من أجمل القصص في القرآن الكريم قصَّة نبيِّ
الله عيسى (عليه السلام) المروية بتفاصيلها في سورة "مريم"، وفي قِصَّته
اشارات عديدة أقربها لنفسي، الإشارة التفصيلية للمكانة الجليلة لوالدته (سلام الله
عليها)، حيث تُعَدُّ هذه السيدة أنموذجًا بشريًا لم يذكره الله في قرآنه عبثًا ولا
مرورًا، بل كدعوة صريحة منه ليحذو حذو عِفَّتِها وإيمانها الرجالُ والنساءُ على حدٍّ
سواء، وقد سُمِّيت السورةُ باسمها تعظيمًا وإجلالًا لكلِّ القيم التي تَمَثَّلتْها.
اعتدنا أن نسمع خطاب التأسِّي برسول الله
وأهل بيته (عليهم صلوات الله وسلامه)، بما فيهم سيدة نساء العالمين فاطمة ريحانة الرسول
وأمُّ أبيها، وعدد من سيدات أهل البيت كالحوراء زينب والسيدة المعصومة (عليهم السلام)،
وكذلك عدد من النساء ممن انتمين إلى أهل البيت بحكم الزواج أو غيره فكانت لهنَّ مواقف
تاريخية وايمانًا مشهودًا كزوج الرسول أمِّ سلمة والسيدة فاطمة الكلابية المعروفة بـ(أمِّ
البنين) زوج الإمام علي بعد الزهراء (عليهم السلام)، وغيرهنَّ مِمَّن اعتقد أنَّنا
لا زلنا نفتقد منهج القراءة والتأسِّي المثمر والصحيح والواضح بِهنَّ.
من الأمور التي أجدها واضحة -وآمل أن أكون
مخطئة بشأنها-إنَّه يستقر بعمق قناعتنا أنَّ هناك ندرة في ذكر النساء القدوة على مدى
تاريخ البشرية في ثقافتنا الإسلامية، كما نعتقد أنَّ هناك صعوبةً في بروز امرأة في
مجالات الحياة المختلفة؛ ذلك أنَّ المرأة مقيدة بقيدين: قيد بيولوجي يحصرها في مجالات
معينة، وقيد ديني - اجتماعي يمنعها بظلم عن التميُّز، مِمَّا أنتَّج فقرًا حقيقيًا
في وجود أنموذجٍ نسائيٍّ إسلاميٍّ بارزٍ معاصرٍ يعرفه الجميع رجالًا ونساءً، ويسعى
ليتمثَّله الجميعُ أيضًا نساءً ورجالًا. أكثر من ذلك، هناك من يعتقد أنَّ الإسلام بما
فرض من حجاب على المرأة مساهمًا أولاً وكبيرًا في تعثُّر تقدُّمها وتميُّزها وبروزها.
فالخطاب الديني بالنسبة لكثيرين هو خطاب
ذكوري، ومن يُنزِّه الله عن هذا الاتِّهام يقذف به في دائرة رجال الدين، وبالرغم من
أنَّني أجد أنَّ المفكرين الإسلاميين معنيين حتمًا بتوضيح الخطاب الإسلامي الصحيح وتوضيح
ما يستشكل عليه، سواء في قضية المرأة أو غيرها، إلَّا أنَّ الكثير من الأسباب، منها
تسليمنا بهذا التسويق من ظلم إسلامي يقع على المرأة هو الأساس في تأخر المرأة أشواطًا
للخلف، لا الدين ولا البيولوجيا ولا شيء آخر أكثر من قلَّة وعينا نحن النساء وقلَّة
الثقة بنا من المجتمع، وقد أقسو حين أقول أنَّ السبب في إحدى حلقاته المتَّصلة أيضًا
في الثقة الاجتماعية المهزوزة للمرأة يعود لنا نحن النساء في الوقت الراهن على الأقل.
