Pages

Friday, January 30, 2015

على ضفاف الذكريات (9) // ز.كاظم

 
 
بسم الله الرحمن الرحيم









بورتلاند.. مدينة الزهور في ولاية "أوريغون" التي تقع على المحيط الأطلنطي من جهة الغرب، وولاية واشنطن شمالًا، وولاية كاليفورنيا جنوبًا.. تسحرك بجمالها الخلاّب، وطقسها الجميل الممطر طوال السنة، وتضاريسها المنخفضة والمرتفعة الرائعة.. يشق هذه المدينة نهري الولّاميت وكولمبيا.. يبلغ عدد سكان المدينة حوالي نصف المليون، في حين يصل عدد سكانها مع ضواحيها لأكثر من مليوني نسمة..


 
من على بُعدٍ يشق عنان السماء جبل "هود" مكتسيًا حلة بيضاء مسترقًا بصرك كلما نظرت إلى ناحية المشرق.. جبلٌ أشمٌ كشيخٍ ذي لحية بيضاء واقف بوقار ينظر إليك بعينين تحملان كل مشاعر الحب والعطف والحنان.. يناديك بهمسٍ هلمّ هلمّ إليّ.. وبالرغم من قربه الشاخص منك إلا أنه يبعد عنك قرابة الخمسين ميلًا..

 
رتب معهد اللغة رحلة للتزحلق إلى ماونت هود لكل صفوف المعهد.. تم تأجير باصين للطلبة مع أساتذة المعهد واستغرقت الرحلة حوالي الساعتين والنصف نظرًا للطرق الجبلية التي تؤدي إلى الجبل.. كان الوقت شتاءً والثلوج قد غطت جميع أجزاء الجبل.. قمنا بتأجير ملابس التزحلق حين وصولنا، وتم إلحاقنا بمدربين لتعلم التزحلق.. لا أتذكر عدد المرات التي سقطتُ فيها ذلك اليوم، ولكنها كانت كثيرة، ولم ينته اليوم إلا وقد قمتُ بالتزحلق بدون مساعدة.. المُلفت للنظر طريقة التدريب على التزحلق، أو بالأحرى الطريقة التي يستخدمها الأمريكان بصورة عامة في التدريب.. الطريقة تعتمد على عدة خطوات، أولها توفير الأدوات اللازمة (من ملابس وأدوات تزحلق) بما يناسب التزحلق بسلامة، وثانيها التعليم النظري لطريقة التزحلق مرتكزًا على الأمور المهمة المحققة للسلامة - كيفية السقوط بدون أن تتأذى-  وكيفية التزحلق والتوقف، وثالثها هو التعليم العملي وينقسم إلى أمرين رئيسين: 1) مرافقة المدرّب للمتعلم بحيث يضمن تحقق عملية التعليم والمحافظة على سلامة المتدرب، و2) إعطاء المتدرب الثقة اللازمة - مع المراقبة من بُعد - للتزحلق بنفسه وبدون مساعدة.. لا أتذكر بالضبط كم استغرقت عملية التدريب، إلا أنني لا أظن أنها استغرقت أكثر من ساعتين، وبعدها تمكنت من التزحلق بدون مساعدة مع ضمان السقوط مرات ومرات.. تكررت الرحلات عدة مرات بعد الرحلة الأولى، لكنها بعد ذلك توقفت..

 
المؤتمر الإسلامي:

في نهاية العام الأول وخلال عطلة الكريسمس، علمتُ عن طريق المركز الإسلامي أن بعض الإخوة عازمون على الذهاب إلى مؤتمر إسلامي يقام في إحدى المدن الأمريكية.. قام بعض الإخوة باستئجار باص صغير يسع ثمانية أشخاص: أبو حيدر (عراقي) وابنه حيدر، السيد علي ومحمد (الجنوب لبنان) وبلال (بعلبك لبنان)، يوسف ومحسن (ايران)، وشابٌ لا أتذكر اسمه من القطيف من ولاية واشنطن. خرجنا للسفر ليلًا، وكانت ليلة ممطرة.. كانت البداية جميلة جدًا، فقد تبادلنا أطراف الحديث حول قضايا مختلفة مع تخلل النكات والمرح.. وقبل أن ينبلج الفجر وإذا بنا نقف جانبًا على قارعة الطريق تحرزًا لعاصفة ثلجية اضطرتنا أن نضع سلاسل على إطارات الباص لنتمكن من السياقة على الثلج. كان لون الثلوج جميلًا، لكن البرد كان قاسيًا جدًا..

 
 بمرور الساعة تلو الساعة إذ كانت الرحلة طويلة جدًا استغرقت أكثر من ثلاثين ساعة.. وضيق الباص إذ كنا محشورين على بعضنا البعض.. وإزعاج حيدر الصغير الشقي الذي لا يهدأ.. وتسرمد محسن الإيراني على المقعد الخلفي المخصص للنوم جعل الرحلة منهكة ومتعبة.. أما يوسف فجزاه الله خيرًا فقد قام بعمل سندويشات ووضعها في صندوق مبرّد لكن لم تمضِ ساعات قليلة إلا وفاحت رائحتها المزعجة في أرجاء الباص.. كل ذلك كرّهني في الرحلة بل وحتى في المؤتمر قبل أن أصل إليه..
 
وصلنا بعد منتصف الليل، وكان المؤتمر منعقدًا في فندق الشيراتون، ولكن لسوء حظنا فكل الغرف تم حجزها.. تخيّل أن تصل في وقت متأخر وكلك أمل أن تلقي بجسدك المتعب على سرير بعد رحلة طويلة لتتفاجأ بأنك على موعد مع صدمة أخرى "كل الغرف محجوزة"! تم إرسالنا إلى فندق صغير قديم يبعد حوالي الثلث ساعة عن مكان المؤتمر.. حجزنا غرفتين (كل أربعة أشخاص في غرفة واحدة) وقد حرصتُ على أن أكون في الغرفة التي ليس فيها حيدر، ورمينا بأجسادنا المجهدة على الأسرّة (في كل غرفة سريرين). كان السرير مع أنه شراكة مع شخص آخر مريحًا جدًا بعد الجلوس على مقاعد الباص لساعات طوال..
 
في الصباح الباكر توجّهنا للمؤتمر في فندق الشيراتون، فكان مفاجئًا بحق! كانت الأجواء دافئة جدًا بوجوه تألفها وحركة دؤوبة ردّت الحياة إلى نفسي.. ما كل هذا! ما هذا التجمع الذي جمع المئات من الشيعة من مختلف الأجناس في مكان واحد ومؤتمر واحد وشعار واحد..

كان المؤتمر في ذلك العام مشتركًا بين جماعتين: الجماعة الإسلامية في أمريكا وكندا (غالبيتهم خليجيين وعرب) وجماعة الطلبة الإيرانيين في أمريكا.. كان الحضور يفوق الألف مشارك، وكان المحاضرون من مختلف البلدان، لبنان، ايران، العراق، أمريكا، كندا، لندن،.. إلخ.. شخصيات محاضرة لها وزنها في العالم الإسلامي أمامك على المنصة تلقي محاضراتها باللغة العربية أو الإنجليزية أو الفارسية وترجمة مباشرة حية.. البرنامج يبدأ من صلاة الصبح ولا ينتهي إلا العاشرة مساءً.. ولا تنتهي الحركة بانتهاء البرامج اليومي، بل على العكس ترى الجنود خلف الكواليس يقومون بالإعداد لليوم التالي، فجماعة تكتب البرنامج ليوم الغد بخط اليد، واجتماعات للقائمين على المؤتمر، ومجموعة تقوم بالتنظيف هنا، وأخرى تجهز الأجهزة الصوتية في غرف المحاضرات، وأخرى تعمل في المطبخ، .. إلخ.. والحضور له جلساته الخاصة، فمجموعة هنا جالسة تتسامر، وأخرى تتبادل أطراف الحديث حول ما دار من محاضرات، ومجموعة أخرى للتو تعرف أعضاؤها على بعضهم البعض.. 
 









إحدى الفقرات التي لا تزال راسخة في ذهني كانت في البرنامج الليلي حيث الحضور يملأ القاعة.. كانت الفقرة لنشيدة لمجموعة من الطلبة الكويتيين.. وقفت المجموعة على المنصة يقدمها شاب عليه ثوبًا أبيضًا، وانطلق الصوت صادحًا بكلماتٍ اقشعر لها بدني، بل وجعلت جميع الحاضرين يقفون على أرجلهم:
 
مولاي صاحب الزمان .. أين الأمان أين الأمان
مولاي صاحب الزمان.. أين الأمان أين الأمان
 
أين الأمان يا أمان.. قد مسّنا ذل الهوان
ضاق بنا ذرع الزمان.. ضاق بنا ذرع الزمان..
 
أين الأمان أين الأمان..
 
لم تنته الأنشودة إلا وجميع الحضور يرددون مع المجموعة كلماتها وقد هزت أصواتهم الجدران.. موقفٌ لا يُنسى. 

ومن الأمور الطريفة والمواقف التي لا تُنسى أن أحد العلماء من لبنان وبينما كان يلقي محاضرته، كان على الطاولة التي أمامه صحنٌ فيه بعض الفواكه وسقطت برتقالة منه، وكان صاحبنا بلال البعلبكي بالقرب من المنصة وإذا به يركض سريعًا ويُلقي بنفسه على البرتقالة ظنًا منه أنها قنبلة ليحمي العالم والناس من القنبلة، ليكتشف بعد ذلك أن الذي رمى نفسه عليها ليست إلا برتقالة لا تنفجر.

