Pages

Friday, October 10, 2014

الصابون وطفاية السجائر // ز.كاظم

 
 
من أهم مبادئ الجودة في عالم الصناعة عملية الفحص والتفتيش وهي 1) عملية إضافية لا تُضفي للمنتج أي قيمة حقيقية، 2) وهي مجرد إخبار وإعلام عن جودة أو رداءة المنتج 3) وكذلك فإنه ليس بالإمكان أن تضع مسؤولًا مهمته فقط فحص المنتج. وعليه فإن الرائد في عالم الجودة الحديثة هو جعل عملية الفحص متداخلة في عملية التصنيع وما يحيط بها من عمليات وخطوات وآليات. وإذا ما تم وُجدت رداءة في المنتج، فإن الفحص يجب أن يشمل مكامن الخلل التي أدت إلى هذه الرداءة وتسمى هذه الطريقة الفحص في المصدر.
 
تتم عملية الفحص في المصدر عن طريق النظر في كل الأمور التي من شأنها أن تجعل المنتج رديئًا، وهذه الأمور تعبر عنها بالخلل أو الأخطاء. الغريب أن بعض الإداريين يتبعون العقلية القديمة في حل الرداءة التي تصاحب المنتجات. هذه الطريقة من الإدارة تركز على الرداءة بدون النظر في مسبباتها من خلل وأخطاء. بمعنى، أن كل ما لديهم هو إخبار عن أن هناك رداءة في منتجاتهم وأنها بحاجة إلى حل. كيف، ولماذا، وأين، ووو.. هذا ليس من اختصاصهم، بل من اختصاص فريق آخر يقوم بتلك المهمة!
 
ذكر بروفيسور مادة الإدارة في الجامعة هذا مثالًا عن نفسه عندما كان يقوم بالاستشارة لأحد المصانع في فترة من فترات حياته. يقول: تم الاتصال به وبزميل له من قِبل مصنع الصابون لينظروا في نسبة الرداءة في منتجاته والتي كانت بمعدل 5 بالمئة. يقول البروفيسور: أول خطأ ارتكبه وزميله هو أنهما لبِسا لباس عمال المصنع وذهبا كأنهما عاملين في المصنع. في اليوم الأول تم تحاشي وتجاهل جميع العاملين لهما. وفي نهاية الدوام قدِم عليهما أحد العاملين وقال لهما: البسا لباسكما العادي في الغد وتعالا كما أنتم ولا تحاولا أن تتذاكيا علينا، فنحن نعرف من أنتما.
 
في اليوم الثاني: جاءا وكان التعامل معهما مختلفًا، وبدءا بالتحدث مع العاملين للبحث عن أسباب هذه المشكلة وبدءا من الآخر أي من عملية تغليف الصابون. وظلا طوال اليوم يتحدثان مع العاملين حتى توصلا إلى مصدر حدوث تلك الرداءة فكانت في الخزان الذي تجمع فيه المواد الكيماوية لتصنيع الصابون. وكان السبب أن العاملين تكرارًا ومرارًا يطلبون من الإدارة أن توفر للمدخنين منهم طفايات -منافض- للسجائر، والإدارة لم تستجب لهم. فما كان من العاملين إلا أن يرموا بنفايات السجائر في خزان الصابون مما سبب هذه الرداءة.
 
يقول البروفيسور، في اليوم التالي اشترينا طفايات لم تكلفا كثيرًا ووضعناها في أماكن متعددة، وبهذه انتهت مشكلة الرداءة التي يعاني منها مصنع الصابون. الغريب في هذه الحادثة عدة أمور أشار إليها البروفيسور:
 
1. أن الإدارة لم تستمع لطلبات العاملين في المصنع، فقد صمّت آذانها لهم، وبالتالي دفعها لأن تجلب مستشارين ليحلوا لهم مشكلة بسيطة جدًا خسائرها فادحة.
 
2. أن البروفيسور وزميله عندما حاولا أن يخبرا الإدارة عن السبب كان الجواب: أن هذا ليس من اختصاصنا، ولم ترد الإدارة أن تعرف سبب المشكلة.
 
3. قام المصنع بدفع مبلغ كبير - 50 ألف دولارًا كما أتذكر - لمشكلة بسيطة عوضًا عن محاولة حلها لمشكلة كانت هي أحد أسبابها.
 
عندما يتم فحص المنتج -الصابون في مثالنا- فإن الصابون الرديء لن تستطيع أن تتخلص منه إلا بمعرفه الخلل الذي ساهم في تكوينه، وهذا ما أسميته في المقدمة بالخلل error. ومن خلال معرفة الخلل يمكنك أن تتحكم في المنتج وجودته.
 
