Pages

Friday, August 22, 2014

الإمامُ جعفر الصّادق وحريّة التعبيرِ عن الرأي // أبو مقداد

 
 

لا يوجدُ في الشريعةِ الإسلاميّة حكمٌ أو بندٌ أو آيةٌ أو أي إشارة لمنع أي إنسان إبداء رأيه والتعبير عنه، أو قمعهِ وإسكاته لو أبدى رأيَه، بل جاءَ الإسلامُ ليكرّم الإنسان بحريّتهِ التّامّة في التعبيرِ عن رأيه، وما يجول في خاطرهِ من تساؤلٍ أو انتقادٍ أو إشكالٍ أو ما شابه، وبالرجوع للسيرة الطّاهرة للأئمّة المعصومين (ع)، سنجدُ العديدَ من المواقف التي يُستدلّ من خلالها على دعم الإسلام لهذه الحريّة، منها إشكالية بعض أصحاب الإمام الحسن المجتبى (ع) على صُلحه معَ معاوية، واعتراض كبار الشخصيات آنذاك على الحسين عليه السلام في خروجه لكربلاء، ومناظرة الإمام الجواد (ع) الشهيرة والتي استشكلت على عمق العقائد الإسلاميّة والشيعيّة، وأكثر من ذلك حثّ وتأسيس الإمام الصادق (ع) لمهنة الورّاقة والتي هي بمثابة عملية طباعة واستنساخ الكتب في زمننا الحالي، وخروج بعض المنحرفين عقائديًا مثل ابن الراوندي وكتابته في النقد والهجوم على عمق العقيدة وأركانها كإشكاليته على ركن التوحيد، إلا أن الإمام الصادق صلوات الله وسلامه عليه كان يوجه لعدم مهاجمته والتعرّض له بل يحثّ على الرّد عليه فكرًا لِفِكر، ورأيًا لرأي، وكان يؤسس للبحث العلمي الذي يناقش الأفكار وينشّط العقول، ولم نجد في مدرسته العلمية وبقية سِيَر الأئمّة (ع) من طبّق الإسلام بقمعِ الآراء، إنما كان الإسلام يهذّب التعبير عن الآراء، ويكرّم الإنسان ويحترم عقله حين يقول "رحم الله من سمع القول فاتّبع أحسنه" وحين يقول أمير المؤمنين "أيها الكاتب ما تكتب محسوبٌ عليك / فاجعل المكتوبَ خيرًا فهو مردودٌ إليك".
 
من يسنّ نظامًا ما، ويكون النّظام ذا جودة عالية، ويأتي من ينتمي لاحقًا لهذا النّظام ويطبّقه بصورة مشوّهةٍ غير صحيحة، هذا لا يضرّ بصحة النظام، ولا يعني أن بالنظامِ خلل؛ إنما الخللُ في من طبَّقه، والتعميم بأن النظام هذا ومريدوه جميعهم مشتركون في هذا الخلل تعميم راديكالي تلقائيًا.
النظام الإسلامي كما جاء بهِ نبيّ الرحمة محمد صلوات الله عليه وعلى آله، وكما طبقه المعصومون عليهم السلام هو نظام الحياة السليم، والنظام الوحيد الذي لو طَبَّقهُ البشر بصورته الصحيحة كما طبّقها وبيّنها الأئمة (ع) لحُفِظت الأرض ومن عليها من كلّ شر وسوء، إلا أن إسلام اليوم بجزءٍ كبير يفقدُ صبغته الأصلية، وقلَّ من يطبقه بصورته السليمة، هذا لا يعني أن نتّهم الإسلام بالسوء، بل لا بد أن تكون هذه الحالة هي المحفِّزُ الأوّل كي ننهض جميعنا بالعودة بالإسلام لجادته الصّحيحة، والتمسّك بمبادئه ونظامه السّليم، لتدار الحياة كما شاء الله ونَظَّم.
 
نتّفق ونؤكدُ -كما الإسلام- على أن لا إشكال في أساس إبداء والتعبير عن أيّ رأي كان، إنما المشكلة التي نواجهها اليوم في هذا الإطار، والتي قد تنبئ بكارثة، هي أنّ حدود التعبير عن الرأي تجاوزت حدودها لحدِّ الوقاحة، وأصبح لا شيء فوق خطّ النقد والهجوم ولا يلزم التأدُّب في النّقد هذا، وقد يُسقَّطُ الوجيه، ويُفَسَّق الفقيه، ويُهان الكريم، تحت عنوان حرية الرأي والتعبير!!
 
حريّتك فيما تعتقد، حريّتك فيما تفكّر، حريّتك في توجّهك، حريّتك في كلّ شيء محفوظة بشرط أن تحترم حق غيرك في الإختلاف معك وأن لا تتعدّ حريتك على حريّة الآخرين، لأنها بهذا ستتحول من حرية وتعبيرٍ عن الرأي، لوقاحةٍ واعتداء على الآخرين، فحريتك ستتحول لوقاحة إن لم تؤمن من خلالها أن للآخرينَ حريةٌ أيضًا، وحرية رأيك ستكون قمعًا لحريّات الآخرين، إن اعتقدتَ أن رأيك هو الحقيقة المطلقة، والأهم من أن تملكَ رأيك الخاص وتعبّر عنه، هو أن تملك الأسلوب المهذب في إبدائه.

أضع بين يدي القارئ الكريم رواية ذهبية عن الإمام الصادق (عليه السلام) على أن أتعرض لمناقشتها في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى: 


في الكافي، ج2ص43- عن خادم أبي عبد الله -الصادق- (ع) قال: 
بعثني أبو عبد الله (ع) في حاجةٍ وهو بالحيرة أنا وجماعة من مواليه، فانطلقنا فيها ثمّ رجعنا مغتمين، وكان فراشي في الحائر الّذي كنّا فيه نزولاً، فجئت وأنا بحالٍ فرميت بنفسي، فبينا أنا كذلك إذا أنا بأبي عبدالله قد أقبل، فقال: 
قد أتيناك -أو قال: جئناك- فاستويت جالساً وجلس على صدر فراشي، فسألني عمّا بعثني له، فأخبرته، فحمد الله ثمّ جرى ذكر قومٍ، فقلت: جُعلت فداك!.. إنّا نبرأ منهم، إنّهم لا يقولون ما نقول. فقال (ع): يتولّونا ولا يقولون ما تقولون، تبرؤون منهم؟! قلت: نعم. قال: فهو ذا عندنا ما ليس عندكم، فينبغي لنا أن نبرأ منكم؟! قلت: لا، جُعلت فداك!.. قال: وهو ذا عند الله ما ليس عندنا؟.. أفتراه أطرحنا؟.. قلت: لا والله، جُعلت فداك!.. ما نفعل؟ قال: فتولّوهم ولا تبرؤا منهم.. إنّ من المسلمين مَن له سهمٌ، ومنهم مَن له سهمان ومنهم مَن له ثلاثة أسهم، ومنهم مَن له أربعة أسهم، ومنهم مَن له خمسة أسهم، ومنهم مَن له ستّة أسهم، ومنهم مَن له سبعة أسهم. فلا ينبغي أن يحمل صاحب السهم على ما عليه صاحب السهمين، ولا صاحب السهمين على ما عليه صاحب الثلاثة، ولا صاحب الثلاثة على ما عليه صاحب الأربعة، ولا صاحب الأربعة على ما عليه صاحب الخمسة، ولا صاحب الخمسة على ما عليه صاحب السّتة، ولا صاحب الستّة على ما عليه صاحب السبّعة".
 
22 أغسطس 2014

No comments:

Post a Comment