجود نائب الرئيس العراقي السابق له بعدان تنظيميان، أحدهما قيامه على حزب البعث في العراق، والآخر أنه الزعيم والأب الروحي لأتباع الطريقة النقشبندية، وهي من الطرق الصوفية وتفرض الولاء المطلق للشيخ الأكبر، وهو عندهم اليوم عزة إبراهيم الدوري، كما ويذهب أصحاب هذا التوجيه إلى أن البعثيين والنقشبنديين تمكنوا من استمالة وكسب بعض العشائر السنية.
بالإضافة إلى هذين التوجيهين، هناك من يصر على أن البعث وداعش والقاعدة ومن معهم، ليسوا أكثر من أدوات بأيدي دول لها وزنها في المنطقة، وهي التي تدعمهم وتدفعهم وتحركهم بحسب ما تقتضيه مصالحها السياسية.
وكيف كان، فقد اتخذ النزاع في العراق طابعًا طائفيًا مذهبيًا بامتياز تام، خصوصًا بعد السطوع الملفت للفتاوى التاريخية بالجهاد الدفاعي التي صدرت عن أبرز المراجع الشيعة، فالمنعكس في الذهنية السنية أن الفتاوى إنما هي لقتل السنة، وكذلك فالمنعكس في الذهنية الشيعية أن السنة يهددون وجودهم ويريدون قتلهم، ولذلك فالحرب على أرض العراق اليوم ليست بين معارضة ونظام بقدر ما هي بين سنة ضد النظام وشيعة معه!
سواء انتهت الحرب أم لا، فإن الفتنة قد وقعت، ومن الصعب، بل —في رأيي- أن التفكير في إخمادها وبالإضافة إلى عبثيته فهو قريب من المستحيل.
ما أعتقده أننا في حاجة متعاظمة إلى مراجعة الطبيعة الثقافية التي نستند إليها في تحليلاتنا ومعالجاتنا للأحداث والوقائع بشكل عام، وما يسمى بالقضية الطائفية على وجه الخصوص، وهنا أطرح الأسئلة التالية:
ما هي أسلحةُ الفتنة والاقتتال التي استُعمِلَتْ في كل من:
باكستان.. لبنان.. العراق.. البحرين.. وغيرها من البقع الجغرافية (في الأرض)؟
يعيش الشيعة والسنة في ألفة ووئام سواء هنا أو هناك، فيتزوجون من بعضهم البعض وتنشأ بينهم علاقات الخير والمودة، وفي لحظة يقررها أحدٌ ما ترمى كلمة تُسمى (طائفية) وإذا بتلك المظاهر الجميلة تتحول إلى ذكرى.. إلى وهم!
على إثر اشتغال المطحنة الطائفية تبرز شخصيات وتجمعات بأطروحات الحوار والتفاهم ومواثيق الشرف، والواقع إنها تستمر باستمرار الحدث الطائفي إلى أن يصدر القرار من نفس الجهة التي أثارته (من هناك) فيتحول الإشغال الطائفي إلى عنوان آخر مثل المشاريع الإصلاحية والرؤى الديموقراطية وغير ذلك مما يستغرق فيه الناس حتى يحين وقت الورقة الطائفية لتطرح مجددًا، وهكذا تبقى البشرية في استهلاك الحاضر بعقلية الماضي لمصلحة من يدير اللعبة.
لا أعتقد أن المنطقة مقبلة على بركان طائفي كما يعبر البعض، فما يحدث في عراق اليوم نسخة مكررة للمرة الألف مع تغير الظرف لا أكثر، وسوف تعود الأمور إلى الهدوء لنشهد التعايش بين الطائفتين مع انحسار سياسي للتنظيمات المتطرفة بعد انهاكها في العراق وسوريا، ولكنها ليست النهاية؛ فطريقها —كما يبدو لي- إنما هو إلى استراحة ثم استعداد لحين الحاجة إليها مجددًا!
السؤال الآن:
هل يتمكن إنسان هذه البقع الجغرافية من قلب المعادلة وإبطال مفعول هذه الورقة (الجوكر)؟
جوابي: نعم.
