Pages

Friday, February 27, 2015

الشُيُوعِيَّةُ، وإنْ غَابَ أو (غُيِّبَ) رَسْمُها (18) - "مناقشات وردود (9) / استراتيجيَّة العمل البرمجي السرِّي" // محمد علي العلوي

 
 
عريضةٌ مِنَ المجلس المركزي إلى عصبة الشيوعيين، كتبها كارل ماركس وفريدريك إنجلز، جاء في فقرتها الأولى:
 
"وفي الوقتِ نفسِه، فإنَّ الشكلَ القديم والمتين لتنظيم العصبَة قد تراخى كثيرًا، والعديدَ مِنَ الأعضاءِ الذين انخرطوا مباشرةً في الحركةِ الثوريَّة، تصوَّرُوا إنَّ عهدَ الجمعيات السرية قد ولَّى، وإنَّ العمل العلني وحده كاف. وقد ترك عددٌ معيَّن مِنَ الحلقاتِ ومِنَ العِمِّيَّات صِلاته بالمجلس المركزي تتراخى وتضعف شيئًا فشيئًا. وبينما كان الحِزْبُ الديموقراطي، حزب البرجوازية الصغيرة، يُنَظِّمُ نفسه أكثر فأكثر في ألمانيا، كان الحزب العمَّالي يفقد رابطه الوحيد الصلب".
 
وفي بعض أُسُسِ وأصول التنظيمات السريَّة (الإسلامية)، وجدتُ التالي:
 
"فالتنظيم يتكامَل بَعْدَ:
 
1- زرع رؤى وأفكار الحركة في الفرد.
2- إلزامه ببرنامج الحركة العملي.. منطلقًا، ووسيلةً، وهدفًا".
 
وفي موضع آخر تحت عنوان (مرحلة الاختيار) جاء:
 
لا بُدَّ في هذه المرحلَة مِنْ معرِفَةِ:
 
1- مُحصِّلة القوى الضاغطة على الفرد، والتي تتمثَّلُ في: الأب، والعائلة، والأصدقاء.. فكلَّما كان ضغطُ القوى الأخرى أقل، كان تأثيرك فيه أكثر، وكانت صلاحيته للتنظيم أكثر.
 
أمَّا الفرد الذي يخضعُ للضغوط الأخرى، فإنَّ الكلمات التي تتحدَّثها معه تذهب هباءً، فأنت إذا كُنْتَ تراه في الأسبوع مرَّتين، وتتكلم معه عن العمل الحركي لمدَّة ساعتين، فإنَّ الآخرين يرونه كلَّ يومٍ عشر مرات، ويتحدَّثون معه كلَّ يوم أكثر من عشر ساعات.. وهكذا يتبخَّر تأثيرُك في زَحَام الضغوط الأخرى.
ولمواجهة القوى الضاغطة يُوجَدُ طريقان:
 
الطريق الأول: نَسْفُ القوى المؤثِّرة عليه.. فإذا رأيتَ الصديق الذي يمشي معه يؤثِّر فيه بشكل سلبي، أو أنَّ الخطيب الذي يستمع إليه ينقل إليه أفكارًا كسولةً متخاذِلَةً، فحاول أن تَنسِفَ علاقته مع ذلك الصديق، وأن تقطع علاقته بذلك المنبر، وذلك يتمُّ عن طريق التكلُّمِ معه، أو جعل برامج جديدة مكان الفراغات التي تحدث في حياته.. فعِوَض الصديق الأول تجعل له صديقًا آخر، وعِوَض هذا الخطيب، تجعله يذهب إلى محاضرة أخرى.
إنَّ الوقاية خيرٌ من العلاج، وقَطْعُكُ العلاقة بمنابع التخلُّف في حياتِه لهو أفضل بِكَثير مِنْ أنْ تُعالج الأمراض المعنوية التي يُصَابُ بِها مِن جَرَّاء اتِّصاله بهذه المنابع، بل قد لا يُمكِنُ العلاج إذا انتَّقلت إليه عدوى التخلُّف – في بعض الحالات-.
 