كان مما أثار دهشتي أن رأيتُ طوابيرًا من الراغبين في الانضمام للجماعة الإسلامية يقدمون طلباتهم للمشاركة في أنشطتها.. أتذكر جيدًا في ذلك الوقت أنه لا يكفي التقدم بالطلب، بل كانت هناك شروطًا يجب توافرها في المتقدم بالطلب أحدها الحصول على تزكية من عضوين من أعضاء الجماعة.
 
لجان مختلفة ومتنوعة كلها متطوعة لا تتقاضى أجرًا تقوم بالإعداد والعمل المثابر لإنجاح المؤتمر.. انخرطتُ سريعًا مع لجنة كتابة البرنامج اليومي باللغة العربية بسبب إجادتي للخط العربي مما جعلني على قُرب من القائمين على المؤتمر.. كانت روح المشاركة والتطوّع سيدة الموقف.. بمجرد النظر تعرف أن عملية تنظيم مؤتمر بهذه الضخامة يحتاج للكثير من التخطيط والتنفيذ والانضباط، كما أنه يحتاج إلى إدارة ماهرة خصوصًا والمؤتمر يضم مؤسستين مختلفين كان هذا المؤتمر أول وآخر عمل مشترك بينهما. وبغض النظر عن ذلك إلا أنه يذهلك حالة التنظيم لهكذا تجمع.
 
ثلاثة أيام تعيش أجواءً مختلفة جدًا عن أجواء الحياة الغربية.. تشعر خلال هذه الأيام أنك في عالمك الخاص.. عالم تعرفه، تحنّ إليه، تعشقه.. صلاة الجماعة وما أدراك ما لصلاة الجماعة من أثر في بلاد الغرب.. الأجواء الروحية الإيمانية في الأدعية وعلى رأسها دعاء كميل ليلة الجمعة.. الحجاب الإسلامي الشرعي على رؤوس الأخوات له رونقه الخاص بعد أن تقرّحت العيون بمظاهر التفسخ الغربي.. المحاضرات الإسلامية الهادفة، المعارض الإسلامية، وغيرها الكثير من المظاهر التي تعيشها خلال أيام قصيرة تشعر أنك في عالم مختلف جدًا وبمجرد خروجك من الفندق في رحلة العودة تنصدم وتصيبك حالة من الحزن على فراق تلك الأجواء.
 
التقيتُ بمجموعة من الحضور من مركزنا الإسلامي الذين جاؤوا للمؤتمر عن طريق رحلة الطيران كان أحدهم السيد أبو حسين من الإحساء، فسألني عن رحلة سفري فأبديت له تذمري منها، فقال لي عودتك للمدينة ستكون على رحلة الطيران معي، فاعتذرت منه.. فردّ عليّ بأنها لن تكلفه دولارًا واحدًا.. تعجبتُ، كيف؟ فأجاب أنه اضطر أن يشتري لابنه تذكرة لأنه بلغ عمره الحد القانوني لشراء تذكرة سفر.. قال، احمله على صدرك وادخل الطائرة معي وعائلتي (كانت عائلته تتكون من زوجته وابنته وولديه).. حينها كنتُ مستعدًا أن أجرّب أي طريقة لأتفادى الرجوع بالباص. وبالفعل، حملتُ ابن السيد وركبت الطائرة بتذكرته ولم يتم ايقافي أو منعي. كانت الحالة الأمنية في المطار في الثمانيات مختلفة جدًا عن الوقت الحالي. 
 
للأسف الشديد، مع ارتياحي كثيرًا للمؤتمر إلا أن رحلة السفر بالباص تركتْ أثرًا سيئًا عندي منعتني من حضور المؤتمر لعدة سنوات. لكن من الأمور الإيجابية في المؤتمر أنه منحني الفرصة لأن أمد شبكة التواصل مع الكثير من الأصدقاء الذين تعرفتُ عليهم في المؤتمر والمتوزعين في مختلف الولايات المتحدة. بل أنه البداية....

 
يتبع في الحلقة القادمة..


31 يناير 2015

__________________________________________
** ملاحظة: صورة المؤتمر ليست لنفس العام الذي ذهبتُ فيه للمؤتمر، وإنما لعام 1982م.

كاوست، تعالي يا ماما // أم علي

 

هل تعتقد أنَّنا خُلقنا أشتاتًا مختلفين متمايزين فقط لنتعارف؟
 
أنا لا أعتقدُ ذلك.. فلفعل الخالق أبعادٌ كثيرةٌ، قد ندركُ بعضها ولكن ليس كلَّها..
 
الناسُ فوائدٌ، تمشي على الأرض، وتجلسُ على المقاعدِ وتفترشُ الطرقات وتنامُ على الأسرّةِ وتملِكُ العروشَ..
 
تُكسِبُنا الكثيرَ، ونحنُ نكسِبُها كذلك.
 
كلُّ منا يَطَالُ ظلٌّ منهُ جسدَ الآخر والآخرين، وبعض الناس تدهِشُكَ وتُذهِلُكَ بما تفعل، كما قد تفعلُ أنتَ كذلك.
 
أكتُبُ لِدهشةٍ غمرتني، حين قرأتُ في جريدةٍ عن أسرةٍ أسمت ابنتها حديثةَ الولادة (كاوست) تيمُّنًا باسم جامعة الملك عبدالله بن عبدالعزيز بعد وفاته!
 
قفز في مُخيِّلتي صوتُ أمٍّ تُنادي:
كاوست، تعالي يا ماما!
 
فلنترك (كاوست) قليلًا..
 
إنَّ إحضارَ إنسانٍ إلى الوجود ليسَ بالأمر الهيّنِ، ولا هو متعةٌ مَحضةٌ وشرفٌ وزينة..
إنَّها مسؤوليَّةٌ عظيمةٌ، وفي حَدِّ ذاتها هي قضيَّةٌ لا بد أن تسعى لتفُوزَ بها، وأن تكونَ مُحاميها، وحِلفَ الدفاعِ لها، وقاضيها، وهو واجبٌ لا بُدَّ لك من تأديته على أكملِ وجه.
ثُمَّ إنَّ هذا الإنسانَ ليسَ شيئًا نملِكُه، ولكِنَّه وُجُودٌ يستقِلُّ بذاته شيئًا فشيئًا، فهو حرٌّ مِلْكُ نفسِه، وكلُّ ما من أمرنا عليه، هو بعدٌ يؤثِّرُ فيه!
 
هذا الإنسانُ ليس (بيكب أبو جلستين) نُطلقُ عليه (أم الحناين)!
 
يجبُ علينا أن نوفِّرَ للإنسان حياةَ مُؤاتية، ليسَ بالضرورةِ أن تكونَ البيئة الخارجيّة أيضًا مُؤاتية، فهي خارجَ حُدُودِ السيطرة، ولكن بالإمكانِ خلق منزلٍ مناسبٍ لسلامةِ نفسِ هذا الإنسان الجديد، واختيار اسمٍ يتوافقُ والبيئةُ المُحيطة والعرفُ السّائد. يمكنُ لنا أن نشذَّ قليلًا، ولكن ليسَ كثيرًا..
ليس (كاوست)!
 
حينَ نعقِدُ العزمَ على إنجابِ طفلٍ، فإنَّ من الضرُوري أن ندركَ حقيقة كونه حياة جديدة أصبحَت بيننا، ولا بُدَّ أن نصنعَ الفُرصَ المُناسبةَ حتى تبقى وتستمرَّ سويَّة سليمة.
 
لا يمكنُ أن أجعلَ من شخصٍ أحبُّه عتبةً أرتقيها لأرقى..
صحيحٌ إنَّنا نستفيدُ من بعضنا البعض وبِسُبُلٍ قد لا ندركُها، وعلى سبيل المثال:
جزءٌ كبير من الاطمئنانُ ينبعُ من دواخلنا، ولمَن حولنا أثرٌ في ذلك أيضًا، فلا يمكنُ أن أعيشَ دونَ أشخاصٍ أحبُّهم، ولا يمكنُ أن أهنأَ وهُم ليسُوا بخير، فقد أقُولُ لإنسانٍ أحبُّه: أرجُوك أرجوك كُن بخير، ليسَ من أجلِك، بل من أجلي أنا، فأنا أحبُّكَ وأريدُ لك أن تكون بخير، لأنَّ هذا أمرٌ يغذيني ذاتيَّاً ويجعلني في غبطة.
 
ومَن يدري فقد أقولُ أنا حديثي هذا وأفعلُ ما يناقضُهُ غدًا، فأنا شغُوفةٌ بالفضاءِ حدَّ التصوُّفِ والإنشاد، وقد أجهلُ فوقَ جهلِ الجاهلينَ وأسمي طفلتي - ناسا - تقرُّبًا إلى وكالةِ ناسا الأمريكية زُلفى؛ كي يأخذُوني معهم في رحلةٍ سياحيَّة إلى الفضاء!
 
 
31 يناير 2015

الشُيُوعِيَّةُ، وإنْ غَابَ أو (غُيِّبَ) رَسْمُها (14) - "مناقشات وردود (5) / الصراع ورفع الحاجة النفسيَّة" // محمد علي العلوي

 
 
أيُّ حركة من الإنسان فإنَّها تصدر لحاجة يعيش صراعها تحت عنوان وجوده التكويني، ولا حركة إلا وتتبع حاجة، ولكنَّ هذه الأخيرة لا تحدِّد الحركة الرافعة لها، وإنَّما تحدِّدها قوَّة العقل المودع في الإنسان، وكلَّما حدَّتْ الحكمة فيها، كلَّما هيمنتْ على دائرة الخيارات، وتمكَّنت من الدقَّة في اختيار الأصوب.
 
