Pages

Friday, March 6, 2015

على ضفاف الذكريات (13) // ز.كاظم

 
 
بسم الله الرحمن الرحيم

تتميز الحياة في ولاية أوريغون بسمات كثيرة مختلفة على رأسها احترام الناس للنظام والذي رأيته سمة بارزة في المجتمع وفي جميع مفاصل الحياة.. عندما تذهب إلى التسجيل في مواد الدراسة، ترى طابورًا منتظمًا يقف الطلاب فيه صفًا صفًا بدون أي فوضى، كلٌ ينتظر دوره بكل هدوء. حين قدوم الباص ترى الناس ينتظمون في خطٍ واحدٍ لا يتقدم أحدهم عن الآخر، يركبون الباص ويضعون النقود في حصالة النقود للباص ثم يذهبون إلى مقاعدهم، فإن وجدوا مقعدًا فاضيًا جلسوا فيه وإلا فيظلون واقفين طوال الرحلة. أما السياقة، فالغالبية تلتزم السرعة المحددة، ولا تجد تداخل السيارات على بعضها البعض، بل ولا تكاد تسمع بوق السيارة إلا نادرًا.



حينما تتحدث إليهم فإنهم يخاطبونك بكل هدوء ونبرة صوتهم في الغالب منخفضة غير عالية. تذهب إلى البنك لتفتح حسابًا فيستقبلك الموظف بابتسامة ويسألك باحترام عن حاجتك فيأخذك إلى الجهة المطلوبة، فإن كان قبلك زبائن تنتظر إلى أن يأتي دورك، ثم تجلس أمام الموظف ويقوم بفتح الحساب بكل أريحية يشعرك من خلالها أنك زبون مهم للبنك. وللبنك قصة لا زالت راسخة في ذهني..

في عام 1989 رجعت في زيارة للبحرين، وهي ثاني زيارة لي بعد مضي سنتين تقريبًا في أمريكا.. في أحد الأيام طلب مني الوالد يرحمه الله أن أفتح حسابًا جديدًا للمحل في بنك تشارترد البريطاني.. سألته، هل أحتاج إلى أي أوراق أو بطاقات لفتح الحساب، فقال نعم، الجواز ورقم سجل المحل. ذهبتُ ماشيًا إلى البنك حوالي الساعة العاشرة صباحًا وشمس الصيف تسلخ جلدي ولم أصل إلى البنك إلا والعرق يملأ ملابسي. توجهتُ إلى قسم فتح الحسابات التجارية وكان عبارة عن مكتب مكوّن من طاولة أمامها حاجز يتكلم منه الزبائن إلى الموظف، لكن الموظف لم يكن موجودًا حينها.. وقفتُ منتظمًا منتظرًا للموظف المفقود.. مرّت خمس دقائق، فعشرٌ، فربعُ ساعةٍ.. حينها التفت الموظفة - هندية - على الطاولة الأخرى وكانت وظيفتها مختلفة عن فتح الحسابات الجارية وسألتني بوجه مقتضب عن حاجتي، فقلتُ لها أنني أود أن أفتح حسابًا جاريًا.. فقالت: إن الموظف ذهب ليأكل وجبة الفطور وسيأتي بعد قليل.. فانتظرتُ حوالي ربع ساعة أخرى انظر حوالي أراقب حركة الموظفين والزبائن.. بعدها جاء الموظف فكلمته بابتسامة وأدب عن فتح حساب جديد، وقدمتُ جوازي ورقم السجل، فردّ علي بوجه مكفهر طالبًا نسخة من ورقة السجل. سألته بهدوء إن كان يستطيع أن يفتح الحساب بدون الورقة حيث أن المسافة بين البنك والمحل لن تجعلني قادرًا على الرجوع في نفس اليوم لتخليص معاملتي. أبدى امتعاضه وقال لا يمكن.