هذا مثال بسيط جدًا، والواقع أن هناك عدة أمور -خلل- تتداخل مع بعضها البعض مما يعقّد من عملية التحكم والضبط. فهناك عدة مدخلات - inputs - لأي عملية - process - قد لا تكون لوحدها قادرة على إفساد المنتج، ولكن لعلاقتها مع بعضها البعض شأن آخر، ولذلك تُدْرَس تلك المدخلات كلًا على حدة وكذلك تُدْرَس عملية الترابط المشتركة بينها في عمليات إحصائية علمية كـ design of experiment بحيث يتم تحليل تلك المداخلات وأثرها على المنتج - output -. وتتطلب هذه العملية الكثير من العلم والمهارة والدقة.
 
الإنسان في تكوينه العضوي والفكري لا يختلف كثيرًا عن هذه الحالة، فالإنسان لديه الكثير من المدخلات التي تتحكم في تركيبه البشري والثقافي وتنعكس على سلوكياته كمنتج فيه الجودة تصاحبه أنواع من الرداءة إن صح التعبير. والكثير منا عندما ينظر إلى سلوك معين في الإنسان يحاول أن يفهم الأسباب التي أدت إلى ذلك السلوك، لكنه يتسرع في النتيجة إما لعدم الدراسة الكافية أو لعدم التمكن اللازم من فهم الخلل في الإنسان الذي يؤدي به إلى سلوكيات رديئة.
 
هناك عدة أمور من الجيد عند الإنسان أن يلاحظها عند مروره على حالة سلبية في إنسان آخر:
 
1. الفهم والدراسة والاطلاع: مشكلتنا في بعض الأحيان أننا غير مطلعين جيدًا على العلوم التي تؤهلنا لدراسة سلوكيات الآخرين، فمن اللائق بنا أن نتعلم العلوم التي تعني بالإنسان ونحاول أن نفهم طبيعة الإنسان ونتفهمها، لكي نستطيع أن نعالج سلبياتنا من مصدرها ومنشأها ليتم معالجتها معالجة صحيحة وسليمة.
 
2. من المهم جدًا أن نتمهل حين التحليل ولا نتسرع في إطلاق الأحكام على الآخرين خصوصًا أن العملية معقدة وتحتاج للكثير من المؤهلات اللازمة لتفكيكها.
 
3. عملية الفحص والتفتيش التي ذكرتها في مقدمة المقال عملية لا تضفي أي قيمة حقيقية ما لم تنظر في الأسباب التي ساهمت في تكوين السلوك الرديء ثم تنظر إلى سبل العلاج وضبطها. هذه العملية هي ما يعبّر عنه بالنقد، فأغلبنا قادر على النقد وما أسهله على لساننا وما أجرأنا حينما ننتقد الآخر. وفي أغلب الأحيان يكون هذا النقد مدمّرًا للآخر. في حين أن عملية النقد والفحص يجب أن تستهدف إصلاح الآخر لا تدميره.
 
4. يعتقد الكثير منا بأننا نمتلك كل الحق في الوصاية على الناس والمجتمع، فلا يهدأ لساننا إلا بالتقريع والذم واللوم والنقد الجارح في الناس والمجتمع وكأننا منزهين عن الأمراض التي تعاني منها مجتمعاتنا. لحظةُ تمهّل وتواضع يجب أن تتحكم فينا حينما ننظر للناس، فلم يجعل الله سبحانه السيطرة لنا ولا الوصاية لأن نقف في بروجنا العاجية ونصنف الناس حسب ما نريد!
 
5. هناك قواعد وأصول يجب أن نراعيها في النقد والتقييم. صحيح أن النقد والتقييم يساهم في تطوّر المجتمع، لكن ذلك هو النقد البنّاء الذي يتخذ أفضل الأساليب في معالجة الأخطاء والأمراض المجتمعية لا أن يولّد حالة من الصِدام والنفور.
 
6. الصدق والإخلاص: فلنكن صادقين في نقدنا ومخلصين في تقييماتنا.. ولنحاول أن نتخلص من الأنا حينما ننظر للناس، وليكن دافعنا هو إزالة تلك الأمراض من أنفسنا لا ليُشار لنا بالبنان بأننا أصحاب ألسنة وأقلام، بل من أجل أن نتخلص من تلك الأمراض التي تعيق حركتنا كمجتمع وأفراد. وأن لا نلبس لبوسًا خادعًا كما فعل البروفيسور في بادئ الأمر، فإن ذلك لا ينطلي على الناس، وإن انطلى فترة من الزمان عليهم، فلن يستمر طويلًا.

معرفتنا لأنفسنا هي من أفضل الطرق لعلاج الأخطاء والأمراض في مجتمعاتنا، فليس من الإمكان أن يوضع لكل إنسان مراقب، فعلينا تفعيل المراقبة الذاتية لأفكارنا وسلوكياتنا.. تخيّل لو اشتغلنا بإصلاح ذواتنا، كيف سيكون مردود ذلك علينا وعلى المجتمع؟

 
 
11 أكتوبر 2014

No comments:

Post a Comment