هي معادلة غاية في التعقيد، فلو إنَّنا نسأل عن الحاجة الدافعة لاختيار هواية من الهوايات المعروفة، ولتكن (جمع الطوابع)، لكان التفكير أوَّلًا في سبب عدم اختياره هواية أخرى مثل (الفروسيَّة)، ولماذا كانت (جمع الطوابع) تحديدًا، وما هي المتعة التي يولِّدها ارتفاع الحاجة عند جمع الطوابع وترتيبها وتصنيفها؟
 
مجموعة كبيرة من الأسئلة ترِدُ على موضُوعيَّة الحركة، ومنها: مدى ارتباطها بالغير!
 
قد تنشأ حاجة في النفس للكون في شخصية تشبه أوَّل وأشهر جامعي الطوابع البريدية الدكتور جون أدوارد جري، وهو يتصفح مُصنَّفه الفريد في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، ومن هنا يقع الخيار على هواية جمع الطوابع، غير إنَّ سؤالًا جديدًا يفرض نفسه بقوَّة، وهو: لماذا كان الانجذاب للدكتور جون، ولم يكن لغيره من المشاهير؟
 
عندَّما يُقَرِّرُ الشيوعيُّ الطبقيَّةَ منشأً أصيلًا للصراع البشري، فإنَّ السؤال التحليلي يرد بموضوعيَّة تامَّة: لماذا تكون الطبقيَّة سببًا للصراع؟
 
لو إنَّنا نمتلك آلية إعلاميَّة تثقيفيَّة قويَّة، فهل نتمكن من خلالها أن ننشر ونرسِّخ ونجذِّر لثقافة جديدة تقوم على الفهم الأُموي للآية الكريمة (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، وهو: إنَّ الحاكم حاكم بمشيئة الله تعالى، والعبد عبدٌ بإرادة إلهيَّة سابقة، وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي سلام قال: قال حذيفة بن اليمان، قلتُ: "يا رسول الله، إنَّا كُنَّا بِشَرٍّ فجاء الله بخيرٍ فنحن فيه، فهل من وراء هذا الخير شَرٌّ؟
قال: نعم.
قلت: هل وراء ذلك الشر خير؟
قال: نعم.
قلت: فهل وراء ذلك الخير شر.
قال: نعم.
قلت: كيف؟
قال: يكون بعدي أئمَّة لا يهتدون بهُداي، ولا يستنُّون بسنَّتي، وسيقوم فيهم رجالٌ قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس.
قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركتُ ذلك.
قال: تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع".
 
هذا من الأحاديث التي يرويها السنَّة في صحاحهم ويرفضها الشيعة رفضًا قاطعًا، ولكِنَّها وعلى أيَّة حال، لا تزال فاعلة بقوَّة في منظومة العقليَّة الحاكمة أنظِّمةً وشعوبًا.
 
يبدو إنَّ النظرة الشيوعيَّة لا توافق على إمكانيَّة السيطرة على نزعة الصراع الطبقي بأيِّ حال من الأحوال، وهنا يرد سؤال:
 
هل يحتاج العمَّال إلى تحريك وتهييج لمواصلة الصراع؟
وهل للبرمجة الثقافيَّة المضادَّة أهليَّة السيطرة على شريحة من العمَّال المعوَّل عليهم في الصراع الطبقي؟
وإذا كان الجواب بنعم، فما المانع من أن تكون السيطرة على النسبة الأكبر وعزل الباقي؟
إذا كانت ثورة البروليتاريا طبيعيَّة حتميَّة، فما الداعي لتبنِّي الحزب الشيوعيّ مهمَّة التنظير لها ومساندتها؟
 
يقولون بأنَّها ثورات غير منظَّمة، وتحتاج إلى رؤى واستراتيجيات، وهذا ما يتكفَّل به المُنَظِّر الشيوعي.
 
يبدو لي إنَّ الطبقيَّة واضحة بين البروليتاريا والمُنَظِر الشيوعي الذي يريد السيطرة من الأعلى على حركة العمَّال وتوجيهها بحسب ما انتهت إليه رؤاه، غير إنَّها طبقيَّة ثقافيِّة، ولا أراه تختلف على الطبقيَّة الاقتصاديَّة، وهنا بعض ممَّا قاله فلاديمير لينين، قائد الثورة البلشفيَّة:
 
- إنَّ شعبًا لا يُجيدُ استخدام السلاح، ولا يسعى لاستخدامه, لا يستحقُّ أن يُعامل الَّا معاملة العبيد.
- الثورة تعتبر مستحيلة، ما لم يكن هناك حالة ثوريَّة, وليست كُلُّ حالة ثورية تقود إلى ثورة.
- عندَّما يقوم شخصٌ بالثورة، فلا يوجد جدولٌ زمنِيٌّ, بل يجب عليه الأتِّجاه إلى الأمام.
- لا يُمكِنُ التنبؤ بوقت الثورة، أو تطوُّرِها, فما يحكم الثورة هو قانونها الخاص.
- لن يكون بأمكانك القيام بثورتك وأنت ترتدي القفازات البيضاء.
 
أراها وغيرها من الخطابات الشيوعيَّة، وأضيفُ إليها النازيَّة والفاشيَّة خطابات تعتمد السيطرة التثويرية بالتركيز على باعثين أساسِيَّين من البواعث النفسانية الأربعة، وهما: باعث الغضب، وباعث الشهوة، وذلك بتحريك كُلِّ واحد منهما صوب الإفراط، فالتهور في الأول، والشره في الثاني.
 
كما وتعتمد تِقنيَّتين مهِمَّتين، تقنيَّة العامل الجماهيري، وتقنيَّة التنظيم بشكليه الهرمي والعنقودي، وبهاتين التِقنيَّتين يتولَّد في الفرد شعورٌ بالقوَّة والمنعة، وهذا الشعور ضروريٌّ في مرحلة التحريك المُوجَّه.
 
وكيف كان، فإنَّ الجماهير في النظر الشيوعيّ، وقبل الوصول إلى نقطة الاضمحلال الطبقِيّ، يجب السيطرة عليها وحمايتها من أيِّ إفساد دينيّ أو ما يشبهه من أطروحات نقديَّة في ميدان مواجهة الظلم والاستبداد وغير ذلك.
 
يقول كارل ماركس، كما ينقل أوجست كونو في كتابه (ماركس وإنجلز، حياتهما وأعمالهما) – ترجمة: إلياس مرقص: "فالعدوُّ الحقيقيّ للإنسانيَّة والتقدُّم ليس هو الجمهور، بل نزع إنسانيَّة العلاقات الاجتماعيَّة، الذي يُنجِّبُه النظام الرأسمالي، وإنَّ تحويل هذا النظام لا يمكن أن يكون نتاج قِتَالات آيديولوجية، كتِلك التي يخوضها النقدُ النقديُّ، بل فقط نِتاج النضال الثوريّ الذي يخوضه الجمهور".
 
ومن الفلاسفة الألمان المعاصرين لكارل ماركس، برونور باور، وكان من أصحاب العقليات المعقدّة الحادّة، يقول في خطاب أرسله لكارل ماركس:
 
"الكارثة أو النازلة أكبر من تلك التي صاحبت دخول المسيحيَّة إلى العالم، ما يشهده العصر، هو المعركة النهائية الأخيرة مع عدوِّ البشريَّة الأخير... والخطيئة التي يقترفها الإنسان ضدَّ نفسه والتي هي أكثر صعوبة، هي إنَّ الإنسان لا يستطيع تجنب المعتقدات الدينيَّة، بل يراها في العين الإنسانيَّة، ويُغلِق عينيه ويغوص فيها قبل عمله الخاص، والشيء الوحيد الذي يمنع التحرُّر الكامل هو الخوف من أن يفقد الإنسان ذاته، قبل أن يكسب ذاته مرَّة أخرى" (نقد فلسفة هيجل/ كيركجورد – فويرباخ – ماركس، للدكتورة فريال حسن خليفة).
 
في تصوري إنَّ الرأسمالية أصابت الإنسان يإعاقة كبيرة في قدرته على الخروج من دائرة (الرزق والمعيشة)، فهي قد حوَّلتْه إلى آلة صَمَّاء تعمل للإنتاج، ولذلك نرى الإجابةَ واحِدَةً فاردَةً على مجموعة الأسئلة التالية:
 
لماذا تتزوج؟ لماذا تُنجِب؟ لماذا تتعلم؟ لماذا تسعى للشهادة الجامعية؟ لماذا تبحث عن وظيفة؟ لماذا تتمسك بنظام الراتب التقاعدي؟
 
الإجابة على هذه الأسئلة لا تخرج عن (طلب المعيشة)!
 
هذا وما أفهمه هو إنَّ الزواج لغاية سامِيَة موقعها المحافظة على التطور النوعي للإنسان روحًا وعقلًا، والإنجاب لتجنب الأخطاء التربويَّة التي وقع فيها الجيل السابق، والعلم يُطلب لنفسه، فهو المائز الحقيقي للإنسان عن غيره من بني جنسه (على حّدِّ ما وصل إليه الإدراك البشري)، والوظيفة لغاية الإبداع العلمي والمساهمة في تطور الإنسانية.. وهكذا، غير إنَّ ثقافة المال والمعيشة قد سيطرت على مفاصل العقليَّة الحرَّة، وحلَّت مكان السمو الإنساني.
 
