بسم الله الرحمن الرحيم
بورتلاند.. مدينة الزهور في ولاية "أوريغون" التي تقع على المحيط الأطلنطي من جهة الغرب، وولاية واشنطن شمالًا، وولاية كاليفورنيا جنوبًا.. تسحرك بجمالها الخلاّب، وطقسها الجميل الممطر طوال السنة، وتضاريسها المنخفضة والمرتفعة الرائعة.. يشق هذه المدينة نهري الولّاميت وكولمبيا.. يبلغ عدد سكان المدينة حوالي نصف المليون، في حين يصل عدد سكانها مع ضواحيها لأكثر من مليوني نسمة..
من على بُعدٍ يشق عنان السماء جبل "هود" مكتسيًا حلة بيضاء مسترقًا بصرك كلما نظرت إلى ناحية المشرق.. جبلٌ أشمٌ كشيخٍ ذي لحية بيضاء واقف بوقار ينظر إليك بعينين تحملان كل مشاعر الحب والعطف والحنان.. يناديك بهمسٍ هلمّ هلمّ إليّ.. وبالرغم من قربه الشاخص منك إلا أنه يبعد عنك قرابة الخمسين ميلًا..
رتب معهد اللغة رحلة للتزحلق إلى ماونت هود لكل صفوف المعهد.. تم تأجير باصين للطلبة مع أساتذة المعهد واستغرقت الرحلة حوالي الساعتين والنصف نظرًا للطرق الجبلية التي تؤدي إلى الجبل.. كان الوقت شتاءً والثلوج قد غطت جميع أجزاء الجبل.. قمنا بتأجير ملابس التزحلق حين وصولنا، وتم إلحاقنا بمدربين لتعلم التزحلق.. لا أتذكر عدد المرات التي سقطتُ فيها ذلك اليوم، ولكنها كانت كثيرة، ولم ينته اليوم إلا وقد قمتُ بالتزحلق بدون مساعدة.. المُلفت للنظر طريقة التدريب على التزحلق، أو بالأحرى الطريقة التي يستخدمها الأمريكان بصورة عامة في التدريب.. الطريقة تعتمد على عدة خطوات، أولها توفير الأدوات اللازمة (من ملابس وأدوات تزحلق) بما يناسب التزحلق بسلامة، وثانيها التعليم النظري لطريقة التزحلق مرتكزًا على الأمور المهمة المحققة للسلامة - كيفية السقوط بدون أن تتأذى- وكيفية التزحلق والتوقف، وثالثها هو التعليم العملي وينقسم إلى أمرين رئيسين: 1) مرافقة المدرّب للمتعلم بحيث يضمن تحقق عملية التعليم والمحافظة على سلامة المتدرب، و2) إعطاء المتدرب الثقة اللازمة - مع المراقبة من بُعد - للتزحلق بنفسه وبدون مساعدة.. لا أتذكر بالضبط كم استغرقت عملية التدريب، إلا أنني لا أظن أنها استغرقت أكثر من ساعتين، وبعدها تمكنت من التزحلق بدون مساعدة مع ضمان السقوط مرات ومرات.. تكررت الرحلات عدة مرات بعد الرحلة الأولى، لكنها بعد ذلك توقفت..
المؤتمر الإسلامي:
في نهاية العام الأول وخلال عطلة الكريسمس، علمتُ عن طريق المركز الإسلامي أن بعض الإخوة عازمون على الذهاب إلى مؤتمر إسلامي يقام في إحدى المدن الأمريكية.. قام بعض الإخوة باستئجار باص صغير يسع ثمانية أشخاص: أبو حيدر (عراقي) وابنه حيدر، السيد علي ومحمد (الجنوب لبنان) وبلال (بعلبك لبنان)، يوسف ومحسن (ايران)، وشابٌ لا أتذكر اسمه من القطيف من ولاية واشنطن. خرجنا للسفر ليلًا، وكانت ليلة ممطرة.. كانت البداية جميلة جدًا، فقد تبادلنا أطراف الحديث حول قضايا مختلفة مع تخلل النكات والمرح.. وقبل أن ينبلج الفجر وإذا بنا نقف جانبًا على قارعة الطريق تحرزًا لعاصفة ثلجية اضطرتنا أن نضع سلاسل على إطارات الباص لنتمكن من السياقة على الثلج. كان لون الثلوج جميلًا، لكن البرد كان قاسيًا جدًا..