لقد سلَّمنا بالقول أنَّ المرأة مكانها
البيت فحسب، بمعناه المقيد لكلِّ عطاء إيجابي من الممكن أن تقدِّمه المرأة ويحتاجه
المجتمع، ولستُ أدعو لتتمرد المرأة على وجودها في البيت، بل أنا ممن يؤمنون أنَّه الدور
الأول الذي يجب أن تترتب وفق ظروفه مجالات تواجدها خارجه وفق امكانياتها وقدراتها وحاجة
مجتمعها لها، وهو ما أجاد توصيفه سماحة السيد علي الخامنائي في قوله بأحد خطبه:
"البعض يعيش الافراط والبعض الآخر يعيش التفريط، فالبعض يقول بما أنَّ النشاط
الاجتماعي لا يسمح لي بالاهتمام بالبيت والزوج والأولاد، لذا عليّ ترك النشاط الاجتماعي،
والبعض يقول بما أنَّ البيت والزوج والأولاد لا
يسمحون لي بمزاولة النشاط الاجتماعي، اذًا عليّ أن اتخلَّى عن الزوج والأولاد..
وكِلا النظرتين خطأ فلا يجوز هذا لذاك ولا ذاك لهذا"1
عمومًا لستُ بصدد الحديث عن معوقات بروز
امرأة إسلامية قدوة تمثِّل المساحة الحقيقية التي منحها إياها الله، فذلك موضوع طرقته
مِرارًا وبإمكان المهتم العودة للمقالات السابقة على موقع ارتقاء لقراءتها. ما أودُّ
أن أطرقه هنا هو الخطاب الإلهي للمرأة انطلاقًا من خطاب القرآن للسيدة العذراء (عليها
السلام).
توفقتُ في الأشهر القليلة الماضية لقراءة
مجموعة من الكتب الإسلامية التي تناقش مواضيع المرأة ومجالات تميُّزها والخطاب الالهي
الذي وجهه القرآن لها، ولعلِّي أظنُّ أَّنا نجهل الكثير مِمَّا قاله ويقوله المفسِّرون
والفقهاء وكبار المختصين في الشأن الديني حول المرأة، وكم نحتاج لنقرأ ما كتبوه لنفهم
كيف أنَّ المرأة كائن مبدع لا يختلف عن الرجل، إنَّما يتفاوت معه كما يتفاوت الرجل
مع الرجل والمرأة مع المرأة، إلَّا أنَّهما نوعان مختلفان مكمِّلان لبعضهما، وتلك نظرة
إسلامية بامتياز طرحها غالب الفقهاء والمراجع وبكلِّ وضوح، إلَّا أنَّ الكثير من القواعد
حولها والتي سلَّمنا بها ما أنزل الله بها من سلطان، وأنَّ الكثير من السلبيات التي
يتحدَّث عنها بعضُ المثقفين المتحاملين أو الجاهلين أو غير المؤمنين بالإسلام، وربَّما
أتجرأ لأقول أنَّ البعض يقولها بحسن نية مفترضًا الإصلاح الإنساني والاجتماعي، إنَّما
هي تحليلات بشرية تحتاج للكثير من الاطلاع قبل أن تقذف على أسماع الناس مهما بدت رصينة.
يذكر القرآن الكريم السيدة العذراء في سورة
خاصَّة مفصِّلًا مواصفاتها، كما أنَّه يذكر ولادتها ودعاء والدتها ورعاية الله لها
وتكفُّلها نبيٍّ من أنبيائه هو النبي زكريا (عليه السلام)، وهي واحدة من النساء اللائي
يذكر القرآن قصصهنَّ للتأسِّي والعبرة؛ اذ يذكر إضافة للسيدة مريم امرأة فرعون آسيا
بنت مزاحم وأمَّ النبي موسى (عليه السلام) بما كانت عليه من التسليم لأمر الله حتَّى
أنَّ القرآن يذكر أنَّ الله خاطبها "وحيًا" في قوله تعالي: (وَأَوْحَيْنَا
إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي
الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ)2 وفي مخاطبة
الله لها مؤشِّرًا للمكانة التي وصلتها هذه المرأة عنده جلَّ وعلا.