وأمَّا الشيوعيَّة فاجتهادها في تذويب الفرد في جماهير (الثورة) التي تبرِزها المستحقَّة الوحيدة للحياة الحرَّة، فلا للنَّقد ولا للتنظير ولا لشيء غير حمل السلاح والمواجهة، ومن يشذُّ فهو خائِنٌ جبان!
 
في حالتيِّ الرأسمالية والشيوعيَّة، أتمكن من إرجاع حركة الإنسان إلى إرادة الغير، وإن ظهرت على خلاف ذلك.
 
أمَّا ما نعتقده، فإنَّ الإسلام منظومة إنسانية لا تمارس أيَّ نوع من الضغط على الإنسان، سواء دخل في دائرتها أم لا، وذلك لأنَّه قائم على نشأتين، إحداهما الدنيا، والأخرى الآخرة، وفي هذه الثانية يقوم الحساب على ما كان في الأولى.
 
يقول تعالى: (وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ).
 
ويرفض الإسلام ممارسة التسلُّط بمختلف صنوفه، فيقول: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ * إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ).
 
وإذا اختار الإنسان هذا الدين، فإنَّه يلتزم بما يقتضيه الإيمان به: (قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ).
 
وفي القضايا الخطيرة والمحورية، فإنَّ الأمر للحكيم العلَّام، ولا يسمح فيها للاجتهادات الشخصية التي قد تنتَّهي بالإنسان إلى نتائج كارثية: (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).
 
وقال عزَّ وجلَّ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً).
 
وعند غياب القيادة المعصومة المُؤَمِّنَة من الوقوع في المهالك، فإنَّ الإعمال لقول الإمام الصادق (عليه السلام): "الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة".
 
وقول النبيِّ الأكرم (صلى الله عليه وآله): "الاُمور ثلاثة: أمر بيّن لك رشده فاتبعه، وأمر بيّن غيّه فاجتنبه، وأمر اختلف فيه فردّه إلى الله".
 
فالإسلام يحترم الإنسان، ويحترم خيارات الإنسان، ولا يفرض عليه ضغوطًا، ولا يصادر قدراته العقليَّة، ولا يزجُّ به في مواجهات لا يضمن فيها إحدى الحسنيين، ولذلك نجده في حالة تركيز على أن يكون الحراك نابعًا من القوَّة العقليَّة للإيمان الحقيقي (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ).
 
وهنا يُسجِّل الإسلام نقطته الفارقة، وهي تقرير الاتصال بين الوجدان الإيماني في الإنسان وبين العقيدة، فلا سلطة لإنسان على آخر إلا أن تكون ملازمة لمقام الخلافة الإلهية الحقَّة، وهذا الاتصال لا يكون فاعلًا إن لم ينطَّلق من شعور حقيقي بالنقص الذي لا يُطلَبُ سَدُّه إلا من جهة الكمال المطلق، ولا يُقبل ممَّا هو دون ذلك.
 
• ملاحظة: موضوع الرؤية الإسلامية يحتاج إلى إشباع، وهذا ما أعِدُ به القارئ الكريم في المرحلة الثالثة من السلسلة إن شاء الله تعالى.
 
ويبقى سؤالان أطرحهُما الآن وفي خاتِمَة كل حلقة من حلقات هذه السلسلة:
 
بأيِّ عينٍ وثقافةٍ ونَفْسِيَّةٍ ورُوحيَّةٍ نقرأ كتابَ الله المجيد وأحاديثَ المعصومين (عليهم السلام)؟
 
هل نحن على الطريق الصحيح أو أنَّنا في حاجة إلى مراجعات عاجلة وجادَّة جِدًّا؟
 
نلتقي في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى..
 
 
31 يناير 2015

إشاعة الجريمة.. زرع وله حصاد // إيمان الحبيشي

 
 
بشعةٌ مناظر القتل التي تردنا من خارج الحدود، أيًا كان القاتل وأيًا كان المقتول. الإنسانية تستنجد تحت وقع الرماح والأسنّة. وبين قطع الرؤوس وعودة سبي النساء، ها هي الجاهلية تستحكم فينا، بعد أن حاربها نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وآله على مدى سنين.
 
لم نشترك يومًا في حرب، ولسنا شعبًا يحمل السلاح بغض النظر عن الأسباب، لكنّا وجدنا أنفسنا فجأة معنيين بحرب طائفية عالمية، لم نسعَ لها ولا نريدها، لكن فرضتها علينا مصالح الدول العظمى، التي أذكت الخلاف الطائفي الإسلامي، وصبغت بعض الصراعات السياسية، وبالتعاون مع أنظمة محلية بصبغة عقائدية.
 
اليوم وبطبيعتنا الإنسانية فإننا نتفاعل وننفعل بما يجري من قتل. صدمتنا صور وتسجيلات وصلتنا لقطع الرؤوس واللعب بها، ولسبي النساء وبيعهن، ووُضعت إنسانيتنا تحت محك اختبار صعب، حين صارت تصلنا أيضًا مناظر صدّ توحش قاطعي الرقاب. لقد صار كثيرون منا يتداولون - بالإضافة لمشاهد قطع الرؤوس - مقاطع لجموع من الجنود (القتلة) الذين كانوا يُستخدَمون لممارسة القتل، بعد أو أثناء قتلهم ليعبّروا عن فرحهم مستخدمين مصطلحات، لا أجدها تتناسب وإنسانيتنا وإن اختلفنا مع من تخصه تلك المقاطع، (الدعس على الكافر فلان) الخ، ترافق تلك المصطلحات مناظر لأرجل وُضعت على أجساد أولئك القتلى!
 
يقول رسول الرحمة (ص) والذي نعد أنفسنا الأكثر قربًا لدينه لأننا نستقيه من خيرة الخلق ( محمد وآل محمد)، (لا تمثلوا ولو بالكلب العقور) فإن وجدنا ما يشبه عملية التمثيل فلا بدّ أن ننكرها، وأضعف الإيمان يكون بأن لا نتداولها.
الأمر لا يتعلق بحكم شرعي فحسب، وإن كانت الأحكام الشرعية ليست عبثية، إنما وفي سبيل أن نحافظ على هيئتنا الإنسانية التي خلقنا عليها، وهي أن تشمئز نفوسنا من مناظر الدماء والقتل، وإن كان قتلًا اضطراريًا. وأن تثور إنسانيتنا ضد إهانة الإنسان وإن كان يمارس الإهانة! نحن نتعامل من منطلقنا نحن، ومن مبادئنا وأخلاقياتنا لا من مبادئهم وأخلاقياتهم. أتفهم أن إجرام بعض الجماعات فاق الحدود، حتى صار من يواجههم مخيرًا بين قتلهم وقتلهم، لكني أتساءل هل نحن مضطرون لقتل قلوبنا بهذه المناظر؟! في رأيي لا بدَّ أن نمتنع جديًا عن مشاهدة وتداول تلك المقاطع والصور والتي بطبيعة الحال تدرب قلوبنا ونفوسنا وضمائرنا على القسوة!
 
تُرى ما الذي يوصل إنسانًا ما لمرحلة ممارسة القتل ببشاعة وبدم بارد؟ قطعًا إنه موت مشاعره الإنسانية الطبيعية من جانب، واستثارة غيرها بطُعم الجنة التي عرضها السماوات والأرض من جانب آخر! أكاد أجزم أن من يحز رأس إنسان، مهما اختلف معه في عقيدة أو رأي، هو إنسان ربّى قلبه على القسوة مدة طويلة، وبرر عقله له قسوة الآخرين لاعتبارات تتعلق بالاختلاف، فقبلت روحه تلك المناظر والجرائم ليتحول لممارس لها، يتبجح بما يفعل، ويعدّها الباب الذي سيدخله لجنات الله.
 
إنّ اشاعة الجرائم عبر تداولها في وسائل التواصل الاجتماعي، أيًا كان دافعها وسببها، هو إشاعة للعنف والحقد والكراهية، إنها فعل يولد رد فعل لا يرضاه عاقل، بينما يلهث وراءه من يحصد (ثمار) الانشقاق والصراعات داخل مجتمعنا، مجتمعنا الداخلي الصغير، ومجتمعنا الداخلي الأكبر والذي يعد اليوم هو مسرح تلك الجرائم. أكثر ما أخشاه هو أن نجرح إنسانيتنا كل يوم، بمناظر الدماء حتى نألف الجرح و(نبني)عليه، فنتحول لقلوب ميتة لا تستثيرها غدًا جرائم أكبر.
 
بالأمس القريب آلمني أنّ كثيرين، لم يجدوا بأسًا من سفك دمائنا في الشوارع، ليس لأنهم لا يتألمون أو لا يتعاطفون، لكن لأنهم صاروا ينتقون مشاعرهم، فيختارون من يتعاطفوا معه ومن يرفضوا قتله ومن يثوروا لكرامته! بينما واجب علينا ان نتألم من أجل الجميع، ونتعاطف مع كل من يستحق التعاطف، ونرفض القتل بدون وجه حق مطلقًا، ونثور لكرامة أي إنسان، ألم يبكي الإمام الحسين عليه السلام على قاتليه؟! فأين نحن إذًا من سيرة أهل الرحمة؟
 
 
31 يناير 2015

من منا يمتلك نفسًا سليمةً؟! // أم حسين

 
 
تتفاوت درجات القلق والمشاعر السلبيَّة، وعدم الراحة والاستقرار بين حين وآخر، وقد تتسبَّب ظروفٌ معيَّنةٌ بقلق كبير في النفس، فتتساءل:
 
تُرى، ما الذي يحدث؟!
تُرى، ما هي الأسباب؟!
كيف لي أن أتخلَّص من هذا المشاعر المؤلمة؟!
هل أنا السبب أم الآخرون أم الظروف وضغط الحياة؟!
 
