بينما كنت جالسًا بمكتبي، طرقتْ إحدى الموظّفات الباب، طالبةً منّي مساعدة أحد الأطفال، في حدود الثّانية عشرة من عمره، من إحدى الجاليات الأوروبيّة، وما إنْ دخلت حتّى دخل خلفها، وقد أعطاني نظّاراته الشّمسية ظنًّا منه أنّها مكسورة، وكان خائفًا جدًّا أنْ يعلم والده بذلك، إذ كان قد اشتراها منّي قبل سويعات من الآن، وهي غالية الثّمن..
ألقيت عليها نظرةً فوجدتها ليست مكسورة، إنّما من نوع النّظارات التي يمكن تفكيكها، فطمأنته بأنّني على الأغلب سأتمكّن من إصلاحها (تركيبها)، ومع ذلك كان متوتّرا، ومستعجلا، وبعد دقائقٍ قليلةٍ أعدت تركيبها كما كانت، وقد خرج من المكتب ينتظرني مع أصدقائه، فوضعت النّظّارة على رأسي خارجا أبشّره، وإذا به يُسرع نحوي ليأخذ النّظّارة ويحتضنني، وما أجملها من لحظة تغذّت ببراءة الطّفولة، ففرحت جدًّا لأنّه خرج من عندي سعيدًا بعد أنْ طلب مساعدتي، ولم أخذله، وإنْ كان الأمر سهلا..
هناك بعض الملاحظات، أطرحها عليكم:
- سخاء الأب مع ابنه، بشرائه لنظّارات غالية الثّمن، ومشتريات أخرى له.
- خوف ـ بل رُعب ـ الابن من أنْ يعود لأبيه، وقد كُسرت نظّاراته (كما كان يظن).
- لجوء الطّفل للمكان الذي اشترى النّظّارات منه، لا لأبيه، ولا لأمّه (وهما موجودان بذات المكان).
- براءة الطّفل واحتضانه لي مباشرةً بعد استلامه للنّظّارات.
بحكم معرفتي بوالديه، وجفافهما الغالب على شخصيتيهما، وسخاء والده معه من جهة أخرى، أجد أنّ ذلك جعله إمّا خجلًا منهما لكسره للنّظّارة، وإمّا خائفًا من ردّة فعل والديه، ما جعله يضطر لأنْ يختار غيرهما لمساعدته، أمّا الخجل فلم يكن هو المنعكس من تصرّفاته، وإنْ كان محتملا، وأمّا الخوف فهو ما كان ظاهرًا لي من توتّره الشّديد، خصوصًا مع إصراره على عدم الخروج دون إصلاح النّظّارة، واستعجاله ذلك كثيرا..
ما أستفيده من الحدث، هو أنّنا بالتفاتٍ أو عدم التفات، نجعل بعض الحواجز بيننا وبين أبنائنا، بل المقرّبين منّا جميعا، وقد نعالجه بطريق غير صحيح، فنقصِّر من جانب، ونُفرِط من جانب آخر، سعيًا منّا لتدارك تقصيرنا، ممّا يؤدي لنتائجٍ عكسيّةٍ أيضا، وبالتّالي فإنّهم يبتعدون عنّا شئنا أم أبينا، وعلى الأغلب يكون خوفًا من أمرٍ ما، كما أظنّ في القصة السّابقة الذِّكر.
لذلك ينبغي للآباء والأمّهات أنْ يلتفتوا جيّدًا لتصرّفاتهم مع أبناءهم، بل يمكنهم قياس مدى ارتباط أبنائهم بهم من خلال هذه المواقف، فإنّ الطّفل إذا أحسّ بالخوف فإنّه يتجه لجهة آمنة تحتضنه، وتجعله يحسّ بالأمان، أو لا أقل، إلى جهةٍ لا يخافها، وليس أقرب من الأبوين للأبناء أحد، لذلك فإنّ قرب أبنائك وابتعادهم أنت من يحدّده، بكلماتك وتصرّفاتك معهم.
أمّا احتضان الطّفل لي فجعلني أحسّ بإنسانيّة وبراءة الأطفال فعلا، وكيف أنّنا نعبث بذلك الصّفاء، وبتلك البراءة، والإنسانيّة، فنقلب كيانها بأفعالنا.. كما جعلني أفكّر في حال الإنسانيّة، لو استطعنا تنشئة الأجيال تلو الأجيال على الفطرة، ولم نعبث فيها، ماذا سيكون حال البشريّة جمعاء؟
يا بنيّ.. أنا مدين لك باحتضانك لي، فإنْ أعطيتك أمانًا مؤقتًا بفضل الله، فأنت وهبتني دروسًا وعبرًا بهذا الموقف البريء..
2 مايو 2015
No comments:
Post a Comment