Pages

Friday, March 27, 2015

على ضفاف الذكريات (16) // ز.كاظم

 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
في أواخر عام 1990 وبينما أمريكا تدق طبول الحرب على العراق، كانت أختي الكبيرة تدرس تخصص طب الأسنان في بريطانيا وقد اتفقنا أن أزورها في أيام الكريسمس.. وصلتُ إلى لندن، ويا للعجب كانت الشمس بازغة في مدينة الضباب، ومنها ركبت الباص متوجهًا إلى مدينتها "كاردف" وهي عاصمة ولاية ويلز وأكبر مدينة فيها، كما تحتل المرتبة العاشرة مساحةً في المملكة المتحدة.. تبعد هذه المدينة عن لندن حوالي ثلاث ساعات بالباص، وكانت الرحلة مملة جدًا إلا من حدث أثار انتباهي.
 
From: London, UK To: Cardiff, UK

كنتُ جالسًا بالقرب من الكراسي الخلفية ولم يكن الباص ممتلئًا بالركّاب. بعد فترة ساعة وإذا بصوت امرأة تتحدث الإنجليزية باللهجة البريطانية. جلستُ قليلًا متفكرًا، ولم أنظر للخلف سريعًا. راجعتُ شريط الذاكرة حينها إذ كانت بالخلف مني امرأة وبنتها مع ولدها، وكانوا سودًا.. كيف يتحدثون كما يتحدث البيض الإنجليز!!! التفتُ للخلف للتأكد.. نعم، إنهم سود.. استغربتُ من ذلك والسبب كان أن السود في أمريكا لهم لهجتهم الخاصة بهم عن البيض، في حين أن لهجة سود بريطانيا لا تختلف عن لهجة البيض!! هل استطاعت بريطانيا أن تزيل الفروقات بين أعراق مواطنيها في حين عجزت أمريكا عن ذلك، أم أن أمريكا بلد متعدد الأعراق تختلف لهجات مواطنيه من منطقة لأخرى على خلاف بريطانيا التي مارست دورها الثقافي في فرض لهجتها على جميع مواطنيها، إلا المتمردين من أمثال الاسكتلنديين والإيرلنديين!

 
قضيتُ قرابة الأسبوعين مع أختي وكانت هناك فروقات كثيرة لحظتها في المعيشة بين بريطانيا وأمريكا.. المباني البريطانية أغلبها قديمة كلاسيكية لها تاريخها العريق مقارنة بالمباني في أمريكا. المفارقة الأولى بين بريطانيا وأمريكا تتلخص في مفهوم "توفير سبل الراحة"، فمع أن أختي تسكن في شقة أغلى من الشقة التي أسكنها في أمريكا، إلا أن سبل الراحة في تلك الشقة متفاوتة جدًا. خذ على سبيل المثال الماء الحار للاستحمام، في شقتي في أمريكا تدخل الحمام وتفتح أنبوب الماء للاستحمام وبعد عدة ثواني يأتيك الماء الحار الدافئ لتستحم، في حين عليك الانتظار في شقة أختي لأكثر من نصف ساعة لكي يسخن الماء، ثم تستحم سريعًا قبل أن ينتهي عليك الماء الساخن وأنت في منتصف غسل شعرك بالشامبو، أو جسمك بالصابون! هذا نموذج واجد، وإلا فالأمثلة كثيرة..

 

هناك أيضًا اختلاف في سهولة التعامل مع الأمريكان عنها عند البريطانيين.. ذات مرة كنتُ عند الكاشير (وكانت امرأة) وسألتها عن حالها فارتبكت وبدى على وجهها الاستغراب وكأنها لأول مرة تسمع أحدًا يسألها عن حالها، في حين أن التحدث مع الكاشير الأمريكي يكون بكل أريحية وطلاقة تشعر معها أنك تعرف هذا الشخص منذ فترة. هناك تمايز حتى في طبيعة اللهجة "الأمريكية" في قبال اللهجة "البريطانية"، في حين تُعتبر اللهجة البريطانية لهجة متغطرسة متكبرة، على عكس اللهجة الأمريكية السهلة! كان ذلك انطباعي في تلك الفترة، وفترة أسبوعين قد لا تكون كافية لتشكيل صورة دقيقة عن المجتمع البريطاني.


لم يكن الجو سيئًا طوال فترة الأسبوعين، ولكن صادف أن هطل الثلج الكثيف على إثر عاصفة ثلجية تم خلالها إغلاق جميع المحلات، لكنها لم تستمر العاصفة لأكثر من يومين.