الطريق الثاني: تزريق الفرد بقدرات صموديَّة هائلة يستطيع بها مواجهة الضغوط التي تنصبُّ عليه، وتحاول تحريفه عن الطريق (التنظيمي)..
والأسلوب الأول هو أفضل بالطبع، إلا أنَّ الأسلوب الأخير يمكن أن يُستعان به في ما إذا لم تكن الظروف تسمح باستخدام الأسلوب الأول".
 
ثُمَّ يتحدَّث عن طريقة تحصيل المعلومات عن الأفراد المُنَظَّمين، فيقول:
 
1- مراقبته والسؤال عنه من أصدقائه ومعارفه.
2- مطالبة أصدقائه (المُنَظَّمين) بكتابة تقارير مفصَّله عنه.
3- مراقبته في النشاطات الاجتماعية العامَّة لمعرفة مواهبه وقدراته القياديَّة والتوجيهيَّة.
4- مناقشته في بعض القضايا والأفكار لمعرفة اتِّجاهاته وآرائه، ومدى مواهبه الذهنية.".
 
لو إنَّنا نبتعد قليلًا عن العمق المادي الذي زرعته الرؤية الماركسيَّة في ثقافات المجتمعات قبل تقاطعاتها مع التوجهات الرأسمالية وبعدها، وقد تناولناها بشيء من التفصيل في حلقات سابقة، وانصرفنا لمراقبة البُعد التنظيمي للحركة الشيوعية، لوجدناه متقاطعًا مع مختلف التنظيمات الأخرى، دينية وغير دينية، في أمرين رئيسيين:
 
الأول: توجيه عقلية الفرد المُنَظَّم في اتجاه واحد فقط، هو الاتجاه الذي يؤمن به التنظيم ثقافة وفكرًا ورؤى.
 
الثاني: المحافظة على إبقاء الفرد المُنَظَّم تحت السيطرة التامَّة للقيادة التنظيميَّة، أو (الحزبيَّة).
 
قد لا يكونُ كثيِرُ نِقاشٍ في الأمرِ الثاني؛ فالالتزام بالقيادة بالنسبة للمنتمي أخلاقيَّة انتمائية تُحَدِّدُ سعتَها ثقافة التيار وفكره التنظيمي.
 
الكلام في النقطة الأولى، فهي في الواقع: حبْسُ الفرد في توجُّهٍ فكريٍّ واحِدٍ، وهذا السلوك التنظيمي يؤدي بالفكر الأوحدي في الإنسان إلى أن يتحوَّلَ هويَّةً، يصعُب القبول بِمَا يمسها، فضلًا عن ما يُهَدِّدُ وجودَها، وهذا الارتكاز الثقافي ينتهي بشكل تلقائي - غالبًا - إلى ثقافة الضدِّ مع الآخر الذي لا يمكن إلَّا أن يكون في موقع المُهَدِّد بالنسبة له، وإن لم يكن كذلك واقعًا، إذ إنَّ القضية تنتهي إلى هذه المرحلة لمجموعة مقتضيات مُرَكَّبَةٍ ذِهنيَّةٍ ثقافيَّةٍ ونفسيَّةٍ، وهي مرحلة تدفع الفردَ المُنَظَّم في اتِّجاه تحصيل مفرادات محدَّدة من الجدليات والمغالطات كأدوات ينتَّصر بها لما هو عليه، ولا يفكر في غير ذلك، لا لعدم إرادَةٍ، ولكن لضعف القدرة عن الخروج من دائرة التسلط الثقافي الذي فرضته التنشئة الحزبيَّة التنظيميَّة.
 
في عريضة المجلس المركزي المُوَجَّهة لعصبة الشيوعيين، يتحدَّث ماركس وإنجلز عن خطورة التهاون في العمل التنظيمي السرِّي، وكيف إنَّه أدى إلى تباعد الخطوط التنظيميَّة وغلبة الأحزاب المنافسة الأخرى، وهذا النَفَسُ الحزبيُّ التحزُّبيُّ التنظيميُّ نجِدُه من خلال آثاره متفشيًّا في مختلف المجتمعات التي لا زالت تعيش تلك الفكرة الشيوعية، وأمَّا الأحزاب في الدول الغربيَّة فقد تجاوزتها وحقَّقت عناوين عملٍ جديدة أفرزتها التحوُّلاتُ السياسية في اتِّجاه الديموقراطية والبرلمانيَّة.
 