كيف؟
هناك مشكل تاريخي عقائدي حقيقي بين الشيعة والسنة، وهو ليس بالمشكل البسيط، وفي الواقع أن تبسيطه هو روح وجوهر الفتيل الذي يشعله (أحدٌ ما) متى ما أراد.
هناك نصوص موضوعية عند الفريقين ترتكز عند كل واحد منهما على عدم تبرئة الآخر..
هناك نصوصُ تكفيرٍ ولعنٍ لا يمكن أن تُلغى؛ إذ أنها مقدسة باعتبارات عدة، ولم تكن المشكلة —في تصوري- إلا بمحاولات تجاوز مثل هذه النصوص وتضعيفها والدعوة لمراجعتها بل والرجوع عنها.
ما هو الحل إذن؟
ما أعتقده:
أولًا:
نحن نعيش في هذه الدنيا، ولا نعلم إلى ماذا تنتهي إليه الأمور في الآخرة، فقد يموت الشيعيُّ سنيًّا وقد يموت السنيُّ شيعيًّا، بل قد يموت أحدُهما أو كلاهما لا دينيًّا أصلًا، وعليه فلينشغل كلُّ واحد بالدعاء للإنسان بحسن الخاتمة.
ثانيًا:
الشيعيُّ شيعيٌّ والسنيُّ سنيُّ، والإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره، فكما أطلب من الآخر أن يحترمني لذاتي وأعتبر اختياري لعقيدتي من الحقوق الأصيلة لي، فهي كذلك للإنسان، وإنما الحساب على الله تعالى.
ثالثًا:
يذهب السنيُّ إلى عدالة الصحابة، كما ويذهب أيضًا إلى أفضلية أول الخلفاء على الثاني والثاني على الثالث والثالث على الرابع بحسب موازينه العقدية الخاصة، أما الشيعيُّ فيعتقد يقينًا بأن الخلافة قد غُصِبتْ من أمير المؤمنين (عليه السلام) ثم من الأئمة من بعده (عليهم السلام)، وعلى النظريتين تبنى أحكامٌ محوريةٌ لا يمكن تجاوزها، ولا حلَّ لهذا التصادم إلا يوم القيامة، ولذلك فإنه لا غنى عن (لكم دينكم ولي دين) وكذلك فإن الحكمة في (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، أما التناحر بين الفريقين فلا معنى له غير إراقة المزيد من الدماء، وتمكين النظام الإبليسي من تسييرنا حسبما يريد وكيفما يشتهي بحسب ما تقتضيه مصالحه.
رابعًا:
نحن كمتدينين نطلب الحكم الإسلامي في مختلف أبعاد وميادين الحياة، وينبغي أن يُفهم جيِّدًا بأنَّ الحكم الإسلامي لا يعني مصادرة الآخر على الإطلاق، بل الثابت أن الحكم بين كل ملة بشريعتها، وهذا فكر إسلامي متقدم جدًّا، ومن أراد الحقيقة فليراجع كتب الفقه ليفهم.
ما نحتاجه اليوم إنما هو التدرب على استيعاب الآخر بحكمة الإسلام، وإلا فسنبقى أُلعوبةً يحركها الاستكبار العالمي متى ما شاء.
هذه الأحداث تتوالى علينا، وآخرها ما يجري في العراق، فإما أن نتعلم ونتعظ، وإلا فلا أدري إن كنَّا نستحق الحياة أو لا!
مع مطلع يونيو الجاري، وتحديدًا في الثلث الأول منه، وردتْ أخبارٌ بدخول مجموعات مسلحة من تنظيم ما يسمى بدولة العراق والشام (داعش) مدينة سامراء واحتلالها، وعلى وقع هذا الخبر انتفخت العناوين بين مُهَلِّلٍ فَرِح ومسترجع غَضِب، ولم يخلو الأمر من ثالث قد أسكته العَجَبُ، غير أن الواقع الخبري يقول بأن سامراء تحت سلطة (داعش).
فَرِحَ الغاضبُ وأخذَ المهُلِّلُ مكانه، فقد حرر الجيش العراقي مدينة سامراء وانتهى الحدث.
