في بقعة هي من أطهر البقاع، وعلى أرض فجّرها الله إكرامًا لطفل، هو النبي إسماعيل عليه السلام، وتروية لحاجته الملحة بالماء، ورأفة بعاطفة الأمومة التي أجبرت هاجر أن تسعى سبعًا بين جبلين، متوكلة على الله راجية أن يحفظ لها فلذة كبدها..
ستجد هناك على ذات الأرض، بينما تمارس مناسك هاجر، وبينما تستذكر الأمومة والرحمة، والطفولة واللطف الالهي، ستجد أن الطفولة هناك يتم استغلالها بكل قسوة.. ستجد أن عاطفة الأمومة ليست سوى سلاحًا لاستدرار عطف الحجاج، الذين أمَّوا تلك البقاع من كل واد.. وستجد أن السعي مهملٌ تمامًا ولا يتجاوز كونه مجرد طقس، عند من اختار أن يجتذب الأموال، عبر استعطاف الآخرين ببكاء الأطفال، بجوعهم ودموعهم وأحيانًا باستعراض بتر أعضاءهم!
أذهلني كثيرًا أن أجد على قارعة الطريق، أمهات بعز شبابهن أحيانًا، يصطففن على امتداد صحراء منى، وبشكل أكثر تحديدًا عند منطقة رمي الجمرات، مستعرضات أطفالهن من مختلف الأعمار، بينما يبكون بحرقة تحت لهيب شمس منى الحارة، طمعًا في بعض الريالات!
لم أتمكن من التركيز كثيرًا في تلك المناسك، بينما أرى أطفالًا بعضهم لم يتجاوز السابعة من عمره، وهو يكشف عن كتفه المنزوع منه ذراعه ويمد اليد الأخرى لاستلام الأموال!
إحدى الأمهات كانت تضع طفلتها المنهكة، ذات الثلاث سنوات ربما، جالسة تمامًا أمامها، بينما يقع رأسها كل ثانية على كتفها حين يغلبها النوم.. طلبتُ من الأم أن تضع ابنتها في وضعية الاستلقاء إلا أنها رمقتني بنظرة غاضبة وأشارت عليّ بيدها أن (ابتعدي)!
هل من الغريب أن تستغل أمهات أطفالهن بهذه الصورة؟ هل من الغريب أن تتجمد عاطفة الأمومة عندهن لدرجة أن يقبلن بترك أبنائهن الرضع، تحت لهيب الشمس لاجتذاب المال؟
ربما تنتفي غرابة ذلك حين نفكر كيف من الممكن أن يغير الفقر نفس الإنسان، وكيف يضطره لمخالفة إنسانيته التي جُبل عليها، لكن هل تنتفي غرابة أن يكون ذلك الاستغلال تحت مرأى ورعاية دولة -إسلامية- بحجم السعودية وفي موسم الحج! موسم المساواة!
أحد الشباب المرافقين لنا بالحملة أخبرني حين رأى شدة ذهولي، بأن هؤلاء (جماعات أفريقية) يمتهنون التسول، يحضرون كل عام في موسم الحج ثم يمتنعون عن العودة لبلدهم، وأنهم يتعمدون كثرة الإنجاب زيادة في الأيدي المتسولة، ومن أجل استدرار العطف يقطعون أيديهم، أو يتظاهرون بقطع أرجلهم.. واستدل على ذلك بما شاهده في إحدى الدول الآسيوية أيضًا!
هي مؤسسة لها إدارييها وعمَّالها الذين يتاجرون بالإنسانية!
كنا كحجَّاج نُمنع من التجمع عند الاسطوانات البعيدة عن الرمي لإعادة جمع أنفسنا من قبل العسكر، بينما يفترش أولئك الأطفال مع أمهاتهم أرض منى، وفي عمق الازدحام الذي يضطر له الحجاج لتأدية مناسكهم!
كنت أستغرب بشدة لماذا نُمنع بينما يُترك المتسولون؟! والطبيعي أن يبعد هؤلاء عن الازدحام الخانق بأرض منى، الأمر الذي وجدت فيه رعاية لاستغلال الأطفال من قبل الدولة، وإلا فمن واجب السعودية ومن تزعم أنها أكبر دولة إسلامية، والتي تحصد الكثير الكثير من أموال المسلمين على امتداد العام أثناء زيارتهم للأراضي المقدسة، أن ترعى هذه الفئة وأن تستنقذهم من الجهل والفقر واستغلال الطماعين.
هل يعقل أن تعجز السعودية، عن فتح قنوات مع بلد هؤلاء المتسولين، لمتابعة أحوالهم وإعادتهم لبلدهم، بعد تأهيلهم إنسانيًا وعلميًا ليمارسوا التغيير في مجتمعهم؟ هل يعقل أن تغفل السعودية أو تعجز عن فتح مراكز تعليمية واجتماعية ترعى هؤلاء، وأن تقدم مساعدات مالية لبلدهم إن كان يعاني الفقر ليتمكن من احتضان أبنائه وتغيير وضعه الفكري والاجتماعي والعلمي والاقتصادي، الامر الذي بدوره سيخدم المجتمع الإسلامي عامة!
لا أدري لمَ استقر بقلبي شعور تعمّد بعدم مساعدة هذه الفئات، إذ أن مساعدتهم تعني تطوير الإنسان فكريًا وإنسانيًا، وهو حتمًا ما لا تسعى إليه بلدة تُصدِّر الإرهاب والتكفير، وتربي أبنائها ليكونوا آلة قتل تُدار لرعاية مصالح الدول العظمى دون أدنى اكتراث بالله وبالإنسان وبالمجتمعات!
لله در الطفولة فحتى في موسم الأمومة واللطف الإلهي.. تستباح!!
18 أكتوبر 2014
No comments:
Post a Comment