إنَّ الخطاب الإلهي الذي وُجِّه للمرأة
كما وُجِّه للرجل في مواقع عديدة في القرآن الكريم وفي روايات نبيه وأهل البيت (عليهم
السلام)، غيبناه نحن حين اعتقد بعضُنا أو سلَّم بعضُنا وإن بشكل غير واعي ومحسوس أنَّ
كلَّ كلمة عامَّة موجهة للإنسان أو للمسلمين أو للمؤمنين هي كلمات موجهة للرجل. بينما
كلمات الخطاب العام معروفة لغةً أنَّها تأخذ ضمير الذكر دون أن تحصر الخطاب فيه، حتَّى
أن بعض الخطابات التي ذكرت الذكر والأنثى عادت لصيغة الذكورة في ذات الآية أحيانا كقوله
تعالى: (أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ)3 مستخدما
"عامل" للنوعين، وقد اتهم القرآن بل كل المجتمع الإسلامي بتثمينه للذكورة
لذلك أكثر من الأنوثة، فحتَّى حين يتحدَّث عن المرأة يتحدَّث بصيغة الذكور، كما في
قوله تعالى واصفًا السيدة العذراء: (وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ
مِنَ الْقَانِتِينَ)4 بينما يفرِّق بعض المفسرين بين خطابين في اللغة، خطاب أدبي وخطاب
حواري، فقول الله أنَّ مريم "صدَّقت" بكتبه وكانت من "القانتين"،
ولم يقل من "القانتات" أسلوب حواري كما يقول الشيخ جواد آملي، ناسيًا أو
غير منتبه أو ربما غافل أن الله تعالى ذكر أنَّ مريم وآسيا مثلا أسوة للذكر والأنثى
على حدٍّ سواء، ففي تميُّزهما تميُّز للإنسان الذي تمثَّلاه، والدعوة للاقتداء بهما
دعوة لكلِّ البشر، فهما قد تفوقتا على النساء والرجال وصارتا أنموذجًا لهم يقول تعالى:
(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ)..(وَمَرْيَمَ
ابْنَةَ عِمْرَانَ)5 للذين آمنوا من الرجال والنساء.
ولم يكتف القرآن بذكر النساء كقدوات حسنة
لكلِّ البشرية، بل ذكر أيضًا أمثلةً لنساء كعبرة وتحذير لكلِّ البشرية أيضًا في ذكره
مثلا لزوجتي نبي الله لوط ونبيه نوح (عليهما السلام) في قوله تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ
مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ
مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ
شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِين)6 فتلك السيدتان مثلا للذين كفروا
جميعًا.
أتصور أن الاطلاع على بعض هذه القواعد والاشارات
غاية في الأهمية لنعرف أنَّ ما يُثار ضدَّ الإسلام أحيانًا يكون من غير اطلاع صحيح،
أي بالحكم عليه من خارج قواعده وثقافته وهو ما ألقى لبسًا كبيرًا عليه.
على الرغم من أنَّ السيدة مريم عُرِفَت
بالعفة ومُيزت بالطهارة، إلَّا أنَّ ذلك لا يعني أنَّها الفضيلة الوحيدة التي تمثلتها
هذه السيدة، إنَّما لهذه المرأة مميزات عديدة يعلمها الله، وعلى أساسها اختارها أمّا
لنبي لا أب له، لقد تربت هذه الفاضلة في حجر سيدة فاضلة جاء على ذكرها القرآن الكريم
أيضًا ناقلًا مناجاتها لله: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ
لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)7
في إشارة لإيمانها فأنجبت وربَّت صدّيقة استحقت أن يختارها الله أمّا لنبيه، ولعلَّ
التصديق ميزة كبرى تميَّزت بها السيدة مريم.