وينبغي الالتفات هنا إلى إنَّ ذاك الذي تبنَّاه الحزب الشيوعي وغيره، لم يبقى على حاله، فالتنظيم اليوم يتَّخِذُ - كما أرى -، شكلين، أو فلنقل مستويين:
 
المستوى الأول:
التنظيم في العمق، وهو الدائرة القياديَّة العليا والقيادات المُتَّصِلة بها، إضافة إلى الكوادر الرئيسية في العمل الحزبي التنظيمي.
 
المستوى الثاني:
التنظيم الجماهيري، ويعتمِدُ السيطرة على الجماهير عن طريق استغلال الوجود السيكلوجي باحترافيَّة ترتكز على التثقيف الداخلي بآليات وأدوات متعدِّدة، ثم التثقيف الخطابي الخارجي.
 
أمَّا الداخلي فجوهره البناء العقائدي، ولا يُحصَرُ في العقيدة الدينية فقط، فهو بناء يجعل من الفكرة الحزبيَّة عقيدة، والقائم عليها ربًّا، والراعي لها إلهًا، ومن خلال هذا التركيب تُنَظَّم مجاميع الشباب بغير عنوان التنظيم، وتتوسع الفكرة، لا بمسمى الانتماء الحزبي، وتقوم هذه الجماهير بتنظيم غيرها والتوسع من خلالها توسُّعًا ذاتيًّا متعاقب التوالد.
 
ولذلك فإنَّ أحدًا من الجماهير المُنَظَّمة فعلًا لا يشعر بانتمائه التنظيمي للجهة التي يؤمن بفكرها، ولكنَّ الواقع خلاف ذلك، فهو ومن خلال الآثار يظهر كونه مُنَظَّمًا كما كان أولئك في السابِق منظَّمين تنظيمًا سرِّيًّا.
 
بملاحظة الثقافة السائدة بين الأحزاب والتيارات، تنكشف هذه الأبعاد التي أطرحها في هذا المقال، فإنَّه لو برز ما في الصدور، لما خفي تكفير هذا لذاك، وتفسيق ذاك لهذا، وفي تصوري، إنَّ أقلَّ تَدَبُّرٍ يُمكِنُ أن يُوصِلَنَا لهذِه النَتِيجَة وأكثر.
 
إنَّنا نرى بوضوح كيف تتمُّ عمليَّة التنفير من الآخر، وبعناوين القربة من الله تعالى، بل وأكثر من ذلك إنَّ الثقافة التنظيميَّة البرمجيَّة الموجَّهة، قد تجاوزت التيارات بالمفهوم المعروف، ووصلت إلى مفاهيم جديدة مثل منظمات حقوق الإنسان والجمعيات الخيريَّة والهيئات الإعلاميَّة وما شابه!
 
في ختام المقال، ألفت نظرَ القارئ الكريم إلى إنَّني لا أناقش الحراكات السِرِّيَّة التي قد تقتضيها، بل تستوجبها الظروف الأمنيَّة وما شابه، ولكِنَّني أشير إلى البعد البرمجي الذي يُمارَسُ على الأفراد المستهدفين تنظيميًّا، والذين يتحوَّلُون عند التيار المُنَظِّم أدوات لتحقيق الغاياتِ والأهدافِ. غاياتُ وأهدافُ حَقٍّ كانت، أو غير ذلك، فإنَّ المثير في الأمر هو تسويغ هذا النوع من السيطرة على العقول، وهو ما يُحارِبُه المُنَظِّمُونَ نفسُهم في الآخرين، ولكِنَّهم يُشرعنونه لأنفسهم ويبرِّرونه بموازين الحق ومعايير الإنسانية، فتضيع البوصلة ويتحول الحقُّ إلى قضية نسبيَّة!

ويبقى سؤالان أطرحهُما الآن وفي خاتِمَة كل حلقة من حلقات هذه السلسلة:
 
بأيِّ عينٍ وثقافةٍ ونَفْسِيَّةٍ ورُوحيَّةٍ نقرأ كتابَ الله المجيد وأحاديثَ المعصومين (عليهم السلام)؟
 
هل نحن على الطريق الصحيح أو أنَّنا في حاجة إلى مراجعات عاجلة وجادَّة جِدًّا؟
نلتقي في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى..
 
28 فبراير 2015

No comments:

Post a Comment