توكلّت على الله ورجعت وقلت للوالد أنهم يحتاجون إلى ورقة السجل.. تكررت عملية الذهاب للبنك لثلاثة أيام متتالية، وفي كل مرة يكون الموظف غير موجود، وبعد يأتي وأقدم له الورقة، يذكر أنها ليست الورقة المطلوبة وعلى قسمات وجهه نظرات تجعلك تشعر أنك تستجدي منه شيئًا.. في اليوم الثالث الأخير وبعد أن مَلَّ من مجيئي يوميًا، أخرج ورقة من درج طاولته وقال هذه الورقة التي أقصدها، حينها لم أتمالك نفسي وصببت جام غضبي على سوء معاملته بعد أن نفذ صبري عليه. تعدّلت نبرته وأراد تهدئتي حينها، لكنني لم أهدأ وخرجت من البنك متوجهًا إلى الوالد في المحل قائلًا له: لا نريد حسابًا جديدًا في هذا البنك.

بعد أسبوع، قال لي الوالد أن أخي الكبير يريد أن يكلمني في أمر ما. ذهبتُ إلى أخي الكبير في محله، فأخبرني عن فتح الحساب في البنك، فرفضتُ. أصر عليّ أخي الكبير أن المسألة لن تأخذ سوى بضع دقائق، اذهب إلى فلان في القسم الفلاني وقل له إنني من طرف فلان بن فلان. سألته هل أحتاج إلى جواز، أو قسيمة السجل التجاري أو غيرها، فقال فقط اسأل عن فلان. ذهبت إلى البنك وسألتُ عن فلان، فكان الفلان هو نفسه الموظف صاحب الموقف معه. قلتُ له أنا من طرف فلان، فقام بالترحيب بي وعاتبني على غضبي عليه في المرة السابقة. لم أكن بحاجة إلى جواز أو قسيمة السجل التجاري بل كل ما كنتُ احتاجه هو فيتامين "و".

أما هنا، فلا تحتاج إلى فيتامين "و" لأن الحياة متمركزة على توفير الخدمات للمستهلكين واحترام المواطنين سواء على المستوى التجاري أو الرسمي أو غيره.

من الأمور التي لفتت انتباهي في المجتمع الأمريكي هو عدم الاهتمام بالمظهر الخارجي كما هو الحال في مجتمعاتنا الشرق أوسطية. ترى الفرد منهم - رجلًا كان أو امرأة - يلبس اللباس العادي غير آبه بتناسق الألوان أو فخامة الهندام.. بل قد ترى الرجل منهم يلبس بدلة على حذاء رياضي. الاهتمام بالمظهر الخارجي ليس من اهتماماتهم ومن الطبيعي جدًا أن ترى نسبة السيارات القديمة أكثر من الجديدة.. هذه الصورة تغيّرت أيضًا بعد فترة زمنية..

الميزة الأخرى في المجتمع الأمريكي هي الثقة - ولو أن هذه الثقة قد تغيّرت كثيرًا بعد مضي سنوات -.. في تلك الفترة كانت الثقة غالبة على المعاملات الشخصية والرسمية بين الناس. كان من السهل جدًا أن تستخرج رقمًا هاتفيًا على اسمك وعن طريق الهاتف بل تستطيع أن تقضي معظم معاملاتك عن طريق الهاتف.. كانت كلمة الإنسان كافية من دون أن يظهر بطاقته الشخصية.. لكن لسوء استخدام الناس لهذه الثقة، ظهرت الكثير من القيود والضوابط بعد ذلك. كان الكثير من الناس يُسيئون استخدام هذه الثقة في الاحتيال على الشركات التجارية والمؤسسات الرسمية.. الكثير من الطلبة العرب وغيرهم كانوا يستخرجون أرقام الهواتف بأسماء مزورة ولا يتم دفع الفواتير، فيتم اغلاق الرقم، ثم يقومون مرة أخرى باستخراج رقم جديد باسم مزور جديد.. الكثير من الممارسات الخاطئة ساهمت في فقدان الثقة ووضع شروطًا وضوابطًا لضمان عدم التزوير.. وكذلك مما ساهم في فقدان الثقة هو جشع الشركات التجارية خلال العقدين في النصب والاحتيال على المواطنين من أجل الأموال.

