رسالة جماعية وصلتني عبر برنامج الوتسب، تشبه كثيرًا تلك الرسائل التي نتداولها كل حين، نعتقد أننا بتداولها نشيع الخير والسلام والمحبة، بل عسانا نسعى من خلال تداولها لذلك، إلا أن لبعضها آثارًا نفسية تأتي في الاتجاه المعاكس لغرض إرسالها.
الرسالة تقول (من كانت نيته إسعاد الآخرين وسعى لذلك.. سخر الله له من يسعى في إسعاده) قد يكون فحوى هذه الرسالة من الأمور المتفق عليها، وهو بأنه من يعمل خيرًا يحصد خيرًا، لكن دون تحديد ماهية هذا الخير فقد يكون درجة علية عند الله تعالى، لا يستشعرها الإنسان بمقاييسه المادية الدنيوية.
هذه الرسالة ذكرتني بقصة يتم تداولها كل مدة وتقول هذه القصة:
(تحدث أحد الآباء، أنه قبل عشرات الأعوام حج مع والده لبيت الله الحرام، بصحبة قافلة على الجمال، وعندما تجاوزوا منطقة عفيف، وقبل الوصول إلى ظلم، رغب الأب أكرمكم الله أن يقضي حاجته، فأنزل الابن من البعير، ومضى الأب إلى حاجته، وقال للابن انطلق مع القافلة أنت، سوف ألحق بكم، مضى الابن وبعد برهة من الزمن التفت ووجد أن القافلة ابتعدت عن والده، فعاد جاريًا على قدميه، ليحمل والده على كتفه، ثم انطلق يجري به، يقول الابن وبينما هو كذلك أحسست برطوبة تنزل على وجهي، وتبين لي أنها دموع والدي فقلت لأبي "والله إنك أخف على كتفي من الريشة" فقال الأب: ليس لهذا بكيت، ولكن في هذا المكان حملت أنا والدي).
الكثير من الأحاديث الشريفة تتحدث عن جزاء العمل الخير، من قبيل قول رسول الله صلى الله عليه وآله: "لا يستر عبد عيب عبد إلا ستره الله يوم القيامة"، إلا أننا تجاوزنا جزاء الله المعنوي وصرنا نتحدث عن جزاءات مادية محسوسة قد لا يجدها الإنسان ماثلة أمامه بعد كل عمل خير قام به. فقد أحث ولدي على الصلاة ومن باب ترغيبها إليه أعده أنه سيوفق في دراسته، وحين لا يحرز هذا الولد علامة مرضية نتيجة مثلًا لصعوبة الامتحان أو عدم مذاكرته، فهل يعني ذلك أن صلاته لم تكن ذات جدوى؟! ألن يستقر في قلبه أنه رغم التزامه بتأدية صلاته إلا أن التوفيق الإلهي عصي عليه؟!
أجد أن الكثير من القصص التي نرويها لأطفالنا، أو نحكيها لبعضنا، تأسس لدوافع "غير سليمة" في عمل الخير والمبادرة إلى الإحسان، فنحن اليوم نؤسس أطفالنا ليبروا بنا، فنحكي لهم قصة الشاب التي ذكرت بالأعلى، وقد تنجح تلك القصة في اجتذاب برهم، لكن ماذا لو كبر هذا الابن فابتلي بابن عاق؟؟! فهل يعني ذلك أن يلغي قاعدة البر بأبويه؟
إنّ الدوافع التي يجب أن نغرسها في نفوس أبنائنا من أجل عمل الخير، أو المبادرة إلى تطبيق شرع الله وأوامره والابتعاد عن نواهيه، دوافع تتعلق بحق الله، وحب الله، دوافع تتعلق بالإحسان من أجل الإحسان، فحين أبر بوالدي فيجب أن يكون منطلق هذا البر، الامتثال لأوامر الله، واجب أن يكون منطلق هذا البر الشعور بالمسؤولية تجاههما، واجب أن يكون منطلق هذا البر حبهما والحرص على مشاعرهما، وإن لم أتزوج وإن لم أنجب فضلًا عن لو رزقت بابن عاق!!
المبادرة للإحسان يجب أن تكون خالصة لوجه الله، ومن باب الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين، ومن باب الحب الذي ملأ الله به قلب الإنسان تجاه أخيه الإنسان، فحين أطلب من طفلي أن يتقدم ليضع صدقة في يد امرأة فقيرة جلست على أعتاب محل تستجدي المساعدة، فيجب أن أطلب منه أن يعطيها من نعم الله التي أغدقها الله علينا، فهي جائعة ونحن متخمون من الشبع. إنّ غرس حالة من التعاطف والمسؤولية في نفس طفل اليوم تجاه فقراء المجتمع، قد تثمر شابًا منتجًا يشعر بالمسؤولية تجاه أبناء مجتمعه، مبادرًا في قضاء حاجاتهم، ماذا لو كان كل شباب المجتمع كذلك؟
إنَّ انتظار مردود دنيوي محسوس، لكل عمل جيد وحسن يقوم به الإنسان، إن كان من جملة العبادات أو من جملة المستحبات، قد يخلق حالة سلبية تجاه الأعمال الخيّرة، في حين لو لم يجد الإنسان أن مردود كل عمل خير صار ماثلًا أمامه! فحين التَزَم بالصلاة حَصَل على التوفيق في دنياه كما أراد، وحين بَرَّ والديه وهبَّه الله أولادًا برَّرَه، وحين تصدَّق بماله ضاعف الله أمواله!
حين يقول رسول الله صلى الله عليه وآله أن "الصدقة تدفع البلاء" فإن البلاء أمرٌ لا يمكن استشعاره قبل وقوعه، وحين يمنعه الله عنا فقطعًا لن نستشعر هذه النتيجة كنتيجة مادية محسوسة اللهم إلا ببعض الإسقاطات التي لا تتعدى كونها "توقعات".
فلو قدر الله أن يدفع عني بلاءَ حادث سيارة كان سيقعدني عن السير، بأن تعطل منبهي فلم أستيقظ لمقابلة عمل انتظرتها مطولًا، فبماذا سيحكم الإنسان حين يستيقظ من نومه؟ بأن الله دفع عنه البلاء بصدقة وهبها محتاجًا؟ أم بأن الله منع عنه التوفيق لعمل كان سيفتح له أبواب الرزق؟!!
لا أطلب التوقف عن تداول مثل هذه القصص، ولا حتى التوقف عن "الأمل بأن تستجلب لنا أعمالنا الخيرة خيرًا" فذلك وعد إلهي يجعل الحياة مليئة بالأمل، وهي أمور تقع أصلًا، ونستشعرها أحيانًا، لكن كل ما أقوله بأنه علينا تحري الحذر في العملية التربوية، حين نغرس دوافع اللامتثال بأوامر الله، ودوافع المبادرة لعمل الخير.
في قصة معروفة لأهل بيت الرحمة سلام الله عليهم، حين طرق بابهم مسكين ويتيم وأسير، على مدى ثلاثة أيام كانوا قد نذروا لله صومها، ليبيتوا تلك الليالي جوعى بعد دفعهم لطعامهم البسيط لتلك الفئات الاجتماعية، أعلنوها واضحة، وكأنها دستور للأعمال الخيرة (انَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (*) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (*) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (*) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا). إن كل عمل يقوم به الإنسان، يجب أن يكون ابتغاء وجه الله، وهو ما يجب أن ننشئ عليه أبنائنا، ليكون لهم دستورَ حياة، وحتى تكون هذه الدنيا لنا ولهم حقًا "دار ممر" لـ"خير مستقر".
20 مارس 2015
No comments:
Post a Comment