أتأمل النفسَ البشريَّةَ فأراها عميقةً جِدًّا، وكُلَّما حاول الإنسانُ إصلاحَ جانبٍ فيها، فإنَّه يراه متشعِّبًا في جذور كثيرة متشابكة ومنتَّشرة في دهاليز النفس، كلُّ جذر يُداخل آخر أكثر امتدادًا وتشعُّبًا.
 
ولذلك فإنَّ الحصول على نفس مستقرة أمرٌ في غاية الصعوبة؛ وما يجعل الأمر كذلك، أطراف المعادلة:
 
النفس..
الآخرون..
واقع الأحداث..
 
كيف نوازن بينها؟!
* من منا يمتلك نفسًا سليمة!!؟
 
كُلُّ نفس مريضة بعلَّة ما، قد تكون بسيطةً، وقد تكون مستعصيةً، ومهما تكن، تبقى مؤثرة على مستويين، أحدهما مرتبط بالآخر..
 
التعامل مع الناس والذي بدوره يؤثر في علاقة القرب من الله.
 
- الاعتراف بوجود مشكلة هو الخطوة الأولى:
البعض يعتبر اعترافَه ضعفًا، وآخر لا يستطيع مواجهة الخلل الذي يعانيه فيهرب من ذلك بإلقاء اللوم على الآخرين.
 
والسَبب في ذلك هو إنَّ النفس غالية على صاحبها، فهو علَّمها وربَّاها، وما زال كذلك على الأقل من وجهة نظره، ويحاول جاهدًا أن يُصلحها، ومن الطبيعي أن يتألم عندما توجه لها انتقادات وإن كانت بلسان حسن، فباطنها يقول:
 
(على الرغم مما فعلته لأجل نفسك فما زلت تعاني نقصًا)
 
وهذا تقليل من شأن النفس وهي المتطلِّعة بالفطرة إلى الأفضل.. ويكون النقد أكثر ألمًا إذا كان ممن تُحب، فهي تتمنى أقصى درجات الكمال أمام القريبين منها.
 
ولذلك كانت قمَّة القوة أن تواجه نفسك بعيوبها، وقمَّة الشجاعة الاعتراف بسلوكياتك الخاطئة النابعة من ذلك الخلل، وإن أردنا العلاج فعلينا معرفة الدوافع التي أدت لولادة المشكلة، وغالِبًا ستكون نتاج تربية اختلَّ ميزان اعتدالها.
 
جانبان مهمَّان لمعرفة الأسباب:
 
الأول: معرفة طريقة العلاج كما أسلفنا.
الثاني: محاولة تجنُّب إعادة المشكلة ذاتها مع أبنائك.
 
اكتشفنا المشكلة وعرفنا أسبابها ودوافعها، وطرق علاجها فما هي الخطوة التالية؟
 
* خطوة العلاج:
أعتقد بأنَّ الإنسان يعيش فترة علاج دائمة، وللتذكير أُعِيد السؤال:
 
* من مِنَّا يمتلك نفسًا سليمة؟!
 
كما وإنَّ الإنسان وجِد على هذه الأرض في رحلة السير إلى الله سبحانه وتعالى، إذًا، فمن يُقدِّرُ نفسه ويرى إصلاحها المنطلق لله سبحانه وتعالى فهو يعيش مرحلة علاجية إصلاحية مستمرة.
 
تتدخل عوامل وتعيق التَّقدُّم في هذه المرحلة، وألخِّصُها في الواقع الذي نعيشه أولًا، والتعامل مع الآخرين ثانيًا.
 
فالإنسان يرتبط بالعالم الخارجي على عدَّة مستويات، فالأهل هم الدائرة الأولى، ثُمَّ الأصدقاء والمعارف، فالزملاء في العمل وهكذا..
 
تؤثِّر جميع المستويات على فترة العلاج بطريقة وأخرى، وكُلَّما كان الشخص قريبًا من دائرة نفسك كُلَّما كان تأثيره عليها وبالتالي على كُلِّ حياتك أقوى.
 
ولاختلاف الأنفس تنشأ المشاكل، فالمشكلة يستحيل أن تكون بسبب فرد واحد ولكِنَّها تختلف في مسبِّباتها، ويشترك الآخر فيها بعدم معرفة التعامل بالطريقة الأنسب، ولا يمكن تحديد مُسَبِّبَ المشكلة، فهو نفسي ويختلف المقياس من شخص لآخر، فما أراه أنا سببًا، قد لا يراه الآخر كذلك.. وهكذا.
 
أضف إلى ذلك، إنَّ تلك الحالة قد يعيشها الإنسان مع فئات عدَّة تختلف في تفاوتها، قد تكون أكثر من مشكلة بين أكثر من شخص فلك أن تتخيل الحالة النفسية لذلك الإنسان.
 
فلا بُدَّ من وجود حَلٍّ، فإمَّا أن:
 
1- تبتعد وترحل، ولكن تذكَّر إنَّك ستواجه غيره، فأنتَّ لن تستطيع العيش وحيدًا في هذا العالم.
 
2- تستمر حتَّى تتغير أنت، وهذا يحتاج إلى وقت، وخلاله عليك أن تتحمَّل الألم والقلق، وتأثيراتهما السلبيَّة على حياتك، كما إنَّه من المحتمل أن تطول فترة العلاج، وخصوصًا مع وجود من يستغلُّ نقاط ضعفك ضدك.
 
3- تصارحهم بما في نفسك، فقد تجدهم متفهِّمين.
 
4- تحديد أطر العلاقة وجعلها رسمية، ولكنَّك ستكون من جهة أخرى مقصر.
 
وتذكر قارئي العزيز بأنَّنا نتناوب في الأدوار، فكن كما تتمنى أن يكون معك الآخر، وتذكَّر إنَّ الآخر يحاول جاهدًا أن يكون في أفضل صورة له كما أنت، ألا يكفي ذلك لأن نسامح ونغفر؟
 
فاختر ما شئت.. شريطة أن يستمر تقديرك لنفسك بإصلاحها لتتقدم في رحلة المسير لله جل وعلا.
 
 
31 يناير 2015

العقيدة الموروثة.. ما حالها؟ // محمود سهلان

 
 
نأتي لهذه الدّنيا لأبوين جمعَ الله بينهما، ونعيش معهما ومع الأهل في أول حياتنا، فنأخذ منهم جميعًا عقائدنا وعاداتنا، والكثير من أخلاقنا وأفكارنا، فنتربّى ونكبر عليها، ونلتزم بها لحدٍّ كبير، ولو كان - التزامنا - شكلًا دون مضمون أحيانًا.
 
ما أريد أن أشيرَ إليه هو عقائد الإنسان، فهي الأساس، فإنّ عمله يقوم عليها، وقد قال تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)[فاطر:١٠]، وقيل أنّ الكلم الطّيّب هو عقائد الإنسان، وبالتالي فهي النقطة التي ينطلق منها ليصل لأهدافه، بل أنّ أهدافه تبتني عليها أيضًا، ولا هدف للإنسان أكبر من السّعادة الأبدية، والخلود.
 
ولمّا كانت العقائد مهمةً جدًا، بشكلٍ لا يفوقها في الأهمّية شيء، لزم من ذلك أن يكونَ الإنسان حذرًا فيها، ولزم عليه أن يتيقّن منها، وأن يبحثَ عنها ويعتنقَها بنفسه، فإنّ الاعتماد على الموروث فقط لا يورث الاعتقاد المطلوب، فمن شأن مثل هذا أن يزولَ ويرحلَ سريعًا، فيكون مستودعًا إلى حين، وليس مستقرًا في داخل الإنسان، وإن بقيَ فيبقى على الأغلب شكلًا لا عمق فيه، ولذلك فإنّ العقل يقودنا للبحث والتفكّر الدائم في عقائدنا، فما يكون المصير متوقفًا عليه، لا ينبغي الإستهانة به أبدًا.
 
من أكبر ما يقفُ أمامنا في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، هو الخوف من الخروج عن خطِّ الآباء والأجداد، والخوف من نظرة المجتمع لمن يتحقق ويبحث، فيجد مجتمعه على خطأ بعد أن وصل للصواب، ووجد الحق، فينحرف عنه (عن مجتمعه)، وقد حدّثنا القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين بديه قائلًا: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ)[البقرة:١٧٠]، وفي موردٍ آخر: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ)[المائدة:١٠٤]، وهناك الكثير من الآيات غيرها، وهي صريحةٌ جدًا في نقد هذه الحالة السّلبية، والتي أبعدت الكثير الكثير عن جادَّةِ الصّواب، وطريق الحق.
 
كن صاحب قرارٍ مستقل، وافتح عقلك وقلبك وابحث وتفكّر، لعلك بعدت عن الطريق فتعود له، فإنّ انغلاقك على موروثاتك بلا برهان ولا دليل، وبلا قناعةٍ تامة، لن يثبّت قدميك، أمام العواصف التي تتدفّق في كل حين، ولن يريحَ قلبك شيء، إلا أن تذعنَ وتتيقَّنَ مما تحمله بداخلك.
 