بمرور الساعة تلو الساعة إذ كانت الرحلة طويلة جدًا استغرقت أكثر من ثلاثين ساعة.. وضيق الباص إذ كنا محشورين على بعضنا البعض.. وإزعاج حيدر الصغير الشقي الذي لا يهدأ.. وتسرمد محسن الإيراني على المقعد الخلفي المخصص للنوم جعل الرحلة منهكة ومتعبة.. أما يوسف فجزاه الله خيرًا فقد قام بعمل سندويشات ووضعها في صندوق مبرّد لكن لم تمضِ ساعات قليلة إلا وفاحت رائحتها المزعجة في أرجاء الباص.. كل ذلك كرّهني في الرحلة بل وحتى في المؤتمر قبل أن أصل إليه..
وصلنا بعد منتصف الليل، وكان المؤتمر منعقدًا في فندق الشيراتون، ولكن لسوء حظنا فكل الغرف تم حجزها.. تخيّل أن تصل في وقت متأخر وكلك أمل أن تلقي بجسدك المتعب على سرير بعد رحلة طويلة لتتفاجأ بأنك على موعد مع صدمة أخرى "كل الغرف محجوزة"! تم إرسالنا إلى فندق صغير قديم يبعد حوالي الثلث ساعة عن مكان المؤتمر.. حجزنا غرفتين (كل أربعة أشخاص في غرفة واحدة) وقد حرصتُ على أن أكون في الغرفة التي ليس فيها حيدر، ورمينا بأجسادنا المجهدة على الأسرّة (في كل غرفة سريرين). كان السرير مع أنه شراكة مع شخص آخر مريحًا جدًا بعد الجلوس على مقاعد الباص لساعات طوال..
في الصباح الباكر توجّهنا للمؤتمر في فندق الشيراتون، فكان مفاجئًا بحق! كانت الأجواء دافئة جدًا بوجوه تألفها وحركة دؤوبة ردّت الحياة إلى نفسي.. ما كل هذا! ما هذا التجمع الذي جمع المئات من الشيعة من مختلف الأجناس في مكان واحد ومؤتمر واحد وشعار واحد..
كان المؤتمر في ذلك العام مشتركًا بين جماعتين: الجماعة الإسلامية في أمريكا وكندا (غالبيتهم خليجيين وعرب) وجماعة الطلبة الإيرانيين في أمريكا.. كان الحضور يفوق الألف مشارك، وكان المحاضرون من مختلف البلدان، لبنان، ايران، العراق، أمريكا، كندا، لندن،.. إلخ.. شخصيات محاضرة لها وزنها في العالم الإسلامي أمامك على المنصة تلقي محاضراتها باللغة العربية أو الإنجليزية أو الفارسية وترجمة مباشرة حية.. البرنامج يبدأ من صلاة الصبح ولا ينتهي إلا العاشرة مساءً.. ولا تنتهي الحركة بانتهاء البرامج اليومي، بل على العكس ترى الجنود خلف الكواليس يقومون بالإعداد لليوم التالي، فجماعة تكتب البرنامج ليوم الغد بخط اليد، واجتماعات للقائمين على المؤتمر، ومجموعة تقوم بالتنظيف هنا، وأخرى تجهز الأجهزة الصوتية في غرف المحاضرات، وأخرى تعمل في المطبخ، .. إلخ.. والحضور له جلساته الخاصة، فمجموعة هنا جالسة تتسامر، وأخرى تتبادل أطراف الحديث حول ما دار من محاضرات، ومجموعة أخرى للتو تعرف أعضاؤها على بعضهم البعض..
إحدى الفقرات التي لا تزال راسخة في ذهني كانت في البرنامج الليلي حيث الحضور يملأ القاعة.. كانت الفقرة لنشيدة لمجموعة من الطلبة الكويتيين.. وقفت المجموعة على المنصة يقدمها شاب عليه ثوبًا أبيضًا، وانطلق الصوت صادحًا بكلماتٍ اقشعر لها بدني، بل وجعلت جميع الحاضرين يقفون على أرجلهم:
مولاي صاحب الزمان .. أين الأمان أين الأمان
مولاي صاحب الزمان.. أين الأمان أين الأمان
أين الأمان يا أمان.. قد مسّنا ذل الهوان
ضاق بنا ذرع الزمان.. ضاق بنا ذرع الزمان..
أين الأمان أين الأمان..
لم تنته الأنشودة إلا وجميع الحضور يرددون مع المجموعة كلماتها وقد هزت أصواتهم الجدران.. موقفٌ لا يُنسى.
ومن الأمور الطريفة والمواقف التي لا تُنسى أن أحد العلماء من لبنان وبينما كان يلقي محاضرته، كان على الطاولة التي أمامه صحنٌ فيه بعض الفواكه وسقطت برتقالة منه، وكان صاحبنا بلال البعلبكي بالقرب من المنصة وإذا به يركض سريعًا ويُلقي بنفسه على البرتقالة ظنًا منه أنها قنبلة ليحمي العالم والناس من القنبلة، ليكتشف بعد ذلك أن الذي رمى نفسه عليها ليست إلا برتقالة لا تنفجر.