يومان وإذا بالخبر الجديد يؤكد السقوط التام لمدينة الموصل في محافظة نينوى، والأصعب من ذلك على قلوب البعض أن هذا السقوط كان على إثر انسحابات جماعية لآمري الثكنات العسكرية ومعهم أفراد من الجيش، فبدا الأمر أنها خيانة عظمى من عمق الجسد العسكري في الموصل، ومن المهم أنْ نشير إلى أنَّ مثل هذا الحدث لم يشهده العراق منذ الانتفاضة الشعبانية في ١٩٩١ ميلادية عندما سقطت أربعة عشر محافظة في أيدي المعارضين للنظام السابق.
حصر البعض احتمالاته في أن سقوط الموصل لم يكن إلا لخيانات من رتب رفيعة في الجيش العراقي، في ما وجه آخرون إلى أن وجود نائب الرئيس العراقي السابق له بعدان تنظيميان، أحدهما قيامه على حزب البعث في العراق، والآخر أنه الزعيم والأب الروحي لأتباع الطريقة النقشبندية، وهي من الطرق الصوفية وتفرض الولاء المطلق للشيخ الأكبر، وهو عندهم اليوم عزة إبراهيم الدوري، كما ويذهب أصحاب هذا التوجيه إلى أن البعثيين والنقشبنديين تمكنوا من استمالة وكسب بعض العشائر السنية.
بالإضافة إلى هذين التوجيهين، هناك من يصر على أن البعث وداعش والقاعدة ومن معهم، ليسوا أكثر من أدوات بأيدي دول لها وزنها في المنطقة، وهي التي تدعمهم وتدفعهم وتحركهم بحسب ما تقتضيه مصالحها السياسية.
وكيف كان، فقد اتخذ النزاع في العراق طابعًا طائفيًا مذهبيًا بامتياز تام، خصوصًا بعد السطوع الملفت للفتاوى التاريخية بالجهاد الدفاعي التي صدرت عن أبرز المراجع الشيعة، فالمنعكس في الذهنية السنية أن الفتاوى إنما هي لقتل السنة، وكذلك فالمنعكس في الذهنية الشيعية أن السنة يهددون وجودهم ويريدون قتلهم، ولذلك فالحرب على أرض العراق اليوم ليست بين معارضة ونظام بقدر ما هي بين سنة ضد النظام وشيعة معه!
سواء انتهت الحرب أم لا، فإن الفتنة قد وقعت، ومن الصعب، بل —في رأيي- أن التفكير في إخمادها وبالإضافة إلى عبثيته فهو قريب من المستحيل.
ما أعتقده أننا في حاجة متعاظمة إلى مراجعة الطبيعة الثقافية التي نستند إليها في تحليلاتنا ومعالجاتنا للأحداث والوقائع بشكل عام، وما يسمى بالقضية الطائفية على وجه الخصوص، وهنا أطرح الأسئلة التالية:
ما هي أسلحةُ الفتنة والاقتتال التي استُعمِلَتْ في كل من:
باكستان.. لبنان.. العراق.. البحرين.. وغيرها من البقع الجغرافية (في الأرض)؟
يعيش الشيعة والسنة في ألفة ووئام سواء هنا أو هناك، فيتزوجون من بعضهم البعض وتنشأ بينهم علاقات الخير والمودة، وفي لحظة يقررها أحدٌ ما ترمى كلمة تُسمى (طائفية) وإذا بتلك المظاهر الجميلة تتحول إلى ذكرى.. إلى وهم!
على إثر اشتغال المطحنة الطائفية تبرز شخصيات وتجمعات بأطروحات الحوار والتفاهم ومواثيق الشرف، والواقع إنها تستمر باستمرار الحدث الطائفي إلى أن يصدر القرار من نفس الجهة التي أثارته (من هناك) فيتحول الإشغال الطائفي إلى عنوان آخر مثل المشاريع الإصلاحية والرؤى الديموقراطية وغير ذلك مما يستغرق فيه الناس حتى يحين وقت الورقة الطائفية لتطرح مجددًا، وهكذا تبقى البشرية في استهلاك الحاضر بعقلية الماضي لمصلحة من يدير اللعبة.