مما نعانيه، ومما يشغلنا عن مثل هذه الأمور المهمّة، حبّ المال وحبّ الأولاد، وحبّ الراحة، وقد أورد القرآن الكريم عدّة معادلاتٍ رائعة، لكنّنا لا نلتفت إليها، مع كونها غايةً في الأهمّية، فانظر وتدبّر ما يلي:
 
١/ قوله تعالى: (الْمَال وَالْبَنُونَ زِينَة الْحَيَاة الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَات الصَّالِحَات خَيْر عِنْد رَبّك ثَوَابًا وَخَيْر أَمَلًا)[الكهف:٤٦].

٢/ قوله تعالى: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء:٨٨/ ٨٩].
 
تشيرُ الآية الأولى لأنّ المال والبنين زينةُ الحياة الدنيا، زينة الوقت الحاضر، والحياة الحاضرة، ثم تشير لأن الباقيات الصالحات خير عند الله، فمتى تكون هذه الباقيات الصالحات خير عند الله؟ دون شك هي خير في هذه الدنيا، لكنّها تبقى معنا وتنتقل معنا للآخرة، لتقف سندًا لنا حين لا سند ولا معين، وتكون - فعليًّا - خيرًا وأبقى، ثمَّ نجد الآية الثانية تشير ليوم لا تنفع فيه زينة الدّنيا، لا ينفع فيه المال والبنون، بل النّفع لا يتحقَّق إلا لمن أتى بقلبٍ سليم، والقلب السّليم ليس إلا من حمل بداخله العقائد السّليمة، فلاحظ هذه المعادلة الدّقيقة، وغيرها في القرآن كثير.
 
بالنسبة لي فأنا لست مستعدًا لأن أضيع البوصلة، وأخطأ الطّريق، بينما أنا أستطيع أن أصلَ إليه، وأسير فيه، وحتّى أنجو في ذلك اليوم العصيب، في ذلك اليوم الذي يتنصّل الإنسان فيه من أقرب الأقربين، فلا أتخيّل علاقةً وارتباطًا أقوى ممّا يكون بين الأمِّ وأبنائها، لكنَّ الله يخبرنا بما سيجري في ذلك اليوم، فيقول: (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا)[الحج:٢].
 
بعد كلّ ما أوردتُّه فلا أظن أنّ ذا عقلٍ قد يتساهل في مثل هذا، ويقف مكتوف الأيدي، مقيّدًا نفسه بانغلاقه، مبعدًا عقله عن الحدث، خائفًا من أبويه أو أهله أو مجتمعه، ممّن لا يمكن أن يضرَّه إلا قليلًا زائلًا، ليخسرَ أسمى وأجلَّ مطلوب، ويعرِّض نفسه لأكبرَ خطرٍ وألم، فلا ينفعُ حينها الندم..
 
 
١٠ ربيع الثاني ١٤٣٦ هـ

الـ ( أنا ) والـ ( وعظ ) // أبو مقداد

 
 
على خط الزمن يتكرر دعاة الخير.. فيتكرر دعاة الشر، وصراعُ الخيرِ والشر الأزلي هو في الواقع صراع الحق مع الباطل، أو صراع الصلاح مع الفساد، وبمعنى أدق، هو صراع المصلحة الشخصية مع المصلحة العامة، المصلحة الشخصية التي تمثل مصلحة الجزء على حساب الكل، والمصلحة العامة هي التي تمثل مصلحة الكل على مصلحة الجزء، وبين هاتين المصلحتين بدأ الصراع ولم ينتهِ.
 
هناك نظريةٌ تقول بأن الأنانية (المصلحة الشخصية) تولدُ مع الإنسان من اليوم الأول له في هذه الدنيا، فينمو الإنسان وتنمو معه، حتى يكبران معًا، فهنا نسلّم بأنها فكرةٌ جُبل عليها الإنسان، فلا إمكانية لتغييرها، وأن ظهور أناس صالحون وأناس فاسدون، هو نتيجة تقاطع المصالح الشخصية للفئة الصالحة مع المصالح العامة، فيظن الناس بأن فلانًا صالحًا، لأنهم لاحظوه يعمل لمصلحتهم، وهو واقعًا يعمل من أجل نفسه، وأما الفاسدون فهؤلاء تعيسوا الحظ الذين اختلفت مصالحهم مع المصلحة العامة، فظنَّ الناس بأنهم فاسدون، بالرغم من أن الفئتين عملوا من أجل ذاتهم، ومن أجل مصالحهم الشخصية.
 
للإسلام ردٌّ على هذه النظرية، بالرغم من أن جزءًا كبيرًا منها مصيبٌ، فالإنسان فعلًا يولدُ أنانيًّا، فهو جاء من عالمٍ لا وجود لأي مخلوقٍ آخر غيرهُ فيه يشاركهُ الرحم، وبالطبع ستكبر معه هذه الصفات مع الأيام، وهنا يتدخلُ الإسلام، النظام العبقري العظيم الذي وضعه لنا الله عز وجل، ليدير به الحياة ويُنظِّمَها، وليهذب هذه الصفات ويوجهها حسب وظيفتها السليمة.. فحين كان من الطبيعة البشرية حب جمع المال، لم يأتِ الإسلام لمحاربة هذه الحالة، إنما هذبها، وأوجد طرقِ الكسب الحلال السليمة فـ (أَحَلَّ اللهُ لَكُمُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الْرِّبَا)*، وقال أيضًا (والَّلذِينَ يَكْنِزُونَ الْذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يَنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذّابٍ أَلِيْم)**، ثم حث بشدةٍ على صدقة السرّ، فعن أبي عبدالله عليه السلام قال: (الصدقة والله في السر أفضل من الصدقة في العلانية، وكذلك العبادة في السرِّ أفضل منها في العلانية) وعن سهل بن زياد عن جعفر بن محمد الأشعري، عن أبي عبدالله عن أبيه عليهما السلام قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: صدقة السر تطفئ غضب الرب). وهذه الأمور التي يحث عليها الإسلام، لا مقابل مادي منها تعود فائدته على الفرد بشكلٍ مباشر، إنما يحث الإسلام عليها من أجل قيمة هذا السلوك من جهةٍ، ومن أجل تهذيب صفة الأنانية في هذا المثال، وفي صعوبة الامتثال لهذا الحكم الشرعي، والتهذيب الإسلامي يكن الاختبار لتمييز الحب الصالح من الحب الفاسد، فالإنسان الصالح – من وجهة نظر الإسلام – ليس من تقاطعت مصلحتهُ الشخصية مع المصلحة العامة فقط، إنما مَن آثر المصلحة العامة على مصلحته الشخصية، هذا لأن الأحكام الشرعية والمبادئ والقيم الإسلامية، لم تُوجد من أجل التصعيب أو التطبيق الحرفي والممارسة الطقوسية، إنما كان هدف التشريع وروح التشريع هو أن يكون وسيلةً للوصول لهدفٍ اجتماعيٍّ معين، فحين أحل الله البيع وحرم الربا لم يكن هذا تحريمًا عبثيًّا بل كان هذا إجراءٌ وقائيًا للمجتمع لحمايته من الفساد الاقتصادي، ولحماية الفقراء من استغلال الأغنياء، ولمنع تكدس الأموال عند فئة وحرمان فئة أخرى منها، والكثير من الحكم التي جعلت تشريع الربا والبيع من أهم التشريعات. وهذا هو حال بقية التشريعات، كلها وسيلة للوصول لهدفٍ اجتماعي سامٍ، ينظمُ هذه الحياة ويديرها. والتحايل على هذا التشريعات، حتى لو طُبقت بصورتها الشكلية كأن تحول الربا لعملية بيع بواسطة مخرجٍ أو حيلة شرعية، لن يجعل منك إنسانًا صالحًا، لأنك لم تحقق الغاية التي كان من أجلها التشريع.
 
يأمرنا الإسلام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا تشريع كما سبق لنا الذكر يصبُّ في مصلحة المجتمع بالدرجة الأولى، وهو أمرٌ يجب على كل مسلمٍ الامتثال له فـ(مَن بات ولم يهتم لأمور المسلمين فليس منهم) وهو فرعٌ مهمٌّ جدًا من فروع ديننا الإسلامي.. وقد تولى البعضُ كعلماء الدين مهمة الأمر والنهي هذه بشكلٍ خاص، فصار الوعظُ مهمتهم التي يسعون من خلالها لتطبيق روح الإسلام المحمدي الأصيل، وتنظيم الحياة كما شاء الخالق عز وجل.
 
تكمن المشكلة في عدم معرفة (بعض) هؤلاء الواعظين لمنشأ الخلل الموجود عند من ينحرف أو يُخشى عليه من الانحراف عن المسار الإسلامي الصحيح، أو في عدم تمكنهم من الإحاطة بالأسلوب المناسب لهذا الوعظ، فلا يعقل مثلًا أن يُطلَب من مترفٍ متلذذ بملذات الدنيا و شهواتها أن يتنازل عن كل هذا من أجل أن يُصلح حال المجتمع فيقبل، ولا يمكن قهر من نشأ في بيئة لم تعرف الالتزام من قبلٍ وإجباره على الالتزامِ دونَ أن يُعالجَ منشأه الثقافي الذي أوصلهُ لهذه الحالة. إن ممارسة الوعظ الديني لمجرد ممارسته دونَ الإحاطة بأساسياته وأساليبه، ودون اختيار الظرف المناسب، وجميع خصائصه المناسبة، يجب أن لا نتوقع منه تلك النتائج الباهرة التي ستصلح الناس والمجتمع، بل يجب أن نخشى منه أن يثير ردود الأفعال ضد الدين والدعاة إليه.
 
