نأتي لهذه الدّنيا لأبوين جمعَ الله بينهما، ونعيش معهما ومع الأهل في أول حياتنا، فنأخذ منهم جميعًا عقائدنا وعاداتنا، والكثير من أخلاقنا وأفكارنا، فنتربّى ونكبر عليها، ونلتزم بها لحدٍّ كبير، ولو كان - التزامنا - شكلًا دون مضمون أحيانًا.
ما أريد أن أشيرَ إليه هو عقائد الإنسان، فهي الأساس، فإنّ عمله يقوم عليها، وقد قال تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)[فاطر:١٠]، وقيل أنّ الكلم الطّيّب هو عقائد الإنسان، وبالتالي فهي النقطة التي ينطلق منها ليصل لأهدافه، بل أنّ أهدافه تبتني عليها أيضًا، ولا هدف للإنسان أكبر من السّعادة الأبدية، والخلود.
ولمّا كانت العقائد مهمةً جدًا، بشكلٍ لا يفوقها في الأهمّية شيء، لزم من ذلك أن يكونَ الإنسان حذرًا فيها، ولزم عليه أن يتيقّن منها، وأن يبحثَ عنها ويعتنقَها بنفسه، فإنّ الاعتماد على الموروث فقط لا يورث الاعتقاد المطلوب، فمن شأن مثل هذا أن يزولَ ويرحلَ سريعًا، فيكون مستودعًا إلى حين، وليس مستقرًا في داخل الإنسان، وإن بقيَ فيبقى على الأغلب شكلًا لا عمق فيه، ولذلك فإنّ العقل يقودنا للبحث والتفكّر الدائم في عقائدنا، فما يكون المصير متوقفًا عليه، لا ينبغي الإستهانة به أبدًا.
من أكبر ما يقفُ أمامنا في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، هو الخوف من الخروج عن خطِّ الآباء والأجداد، والخوف من نظرة المجتمع لمن يتحقق ويبحث، فيجد مجتمعه على خطأ بعد أن وصل للصواب، ووجد الحق، فينحرف عنه (عن مجتمعه)، وقد حدّثنا القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين بديه قائلًا: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ)[البقرة:١٧٠]، وفي موردٍ آخر: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ)[المائدة:١٠٤]، وهناك الكثير من الآيات غيرها، وهي صريحةٌ جدًا في نقد هذه الحالة السّلبية، والتي أبعدت الكثير الكثير عن جادَّةِ الصّواب، وطريق الحق.
كن صاحب قرارٍ مستقل، وافتح عقلك وقلبك وابحث وتفكّر، لعلك بعدت عن الطريق فتعود له، فإنّ انغلاقك على موروثاتك بلا برهان ولا دليل، وبلا قناعةٍ تامة، لن يثبّت قدميك، أمام العواصف التي تتدفّق في كل حين، ولن يريحَ قلبك شيء، إلا أن تذعنَ وتتيقَّنَ مما تحمله بداخلك.
مما نعانيه، ومما يشغلنا عن مثل هذه الأمور المهمّة، حبّ المال وحبّ الأولاد، وحبّ الراحة، وقد أورد القرآن الكريم عدّة معادلاتٍ رائعة، لكنّنا لا نلتفت إليها، مع كونها غايةً في الأهمّية، فانظر وتدبّر ما يلي:
١/ قوله تعالى: (الْمَال وَالْبَنُونَ زِينَة الْحَيَاة الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَات الصَّالِحَات خَيْر عِنْد رَبّك ثَوَابًا وَخَيْر أَمَلًا)[الكهف:٤٦].
٢/ قوله تعالى: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء:٨٨/ ٨٩].
تشيرُ الآية الأولى لأنّ المال والبنين زينةُ الحياة الدنيا، زينة الوقت الحاضر، والحياة الحاضرة، ثم تشير لأن الباقيات الصالحات خير عند الله، فمتى تكون هذه الباقيات الصالحات خير عند الله؟ دون شك هي خير في هذه الدنيا، لكنّها تبقى معنا وتنتقل معنا للآخرة، لتقف سندًا لنا حين لا سند ولا معين، وتكون - فعليًّا - خيرًا وأبقى، ثمَّ نجد الآية الثانية تشير ليوم لا تنفع فيه زينة الدّنيا، لا ينفع فيه المال والبنون، بل النّفع لا يتحقَّق إلا لمن أتى بقلبٍ سليم، والقلب السّليم ليس إلا من حمل بداخله العقائد السّليمة، فلاحظ هذه المعادلة الدّقيقة، وغيرها في القرآن كثير.
بالنسبة لي فأنا لست مستعدًا لأن أضيع البوصلة، وأخطأ الطّريق، بينما أنا أستطيع أن أصلَ إليه، وأسير فيه، وحتّى أنجو في ذلك اليوم العصيب، في ذلك اليوم الذي يتنصّل الإنسان فيه من أقرب الأقربين، فلا أتخيّل علاقةً وارتباطًا أقوى ممّا يكون بين الأمِّ وأبنائها، لكنَّ الله يخبرنا بما سيجري في ذلك اليوم، فيقول: (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا)[الحج:٢].
بعد كلّ ما أوردتُّه فلا أظن أنّ ذا عقلٍ قد يتساهل في مثل هذا، ويقف مكتوف الأيدي، مقيّدًا نفسه بانغلاقه، مبعدًا عقله عن الحدث، خائفًا من أبويه أو أهله أو مجتمعه، ممّن لا يمكن أن يضرَّه إلا قليلًا زائلًا، ليخسرَ أسمى وأجلَّ مطلوب، ويعرِّض نفسه لأكبرَ خطرٍ وألم، فلا ينفعُ حينها الندم..
١٠ ربيع الثاني ١٤٣٦ هـ
No comments:
Post a Comment