إلا أن الميزة الأكبر التي لاحظتها في المجتمع الأمريكي في ذلك الوقت وذلك بالنظر إلى مجتمع مدينة بورتلاند في ولاية أوريغون هو الفراغ الروحي الذي يتمتع به هذا الشعب. ذات يوم وبينما أنا أتمشى في شوارع مركز المدينة وإذا برجل أمريكي أقرع يلبس ثيابًا غريبة لونها برتقالي أشبه ما تكون بلبس أهل الهند.  



بدأت أسأل عن هذا الأمر، فتبين لي أن هناك انتشار للراجنيشية في ولاية أوريغون. راجنيش هذا بروفيسور في الفلسفة من مواليد الهند، ويُعتبر أحد الزعماء الروحيين الذين بزغ نجمهم في النصف الثاني من القرن المنصرم. كانت تعاليمه تؤكد على أهمية التأمل والوعي والحب والاحتفال والشجاعة والإبداع والفكاهة، هذه الصفات التي كان ينظر إليها على أنها قُمعت من قبل الالتزام بالنظم العقائدية الثابتة، والتقاليد الدينية والاجتماعية. دعا أوشو راجنيش إلى موقف أكثر انفتاحا تجاه العلاقات الجنسية، مما أكسبه لقب "معلم الجنس" في الصحافة الهندية ولاحقًا العالمية. كانت تعاليم راجنيش لها تأثير ملحوظ على الغربيين، وقد زاد شعبيتها منذ وفاته في عام 1990. (ويكيبيديا)
Osho.jpg
في مطلع الثمانينات جاء راجنيش إلى مدينة the dalles وهي تبعد عن مدينة بورتلاند حوالي 80 ميلًا، وقد كان قادمًا على فيزا علاج لكنه لم يقم بأي عملية علاج. قام أحد متبعيه بشراء مزرعة كبيرة بمبلغ يفوق الخمسة ملايين دولارًا، سُميّ باسم راجنيشبورام. هذه المساحة الضخمة من الأراضي التي قام بزراعتها واعتماد محاصيلها الطبيعية في العلاج مع بعض الشعائر الغريبة على المنطقة جعلته في موقع صدام مع أهل المدينة، لكنه مع ذلك كان له مناصرون كثيرون تبنّوا دعوته، بل كانوا ينتظرون خروجه عليهم بسيارته الفارهة ليكحلوا ناظريهم بطلعته البهية. بعد عدة سنوات أُتهمت مديرة أعماله - شيلا - بعدة جرائم، كما تم القبض عليه بتهمة انتهاك قوانين الهجرة بعد ذلك تم ترحيله . المهم في هذه الدعوة هو وجود حالة من الفراغ الروحي والفكري عند شريحة ليست بالصغيرة عند المجتمع الأمريكي مما تجعله تواقًا لملأ هذا الفراغ. هذه ليست الدعوة الوحيدة التي لاقت انتشارًا في أمريكا، مما يكشف عن ما ذكرته من وجود الفراغ الروحي كما توجد عوامل أخرى أطرحها في سياق المذكرات.
 
White car passing saffron-robed people on mountain road

من المواقف التي ظلت معي كاشفة عن بعض أخلاقيات المجتمع الأمريكي أنه ذات ليلة بعد منتصف الليل بثلاث ساعات كنا راجعين من عند أحد الأصدقاء في مدينة مانموث (مدينة تبعد قرابة الساعة عن مدينتنا).. كان الجو ممطرًا والرؤية معتمة، وإذا بالسيارة تنحرف بصورة مفاجئة وتضرب في الحائط الذي يفصل بين الهايوي.. كنتُ السائق لسيارة نبيل، ونبيل معي.. لم أُصب إلا ببعض الرضوض الطفيفة إذ كنتُ لابسًا حزام السلامة، بينما ارتطم وجه نبيل بالزجاجة الأمامية للسيارة ... 

يتبع في الحلقة القادمة..

 
7 مارس 2015

(هذه الصور عن المجتمع الأمريكي محكومة بفترة زمنية معينة وفي مجتمع صغير -مدينة بورتلاند- مقارنة بالولايات المتحدة ككل، إذ أنه بعد سنين تبين لي فروقات كثيرة بين الولايات والمدن، وكذلك اختلاف الطباع والعادات على مدى فترة زمنية تصل إلى أكثر من ربع قرن.)

No comments:

Post a Comment