أن يضع الواعظُ نفسهُ في منصةِ العصمة والحق، ويبدأ بملإ مسامع الناسِ بالأوامر الجافة.. افعلوا.. لا تفعلوا.. إيّاكم.. احذروا.. يجب عليكم.. لا.. لن.. لا بد.. وهذا المصطلحات المقرِّعة لأذهان السامعين، تجعلهم يشعرون بأنهم في عمق جهنم والرذيلة وهذا من سينقذهم، قد يحول مهمتهُ التي تبنَّاها لأداةٍ تُبعدُ الناس عما يدعو إليه. كذلكَ فإن من يطلقُ فكرةً ما ويعظُ الناس بموعظةٍ ما، فإن أول ما سيفعله الناس هو أن يختبروا ما قالهُ عليه، فلا يمكن لسافرةٍ أن تقنع الناس بوجوب لبس الحجاب!
 
وهناك أمثلة وشواهد كثيرة على من حملوا ردود أفعالٍ كهذه وانقلبوا على السلك الديني بعد أن كانوا جزءًا منه بسبب سوء أسلوب الوعظ أو عدم جاهزية الواعظ له، أو – وهذه الكارثة – أن يكون الواعظ يعتبر ما يصنعهُ وظيفةً يبيعُ فيها كلامًا قد حفظهُ لا ينتظر منه سوى أن تربح تجارته..
 
حتى في فكرة الوعظ هذه، قد تتقاطع فيها المصلحة الشخصية مع المصلحة العامة، فيمارسها الإنسان فقط لانها تتوافق مع مصلحته، فلا يتوقع أن يجني منها الكثير، وقد يمارسها الإنسان لأنه مؤمنٌ بها، وتحتاجها المصلحة العامة، ويستقيم المجتمع بها، وإن أثرت على مصلحته الشخصية كما لا يحب، وشتان.. بين وعظ هذا.. ووعظ ذاك.. 
 
 
31 يناير 2015
____________________________________________
*البقرة 275
**التوبة 34

Friday, January 23, 2015

هل حياتنا حقيقة!؟ // أم حسين

 

هل نحن نعيش حياة حقيقة أم أننا في حلم  يزداد رتابة!؟
لماذا يتغير الزمن!؟
وهل هو المتغير أم نحن!؟
وهل باستطاعتنا إحداث تغيير إن أردنا!؟
ماذا نحتاج لإحداث تغيير!؟
هل نحن أحرارًا!؟
 
أسئلة لا تنفك إلحاحًا على عقلي طالبة إجابة.. نعيش في عالم رتيب ممل جدًا لا جديد فيه ويزداد سوءًا يومًا بعد يوم.. أيامنا تمر ولا روح للحياة فيها..
 
ترى كيف يجب أن تكون الحياة!؟
ألم يخلقنا الله لنعمر هذه الأرض بالخير!؟ فماذا صنعنا؟ وكيف نمضي أيامنا وساعاتنا؟
أنظُر إلى الناس وإلى نفسي فأرى أننا مبرمجون على نمط معين للحياة: نعمل، نأكل، ننام وكل ذلك يتم ونحن نتواصل صامتين عبر برامج التواصل الاجتماعي.
 
هل هذه الحياة التي خلقنا الله لها!؟ أبهذه الكيفية نعمر الأرض!؟
 
لن أنكر أننا نتعبد.. نصلي ونصوم وقليلًا ما نقرأ القرآن.. لا أعمم ولكن غالبيتنا كذلك.
 
ولماذا نتعبد!؟
 
العبادة ذات أثرين ظاهري وباطني ينعكسان على نفس الإنسان ويتجسدان بسلوكياته في واقع حياته مع الآخرين ومنه على المجتمع.
 
مئة علامة استفهام على علاقة الإنسان بأخيه الإنسان في هذا الزمان! وعلى جميع المستويات.
 
لا بد لعباداتنا أن تأتي بثمارها تلك إن كانت تأديتها صحيحة!!
 
نحن لا نعيش حياة حقيقة إنما مصفوفة مبرمجة كما يريدون لها ونحن مجرد أدوات لا أكثر نسير على نظام وبرمجة معينة، وإن خالفناه قليلًا وانحرفنا عن المصفوفة لظرف طارئ، تنتابنا حالة قلق واضطراب نفسي وينظر لنا الآخرون على أننا شواذ، فنسرع لنعود ونصطف معهم لنؤدي أدوارنا باحترافية.
 
الوتس أب، الانستغرام، اللاين، والكثير من برامج التواصل وغيرها الكثير من الوسائل المصممة بحسب قياسات تناسب كل الأذواق بحيث لا أحد يستطيع الإفلات.
 
الكثير من الأحاديث دارت عن سلبيات هذه البرامج فقالوا:
 
1- مضيعة للوقت:
من لا يمتلك وقت فراغ كيف بإمكانه تضييعه، فالحل يكمن في كيفية تنظيم وقتنا واستغلاله بما يعود علينا بالفائدة.
 
2- المشكلات الأسرية:
قد تساعد برامج التواصل الاجتماعية على ظهور هذه المشكلات ولكن حتمًا هناك علة أوجدت هذه المشكلة والبرامج ساعدت فقط على إبرازها.
 
فمثلًا عندما تختار الإبنة الوتس أب كوسيلة لتناقش أمها في مشكلة ما، فالخلل في العلاقة نفسها بين الأم والبنت.
 
3- الخيانة الزوجية:
إن لم تتم الخيانة على البرامج ستكون الخيانة بوسيلة أخرى وفي مكان آخر..
 
ما أريد إيصاله أن العلة ليست البرامج إنما مستخدموها.
 
التخطيط دقيق للغاية.. هم يصنعون ما نحتاجه لإبراز الخلل في أنفسنا، فكل ما يأتينا من الدول العظمى مدروس بعناية فائقة ليناسب فئة معينة، يكون ظاهره جيد باطنه مصمم لتفريغ ما بداخل الفئة المختارة من قيم أخلاقية، اجتماعية أو دينية أو جميعها معًا.
 
فماذا نفعل!؟
أعتقد بأن الموجة عاتية أكبر من أن نستطيع احتوائها.
 
فهل نيأس ونستسلم!؟
 
نحتاج إلى مجموعات تعمل على خلق موجات مقاومة ضمن مشاريع توعوية وعملية منظمة.. نحتاج إلى جعل الفئة الشبابية تنخرط في العمل بمشاريع ميدانية قيمة، أن نفتح المأتم والحسينيات والمساجد ولنستخدم أدواتهم بتوظيفها في خلق واقع جديد.. نحتاج لخلق روح لحياتنا.
 
 
25 يناير 2015 

على ضفاف الذكريات (8) // ز.كاظم

 
 
بسم الله الرحمن الرحيم

تجربة تعلّم اللغة الإنجليزية كانت تجربة صعبة ومريرة لا لصعوبة دراستها، ولكن لكونها مقدمة للدراسة الجامعية الأكاديمية مع عدم اعتبارها جزءًا من الدراسة الأكاديمية، وبحسب مستوى الطلبة العرب فإن معدل الفترة الزمنية لتعلّم اللغة الإنجليزية هو تقريبًا سنة كاملة. كما أن هناك بُعبُعًا نخشاه كما قَرُبْنا منه، وهو اختبار التوفل ويُعتبر من متطلبات القبول في الدراسة الجامعية الأكاديمية. وكذلك، نظرًا لصرف مبالغ من الأموال حول دراسة كان من المُفترض أن نقوم بها في بلداننا عوضًا عن صرفها أضعافًا مضاعفة من رسوم باهظة الثمن، ومصاريف معيشية مُكلِفة. كنتُ أعاتب نفسي في تلك الفترة على تفويت الفرصة في تعلّم اللغة الإنجليزية واجتياز اختبار التوفل قبل مجيئي إلى أمريكا. لكن الفرصة فاتت وعليّ أن أتجاوز تلك العقبة.

حتى في الغرب، هناك حالة سلبية وسيئة جدًا نمارسها مع بعضنا البعض نحن الشعوب العربية، وهي التخويف والتهويل، ونُعزي ذلك إلى الخوف على مصلحة الآخر. لعل نسبة كبيرة من خشيتنا لتجاوز اختبار التوفل كان سببها تلك الحالة السلبية. كما أننا في المعهد الذي تعلمّتُ فيه اللغة الإنجليزية، لم يكن التركيز على اجتياز هذا الاختبار، بل كان التركيز على تعلّم قواعد اللغة من قراءة وكتابة وتحدث وسماع وغيرها.
 

 
كان المعهد كما ذكرتُ سابقًا يحوي الكثير من العرب واليابانيين، وقد قضيتُ فيه تقريبًا سنة كاملةً. إن الاختلاط بالأمريكان المرجو من وجودي في بلاد الغرب لتعلّم اللغة الإنجليزية كان محدودًا في البداية.. كذلك فإن الطالب العربي في الغرب وبعد مضي عدة أشهر يتوق إلى مجتمعه أو مَن يتكلم لغته ويحمل ثقافته، لذا ترى الطالب يجتمع مع بني قومه ليتغلب على ألم الغربة والفراق. ومع إيجابيات هذه الحالة إذ تُريح الطالب المغترب نفسيًا، إلا أنها تلعب دورًا في تطويل فترة تعلمّه اللغة الإنجليزية.
 