يقول الشيخ جوادي آملي: "يذكر القرآن
الكريم ثلاث نساء كأمثلة وهن اللواتي حفظنَ موسى من القتل وقمنَ بتربيته، وكانت مسألة
تربية موسى الكليم بعهدة أولئك النساء الثلاث: أمِّ موسى وأخت موسى وامرأة فرعون، فقد
قامت تلك النساء الثلاث بمكافحة الوضع السياسي في ذلك الوقت حتَّى كبر هذا الرجل"8
وهذا مثال آخر لاحترام الإسلام للدور الذي
تمارسه النساء، وهي قصص واقعية يستدعيها القرآن من التاريخ وقبل القرآن والإسلام وبعيدًا
عن العصمة التي تمتاز بها السيدة الزهراء (عليها السلام) ومكانة "الصديقين"
التي تمتاز بها إضافة للزهراء السيدة مريم (عليهما السلام)، يكون ذكر عدد من النساء
كأمِّ موسى واصفًا ثقتها وإيمانها بالله حتَّى أنَّها ألقت برضيعها في اليمِّ لتنتشله
مؤمنة آل فرعون، إنَّما هو تصريح من الله أنَّ النساء قدوات ونماذج للعالمين جميعًا،
قدوة يستطيع أن يتمثلها الرجل وتكونها المرأة في كلِّ زمان ومكان، وربَّما المفارقة
أنَّ التميز الذي تسعى له المرأة ويحترمه المجتمع اليوم لم يعد في مجال الإيمان والكفاح
ضدَّ الظلم وتربية النشء.
إنَّ الدعوات التي تحصر المرأة في دور التابع
للرجل، وتلك الدعوات التي تطالب المرأة أن تكون خارج اطار طبيعتها وأنوثتها، وترفض
مجموعة قوانين إسلامية أقرَّها الله في كتابه أحيانًا بالدعوة لرفضها جملةً وتفصيلًا
إمَّا اتهامًا لمنشئها الديني أو اتِّهامًا لرجال الدين وتمسكًا بالادعاء الفارغ من
أن قوانين الإسلام إنَّما هي محاولة رجل لتقييد المرأة، وكذلك استسلام المرأة لمن يستغل
ضعف بدنها ورقة قلبها فيُصِرُّ على تجهيلها وحصرها أو استسلامها لمن يريد أن ينتزعها
من إنسانيتها وإيمانها وعقيدتها ليلقي بها في أتون حضارة لا تناسبها "ان صح وصف
هذه الجنبة بالحضارة" هو السبب الحقيقي لتأخر المرأة اليوم والذي لا يمكن أن تتفوق
عليه إلَّا بمحاولتها التعرف على نفسها والأخذ بعقيدتها من مصادرها الصحيحة وباحترامها
لطبيعتها وإصرارها لتكون عنصرًا فاعلًا في أسرتها ونصرة عقيدتها ومجتمعها، وفي ذلك
يقول السيد علي الخامنائي: "على المرأة نفسها أن تعرف قبل غيرها شأنها الإسلامي
وتدافع عنه، عليها أن تعرف ما هو حكم الله والقرآن والإسلام حول قضاياها وما يراد منها،
وتفرضه عليها مسؤوليتها وعليها أن تؤمن بما قال الإسلام وأراد وأن تدافع عن ذلك لأنَّها
إن لم تفعل ذلك فإنَّ الذين لا يلتزمون بأي مبدأ سيسمحون لأنفسهم بظلم المرأة"9
موصيًا بعدم إهمال جوانب العلم والمعرفة: "لا بدَّ أن تكون هناك قناعة وإدراك
بين النساء أنفسهنَّ لضرورة التوجه نحو اكتساب المعرفة والعلم والمطالعة والوعي والمعلومات
والمعارف وأن يولينَ ذلك الأهمية"10
إنَّ ضعف ثقة المرأة بهويتها الأنثوية والإسلامية
وضعفها في التزود بالعلوم الدينية والدنيوية من الممكن أن يجعلها لُقْمَةً سائغةً لكلِّ
فكرة عابرة تطالبها بسجن نفسها في محيطها الضيق أو تطالبها بالانسلاخ من إنسانيتها
وطبيعتها لتحيلها لصورة مشوهه عن الإنسان، وإنَّ أول وأكثر مُؤثِّر هو معرفة الخطاب
الإلهي لها من خلال القرآن وروايات العترة الطاهرة (عليهم السلام).
--------------------------------------------
1\ من كتاب المرأة علم وعمل وجهاد نشر دار
المعارف
2\سورة القصص الآية 7
3\سورة آل عمران الآية 195
4\ سورة التحريم الآية 12
5-6\ سورة التحريم الآية 10 - 11
7\ سورة آل عمران الآية 38
8\ كتاب جلال المرأة وجمالها للشيخ جوادي
آملي صفحة 129
9\ 10 نفس المصدر الأول
26/12/2016
No comments:
Post a Comment