كانت تدرس مع أختي صديقة لها ابن صغير لا يتعدى عمره السنتين وبرفقتهما أخيها، محمد، الذي كان يصغرني بسنة أو سنتين. تكوّنت سريعًا علاقة طيبة مع أخيها فكنّا نخرج معًا ونقضي الأوقات مع بعضنا البعض خصوصًا إذا كانت أخواتنا في الجامعة. في ليلة رأس السنة قررنا، محمد وأنا، أن نقضيها في لندن. جلنا في الشوارع وكنا نتحدث عن كل شيء تقريبًا.. كانت شوارع لندن مكتظة بالناس مبتهجين مخمورين.. وبينما كنا جالسيْن على قارعة الطريق بعد تعب المسير وقد كنّا نتحدث فيما أتذكر عن الفروق الطائفية كون صديقي سني وأنا شيعي، وإذا بشخص مار يقف ويلتفت إلينا ويأتي سريعًا ليسلّم علينا معتذرًا على تطفله ليبدي استنكاره على حديثنا الطائفي. قلتُ له: إن صديقي سني وأنا شيعي ونحن نتحدث بكل أريحية حول هذا الموضوع ولا يشكل لدينا هاجسًا. سألنا من أين؟ فأجبناه. كان المتحدث إلينا عراقيًا صحفيًا يعيش في السويد في زيارة للندن. قضينا كل تلك الليلة نتحدث معه ونحن نتجول في شوارع لندن فقد كان مطلعًا على أوضاع البحرين، وكان الحديث معه شيقًا.. تبادلنا أرقام هواتفنا وتواصلتُ معه بعدها بفترة لم يقدّر لها أن تطول إذ أن الانقطاع كما هو المآل للكثير من العلاقات العابرة..
 

استمتعت كثيرًا بزيارتي لبريطانيا بالرغم من قصر المدة فقد مضت أيام الأسبوعين سريعًا وأطفقتُ راجعًا إلى أمريكا..
 
رجعتُ إلى سكني في مدينة فانكوفر.. في تلك الفترة كان جاري ياسر. وياسر هذا هو أخو رفيقي الذي جئت معه إلى أمريكا. ياسر على النقيض من أخيه الأكبر، فهو هادئ ورزين ولي علاقة طيبة معه. لم تنقطع علاقتي مع أخيه، فهي بين مد وجزر. بالرغم من سوء العلاقة في فترات متقطعة مع رفيقي نظرًا لسوء بعض خصاله، إلا أنه يتمتع أيضًا ببعض الخصال الجيدة. الطريف أنه ذات مرة كنتُ زائرًا بعض الشباب الإماراتي، وقد كان بينهم رفيقي وكانت علاقتنا حينها في حالة جزر، وقد أطلق لحيته للعنان. وبينما الشباب يتسامرون ويضحكون، وإذا به يريد أن يفتح موضوعًا للنقاش للاستفادة عوضًا عن هدر الوقت في السمر والضحك.. كان موضوعه عن الجنة وأبوابها وأسمائها. كان تأثير الشباب السلفي عليه واضحًا، لكن في قرارة نفسي كنتُ أعلم أن حالته هذه لن تدوم. 

كان يسكن في الطابق العلوي في سكننا إيراني من الإمارات اسمه علي، ونطلق عليه "علي سلسل" والسبب أنه في أحد الأيام أثناء إعداده لوجبة الطعام ذهب إلى ياسر ليسأله عن علبة طماطم "صلصل". وكان يسكن في نفس سكننا أيضًا وصفي (القطيف)، وفي سكن قريب نبيل وحاتم (القطيف). أما طلال وهو من البحرين فقد تعرفتُ عليه في مدينة "سيلم" وكان حينها يسكن في إحدى المُدن القريبة من بورتلاند "كورفلاس" وهي تبعد حوالي ساعة من بورتلاند، وقد أبدى استعداده في أول لقاء به للانتقال إلى مدينتنا.. انتقل إلى فانكوفر وسكن مع إيراني (علي رضا) في سكن يبعد حوالي العشر دقائق عن سكننا. كنّا في أكثر الأحيان نطبخ وتناول الطعام مع بعضنا البعض.
 