 
المركز الإسلامي:
 
تطوّرت العلاقة بيني وبين فيصل فأصبحنا نقضي معظم الأوقات مع بعضنا البعض، وفي ليالي الجمعة واضبنا على حضور دعاء كميل، والتزمنا أيضًا بحضور الجلسة الأسبوعية في المركز الإسلامي ليالي السبت. كان هذان البرنامجان بمثابة نبعٌ روحي وفكري واجتماعي أصبح جزءًا لا يتجزأ من وجودنا في بلاد الغرب. كنّا ننتظر دعاء كميل بفارغ الصبر، حين تنساب تلك الكلمات على الروح فتُنعشها وتُحييها.. تُطفَأُ الأنوار فيتملّك النفوس هدوءًا وطمأنينة، ويعلو صوتٌ شجيٌ لأحد الإخوة فتتحرك الذبذبات الصوتية لتصل إلى مسامعنا وتُحرّك قلوبنا لتنتفض من غفوتها وتنهال الدموع من أماقي العيون، وتلهج الألسن مع القارئ بيا غياث المستغيثين.. ويا رب يا رب يا رب.. ويا سريع الرضا..
 

 
أما الجلسة الأسبوعية فكانت ليلة السبت، وهي عبارة عن برنامج يتكون من قراءة القرآن، ومحاضرة يقوم بتحضيرها المتمكنين من الإلقاء، كالحاج أبو حيدر وهو عراقي نجفي مهجر من السبعينات ويُعتبر الأب الروحي للمركز، أو الحاج أبا محمد من القطيف وهو مطلّع سياسي قدير، أو السيد علي من الإحساء، أو السيد علي من لبنان.. وبعد الانتهاء من المحاضرة يُفتح المجال للنقاش والحوار حول ما تم طرحه، وفي بعض الأحيان تُختم الجلسة بوجبة العشاء. غالبية المحاضرات كانت تُطرح باللغة العربية، مع بعض الاستثناءات.

أما في المناسبات الدينية من احتفال أو وفاة، فيتم تأجير صالة أكبر حجمًا في نفس مكان الشقة (المركز)، ويحوي البرنامج إضافة للمحاضرات فقرات شعر للشاعر (أبي علي) وبعد رحيله جاسم الصحيح من الإحساء، وابتهالات أو نعي لصاحب الصوت الشجي الملا سعيد المعاتيق.. أما الشاعر جاسم الصحيح، فالمُلفت أنه لم يلقِ شعرًا في حضور الشاعر أبي علي قط، وذلك بحسب ظني احترامًا لمكانته كشاعر إذ كان قبله وجودًا في المركز، مع أنه عندما تسأله عن عدم إلقائه الشعر في تلك الفترة، كان يُعزي ذلك إلى أنه لم يكن شاعرًا حينها.. لكن بعد رحيل الشاعر أبي علي تفجرّت طاقاته الشعرية بشكل ملفت جدًا. وكان جاسم من ضمن الطلبة الذين يمتلكون ذاكرة مذهلة حقًا، إذ كان شديد الحفظ، يكفي أنه تعلّم اللغة الفارسية في غضون ستة أشهر. كنتُ أسأل الإخوة الإيرانيين عن مدى قدرته على التحدث باللغة الفارسية فكانوا يقولون أنه يتحدث أفضل منهم معتمدًا على قواعد اللغة الفارسية. بل معروف عن الصحيح أنه يحفظ علامات الطلبة العرب منذ دخولهم الجامعة. كان هذا التنوّع في القدرات والملكات من صوت جميل، ومَلكةٍ خطابية، وقريحة شعرية من مميزات هذا المركز الإسلامي.
 
كما يرعى المركز برامجًا موسمية كبرنامج محرم الحرام، وشهر رمضان، ويقوم بعدة أنشطة من قبيل رحلات في أيام عطلة الربيع والصيف.. أمّا في شهر محرم، فتكون القراءة الحسينية في كل ليلة من لياليه من حادي إلى ليلة الثالث عشر، يتخلل البرنامج محاضرات وزيارة ولطميات، أما في شهر رمضان فكان البرنامج في كل ليلة منه - وهو في غالبه موجه للعزاب - يبدأ بقراءة القرآن ثم صلاة الجماعة ووجبة الإفطار مع دعاء الافتتاح. كما يحوي المركز على مكتبة للقراءة تحوي الكثير من الكتب باللغة العربية وقليل من الكتب الإنجليزية والفارسية. وأيضًا يوفر المركز اللحوم الإسلامية الحلال وذلك عن طريق أحد الإخوة الإيرانيين (أكبري)، إذ قام بشراء ثلاجات وتم وضعها في المركز لتخزين اللحوم وبيعها على مرتادي المركز. وأكبري أيضًا يمتلك صوتًا جميلًا في قراءة الأدعية وله عدة مواقف أتطرق إليها لاحقًا.


مرّ على هذا المركز الكثير من الأحداث والمواقف والأشخاص، سأتطرق لها لاحقًا بحسب التسلسل الزمني..
 

الأب أبو خليل:
 
كان أغلب حضور المركز طلبة من المنطقة الشرقية (الإحساء والقطيف) وأكثرهم مبتعثون من شركة أرامكو، مع بعض الإيرانيين والعراقيين واللبنانيين. بعد فترة وجيزة تعرّفت عليهم جميعًا، وكان من ضمن هذه المجموعة أبو خليل (من القطيف). قام الأخ أبو خليل بالاهتمام بنا أنا وفيصل، ففي المجموعة تلك كنّا الوحيدين تقريبًا صغيري السن - لم نبلغ العشرين عمرًا - وغير متزوجين. كان أبو خليل دائم الرعاية لنا، يعزمنا في بيته، يخرج معنا ليعرفنا بالمناطق والأماكن، ويقضي وقتًا كثيرًا معنا ننهل من خبرته وعلمه. بعد فترة قصيرة جدًا كانت الجالية تُسمينا أبناء أبي خليل نظرًا لاهتمامه البالغ بنا. كان أبو خليل يتميز بحسن الخلق وطيب النفس وحلاوة اللسان، لكن أكثر صفة تميّزه هي حب الاستطلاع والاستكشاف. ذات مرة كنا معه في سيارته نتجوّل فرأى مبنىً على هيئة مسجد، فأوقف سيارته في الحال وخرج لاستطلاع المكان. كان من الغريب جدًا في تلك الفترة أن ترى هيئةَ مسجدٍ بقبةٍ زاهية ومنارة تشق عنان السماء. ذهب أبو خليل - ونحن معه - إلى باب المسجد وكان مغلقًا إذ كان الوقت عصرًا.. لم يرجع، وإنما ظل يستكشف المكان حتى جاء أحد الباكستانيين وكان قيّمًا للمسجد ويسكن في بيت بجانبه، فعندما رآنا نحوم خارج المسجد جاء إلينا سريعًا. نظر إليه أبو خليل فعرفه مباشرة إذ كان بروفيسورًا في الجامعة. سلّم علينا وطلب منه أبو خليل أن يسمح لنا بدخول المسجد لرؤيته من الداخل فقام البروفيسور بذلك.. كان المسجد للطائفة القاديانية (أو الأحمدية كما يُطلق عنهم). 
 
 
مع قصر المدة - تقريبًا في حدود السنة الواحدة - التي قضيناها مع أبي خليل، إلا أن الذكرى ظلت حافظة رعايته الأبوية لنا في تلك الفترة، ولا يزال يتواصل معنا بين فترة وأخرى، كان آخرها قبل عدة أسابيع إذ كان في زيارة لابنه الذي يدرس الآن في أحد الجامعات الأمريكية.

أبو خليل أول تلك الشخصيات التي تركت أطيب الأثر في نفسي، وهكذا تميّزت حياة الغربة بشخوصٍ لم يتركوا فقط أثرًا إيجابيًا في نفسي، وإنما صاغوا وشكّلوا شخصيتي الحالية..
 
 
توقف الحرب
 
مرت السنة الأولى من وجودي في أمريكا بحدث توقف الحرب العراقية الإيرانية في أغسطس 1988.. حرب شنّها صدام العراق برعاية الدول الكبرى وعلى رأسها أمريكا على الجمهورية الإسلامية الفتية واستمرت لثمانية أعوام كان حصيلتها الكثير من الخسائر البشرية والمادية.. 
Iran-Iraq War Montage.png
 
أتذكر جيدًا تلك الكلمات التي أطلقها السيد الإمام روح الله الخميني (قدس سره) على أثر توقيف الحرب: "إنني أتجرع السم".. كان القرار صعبًا ليس فقط على إيران، بل حتى علينا نحن جيل الثورة الذين نشأنا على أحداثها منذ البداية.. ثورة الشعوب المستضعفة..  من المواقف التي أتذكرها حين توقيف الحرب حادثة لصديق إيراني مؤمن، كان ينقل أثر كلمات السيد (يرحمه الله) على أخته التي كانت تكرهه، إلا إن كلماته جعلتها تبكي وبحرقة. سألها أخوها مستغربًا عن هذا البكاء، فقالت: "مع أنني لا أحب هذا الرجل ولا أحب ثورته، إلا أنه يعزّ علي أن أسمعه يقول تلك الكلمات.. شعرتُ حينها بالانكسار في كلماته..". 
  
كان الحالة الإيمانية في أمريكا في نهاية عقد السبعينات وبداية الثمانيات نشطة جدًا وذلك بسبب الثورة الإسلامية في إيران، إلا أنه بعد توقف الحرب ضعفت وأخذت بالتضعضع..
 
يتبع في الحلقة القادمة..


25 يناير 2015