لا أعتقد أن المنطقة مقبلة على بركان طائفي كما يعبر البعض، فما يحدث في عراق اليوم نسخة مكررة للمرة الألف مع تغير الظرف لا أكثر، وسوف تعود الأمور إلى الهدوء لنشهد التعايش بين الطائفتين مع انحسار سياسي للتنظيمات المتطرفة بعد انهاكها في العراق وسوريا، ولكنها ليست النهاية؛ فطريقها —كما يبدو لي- إنما هو إلى استراحة ثم استعداد لحين الحاجة إليها مجددًا!
السؤال الآن:
هل يتمكن إنسان هذه البقع الجغرافية من قلب المعادلة وإبطال مفعول هذه الورقة (الجوكر)؟
جوابي: نعم.
كيف؟
هناك مشكل تاريخي عقائدي حقيقي بين الشيعة والسنة، وهو ليس بالمشكل البسيط، وفي الواقع أن تبسيطه هو روح وجوهر الفتيل الذي يشعله (أحدٌ ما) متى ما أراد.
هناك نصوص موضوعية عند الفريقين ترتكز عند كل واحد منهما على عدم تبرئة الآخر..
هناك نصوصُ تكفيرٍ ولعنٍ لا يمكن أن تُلغى؛ إذ أنها مقدسة باعتبارات عدة، ولم تكن المشكلة —في تصوري- إلا بمحاولات تجاوز مثل هذه النصوص وتضعيفها والدعوة لمراجعتها بل والرجوع عنها.
ما هو الحل إذن؟
ما أعتقده:
أولًا:
نحن نعيش في هذه الدنيا، ولا نعلم إلى ماذا تنتهي إليه الأمور في الآخرة، فقد يموت الشيعيُّ سنيًّا وقد يموت السنيُّ شيعيًّا، بل قد يموت أحدُهما أو كلاهما لا دينيًّا أصلًا، وعليه فلينشغل كلُّ واحد بالدعاء للإنسان بحسن الخاتمة.
ثانيًا:
الشيعيُّ شيعيٌّ والسنيُّ سنيُّ، والإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره، فكما أطلب من الآخر أن يحترمني لذاتي وأعتبر اختياري لعقيدتي من الحقوق الأصيلة لي، فهي كذلك للإنسان، وإنما الحساب على الله تعالى.
ثالثًا:
يذهب السنيُّ إلى عدالة الصحابة، كما ويذهب أيضًا إلى أفضلية أول الخلفاء على الثاني والثاني على الثالث والثالث على الرابع بحسب موازينه العقدية الخاصة، أما الشيعيُّ فيعتقد يقينًا بأن الخلافة قد غُصِبتْ من أمير المؤمنين (عليه السلام) ثم من الأئمة من بعده (عليهم السلام)، وعلى النظريتين تبنى أحكامٌ محوريةٌ لا يمكن تجاوزها، ولا حلَّ لهذا التصادم إلا يوم القيامة، ولذلك فإنه لا غنى عن (لكم دينكم ولي دين) وكذلك فإن الحكمة في (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، أما التناحر بين الفريقين فلا معنى له غير إراقة المزيد من الدماء، وتمكين النظام الإبليسي من تسييرنا حسبما يريد وكيفما يشتهي بحسب ما تقتضيه مصالحه.
رابعًا:
نحن كمتدينين نطلب الحكم الإسلامي في مختلف أبعاد وميادين الحياة، وينبغي أن يُفهم جيِّدًا بأنَّ الحكم الإسلامي لا يعني مصادرة الآخر على الإطلاق، بل الثابت أن الحكم بين كل ملة بشريعتها، وهذا فكر إسلامي متقدم جدًّا، ومن أراد الحقيقة فليراجع كتب الفقه ليفهم.
ما نحتاجه اليوم إنما هو التدرب على استيعاب الآخر بحكمة الإسلام، وإلا فسنبقى أُلعوبةً يحركها الاستكبار العالمي متى ما شاء.
هذه الأحداث تتوالى علينا، وآخرها ما يجري في العراق، فإما أن نتعلم ونتعظ، وإلا فلا أدري إن كنَّا نستحق الحياة أو لا!
25 يونيه 2014