ذات مرة كنتُ في شقة ياسر، وقد أراد أن يحدثني في موضوع هام عن أخيه. قدّم إلي شهادة أخيه، وقال انظر ماذا يفعل أخي! مع أنه كان دراسيًا يسبقني بعام، إلا أنه لم ينه مواد الدراسة المقررة، والمواد التي درسها لم ينجح في أغلبها، وقد درس بعض المواد التي لا علاقة لها بتخصصه التجاري كالخياطة مثلًا. وكان يسكن مع أمريكية لديها أطفال، وقد كان ياسر متخوفًا من أن يتزوجها. أراد مني المشورة فأشرتُ عليه أن يتصل بأبيه في الحال ويخبره بوضع أخيه. فصارحني ياسر بأن أباه يعزّ أخيه الأكبر ولا يمكن أن يصدقه في خبر كهذا. أراد مني الاتصال بأبيه، فوافقتُ في الحال. كلمتُ الأب وأخبرته عن وضع ابنه، وشعرتُ حينها أن الأب أصيب بصدمة وخيبة أمل. قرر الأب أن يزورنا ليطّلع على وضع ابنه، خصوصًا فيما يتعلق بعلاقته مع المرأة الأمريكية. 

بمجرد أن جاء أبو نبيل إلى أمريكا ورأى الشقة التي يسكنها ولده ياسر قرر أن ينتقل بأبنائه إلى شقة أكثر رقيًا، وهو نفس السكن الذي يسكن فيه طلال. كان الحاج أبو نبيل دائمًا يدعوني لزيارتهم، وكنتُ أرتاح كثيرًا للاستماع لقصصه وأحاديثه. كنتُ بمجرد أن أدخل الشقة عندهم، يقوم الحاج أبو نبيل بإعداد شاي الحليب الممزوج بالهيل. نتحدث كثيرًا عن الحرب، وأوضاع البحرين وغيرها من الأمور التي كشفت جانبًا من شخصية أبي نبيل لم أكن أعرفه من قبل بالرغم من معرفتي به منذ نعومة أظفاري. تعرّفتُ أيضًا على الكثير من الأمور عن والدي من خلال القصص التي ذكرها أبو نبيل عنه. في تلك الفترة وبالتحديد في مارس 1991 انتشر فيديو قام بتصويره أحد الأمريكان لأربعة من رجال شرطة لوس أنجلوس (البيض) وهم يضربون رجلًا أسودًا بكل وحشية..


العنصرية ضد السود في أمريكا مرت بمراحل عديدة بداية باستعبادهم عندما جيء بهم من أفريقيا، حتى تحريرهم على يد الرئيس الأمريكي أبراهام لنكولن لتبدأ بعدها الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب والتي امتدت لأربعة سنوات راح ضحيتها أكثر من ستمائة ألف قتيل لتتبع بقتل الرئيس الأمريكي لنكولن، ثم تاريخ مرير من الانفصال حتى نهضة الحقوق المدنية في الستينات من القرن السابق. كان المنظر بشعًا، أربعة من رجال الشرطة البيض وهم ينهالون ضربًا وركلًا لسائق سيارة أسود اسمه رودني كنج.


أخذت هذه القضية صيتًا كبيرًا في وسائل الإعلام، وقد تم رفع قضية على شرطة لوس أنجلس وعلى الشرطة المتهمين الأربعة، واستمرت المحاكمة لمدة عام واحد.. سأستعرض أحداث نتائج المحاكمة في الحلقات القادمة. كان أبو نبيل يتابع الحادثة وأخبار الحرب والكثير من الأمور التي فتحت لي معه الكثير من النقاشات والأحاديث الممتعة.

اكتشفتُ أيضًا طبيعية العلاقة بين أبي نبيل وبين ولديه، فبالرغم من كون الابن الأكبر طائشًا، إلا أن أبا نبيل يحبه كثيرًا، في حين لا يكاد يشتهي ياسر مع كونه هادئًا. لم يكن ابنه الأكبر راغبًا في إكمال الدراسة، لكن أمل والده فيه كان كبيرًا. كنتُ أتحدث مع أبي نبيل ذات مرة وقد أخبرني بوعد ابنه أن ينتبه لدراسته وأنه سيقوم بتحسين وضعه والكثير من الوعود التي أعطاه الابن لأبيه، وكنتُ أقرأ في نظراته الأمل مع الوجل.. كان يطمح أن يرى ولده وقد حاز على شهادة البكالوريوس. لم يستمر الابن الأكبر في إكمال دراسته، وقد قرر أن يرجع إلى البحرين، ولا أتذكر إن رجع مع أبيه في تلك الزيارة أم بعد ذلك. انتهت فترة زيارة الحاج أبي نبيل وقد تركت أجمل الذكريات عندي، ولكن زيارته لأمريكا لم تكن الأخيرة إذ بعد فترة حدث حادث استدعاه أن يهرع عن بكرة أبيه لينقذ ابنه الأصغر من سجن محتم!
 
 
يتبع في الحلقة القادمة..

 
28 مارس 2015

No comments:

Post a Comment