كان مما أثار دهشتي أن رأيتُ طوابيرًا من الراغبين في الانضمام للجماعة الإسلامية يقدمون طلباتهم للمشاركة في أنشطتها.. أتذكر جيدًا في ذلك الوقت أنه لا يكفي التقدم بالطلب، بل كانت هناك شروطًا يجب توافرها في المتقدم بالطلب أحدها الحصول على تزكية من عضوين من أعضاء الجماعة.
لجان مختلفة ومتنوعة كلها متطوعة لا تتقاضى أجرًا تقوم بالإعداد والعمل المثابر لإنجاح المؤتمر.. انخرطتُ سريعًا مع لجنة كتابة البرنامج اليومي باللغة العربية بسبب إجادتي للخط العربي مما جعلني على قُرب من القائمين على المؤتمر.. كانت روح المشاركة والتطوّع سيدة الموقف.. بمجرد النظر تعرف أن عملية تنظيم مؤتمر بهذه الضخامة يحتاج للكثير من التخطيط والتنفيذ والانضباط، كما أنه يحتاج إلى إدارة ماهرة خصوصًا والمؤتمر يضم مؤسستين مختلفين كان هذا المؤتمر أول وآخر عمل مشترك بينهما. وبغض النظر عن ذلك إلا أنه يذهلك حالة التنظيم لهكذا تجمع.
ثلاثة أيام تعيش أجواءً مختلفة جدًا عن أجواء الحياة الغربية.. تشعر خلال هذه الأيام أنك في عالمك الخاص.. عالم تعرفه، تحنّ إليه، تعشقه.. صلاة الجماعة وما أدراك ما لصلاة الجماعة من أثر في بلاد الغرب.. الأجواء الروحية الإيمانية في الأدعية وعلى رأسها دعاء كميل ليلة الجمعة.. الحجاب الإسلامي الشرعي على رؤوس الأخوات له رونقه الخاص بعد أن تقرّحت العيون بمظاهر التفسخ الغربي.. المحاضرات الإسلامية الهادفة، المعارض الإسلامية، وغيرها الكثير من المظاهر التي تعيشها خلال أيام قصيرة تشعر أنك في عالم مختلف جدًا وبمجرد خروجك من الفندق في رحلة العودة تنصدم وتصيبك حالة من الحزن على فراق تلك الأجواء.
التقيتُ بمجموعة من الحضور من مركزنا الإسلامي الذين جاؤوا للمؤتمر عن طريق رحلة الطيران كان أحدهم السيد أبو حسين من الإحساء، فسألني عن رحلة سفري فأبديت له تذمري منها، فقال لي عودتك للمدينة ستكون على رحلة الطيران معي، فاعتذرت منه.. فردّ عليّ بأنها لن تكلفه دولارًا واحدًا.. تعجبتُ، كيف؟ فأجاب أنه اضطر أن يشتري لابنه تذكرة لأنه بلغ عمره الحد القانوني لشراء تذكرة سفر.. قال، احمله على صدرك وادخل الطائرة معي وعائلتي (كانت عائلته تتكون من زوجته وابنته وولديه).. حينها كنتُ مستعدًا أن أجرّب أي طريقة لأتفادى الرجوع بالباص. وبالفعل، حملتُ ابن السيد وركبت الطائرة بتذكرته ولم يتم ايقافي أو منعي. كانت الحالة الأمنية في المطار في الثمانيات مختلفة جدًا عن الوقت الحالي.
للأسف الشديد، مع ارتياحي كثيرًا للمؤتمر إلا أن رحلة السفر بالباص تركتْ أثرًا سيئًا عندي منعتني من حضور المؤتمر لعدة سنوات. لكن من الأمور الإيجابية في المؤتمر أنه منحني الفرصة لأن أمد شبكة التواصل مع الكثير من الأصدقاء الذين تعرفتُ عليهم في المؤتمر والمتوزعين في مختلف الولايات المتحدة. بل أنه البداية....
يتبع في الحلقة القادمة..
31 يناير 2015
__________________________________________
** ملاحظة: صورة المؤتمر ليست لنفس العام الذي ذهبتُ فيه للمؤتمر، وإنما لعام 1982م.
__________________________________________
** ملاحظة: صورة المؤتمر ليست لنفس العام الذي ذهبتُ فيه للمؤتمر، وإنما لعام 1982م.