Pages

Friday, February 27, 2015

لون الفُستان.. أزرق؟ أم ذهبي؟ // أبو مقداد

 
 
انتشرت مؤخرًا صورٌ لفستانٍ أثار ضجةً وجدلاً كبيرًا بسبب لونه الغريب، تناقلته الكثير من الشبكات الإخبارية (1) ومواقع التواصل الاجتماعية، وحسب إحصائية عملها أحد مواقع الإنترنيت، كان 167 ألف شخص قد رأى الفستان باللون الأبيض والذهبي، بينما 55 ألف شخص قد رأى ذات الفستان باللون الأسود والأزرق.
 
صورة هذا الفستان انتشرت بسرعة البرق ويكاد لا يخلو هاتف أحد من هذه الصورة والجميع يسأل.. أزرق وأسود؟ أم ذهبي وأبيض؟
 
 
 البعض كان يتناقل من أجل التسلية، والبعض الآخر اهتمّ بالتحليل العلمي أو العقلي لهذه الظاهرة، فبعضهم أجرى اختبارًا عبر برنامج الفوتوشوب ليتأكد بأن اللون الحقيقي هو الأزرق والأسود، والبعض الآخر حللها علميًا أن اختلاف رؤية لون الفستان لاختلاف تشابك المخ وهو ما يحدث أثناء محاولة المخ لفصل الألوان عن الإضاءة الخلفية، والبعض علل هذه الحادثة لأن البعض يستخدم الجانب الأيمن من مخه أكثر من الأيسر أو العكس، وتوالت التحليلات والتفسيرات والاندهاشات حول فستانٍ اختلف لونه بين أعين الناس.. ماذا نلاحظ؟
 
لا يهمني فعليًا ما هو لون الفستان الحقيقي، بالرغم من أنني لم أفهم واقعًا لِمَ رأيته أزرق، وغيري رآهُ ذهبيًا.. بل لم أفهم كيف له أن يراه بشكلٍ مغايرٍ تمامًا لما رأيته، وكل التفسيرات العلمية والعقلية لم تجذبني نحو تصديقها، بينما الأمر الذي شدَّني جدًا هو تفاعل الناس على مختلف طبقاتهم وأنواعهم معه.. والسبب حسب ملاحظتي، أن الناس ومن خلال الفستان أدركت بأن اختلاف وجهات النظر أمرٌ وارد، ولا بدّ لنا من أن نقبله وإن لم نجد له أي تفسير، فأنا لا أعلم كيف يرى فلان هذا الفستان ذهبيٌ، ولكني متيقن أنه يراه كذلك، فأعود لأسأل الآخرين.. كيف ترونَ الفستان؟ فإما يتفقون معي.. أو فهم يزيدون حيرتي.. ونحمد الله بأن لون الفستان لا يمثل حزبًا أو فصيلًا معينًا.. حتى لا تنشب حربٌ بين من يرونهُ أزرقًا.. ومن يرونه ذهبيًا.
 
انتشرَت صورة الفستان بشكلٍ ضخمٍ جدًا، وربما كانت علة الانتشار هذه أنها مرة من المرات النادرة والقليلة التي يختلف فيها الناس، الرجل وزوجته، الصديق وصديقه، والمعلم وتلميذه، وغيرهم في وجهات نظرهم من دون أن يفسد الخلاف في الود قضيةً بشكلٍ حقيقي، لا كشعارٍ يُرفعُ فقط، ولا أعلم إن كان الفستان دليلًا كافيًا للبعض على أن ما يرونه ليس هو الحق والصواب دائمًا أم لا!
 
في حياتنا عشرات، بل آلاف الفساتين التي نعيش معها، نراها سوداء، ويراها الآخرونَ بيضاء، والعكس، نتمسكُ بما نراهُ فيها وندافع عنه، والمشكلة أننا لا نتمكن من أن نفهم أن للآخرين نظرةٌ أخرى. لو أمعنّا البحث سنجدُ الكثير من الأمثلة التي نتعاملُ معها كالفستان، فمثلًا ليست الأذواق واحدة، وأنا لا أحب فاكهة المنجا التي يعشقها الكثيرون، بينما الكثير لا يحبُّ الطماطم التي أعشقها! وهكذا الأمثلة أمامنا معتادون عليها، إلا أن في الكثير من الأحايين لا ننتبهُ لها كمثالٍ لإمكانية حدوثها في الأمور الحساسة، بما معناه أنا نتقبلُ أن يُختلفَ معنا في أمورٍ تافهةٍ كلونِ الفستان هذا، أو في بعض المسائل الذوقية والنسبية، ولكن لو اختُلِفَ معنا في أمرٍ حساسٍ فكري مثلًا، لربما تنشبُ حربٌ لا نعرفُ كيف من الممكن أن تهدأ، ويكون كِلا الطرفين فيها يرى من زاويته الخاصة لونًا مختلفًا عما يراه الآخر، وكلاهما يعطي نفيه الحق أن يرى الفستانَ أزرقًا ويسلبُ الحقَّ من الآخر أن يراهُ ذهبيًا.
 
الأشياء ليست كما تبدو عليه، ليست دائمًا على أقل التقديرات، والكثير من الأفلام التوعوية، والكاريكاتيرات، والمقالات تم نشرها والتي تدعوا لاحترام وجهات نظر الآخرين، وتقبل اختلافها، وربما هذا المنشورات تقنع الكثيرين، ولكن حين تكون القضية حقيقية، لا يتمكن هؤلاء من تذكّر هذه الأمثلة حين نحتاجها حقًا، لذلك أنا هنا لا أدعو أبدًا لاحترام وجهات النظر المختلفة، ولا أدعو لتقبل فكرة أن للآخرين حق الاقتناع بآراء مختلفة عن ما أراه، إنما أدعو لأن يدرّب الإنسان نفسهُ بأن يعملَ ويجتهد ويُأقلِمَ نفسهُ للحياة بينَ من يختلفونَ معهُ، وأن يستثمر هذهِ الاختلافات لصالح الرؤية التي يتمسك بها بدل أن تُشعلَ فتيلَ الحربِ بينهُ وبينَ نفسهِ.. وبينَ الآخرين.
 
ما أعتقدهُ جدًا، أن النجاحَ يعني أن يكونَ يومي أفضلَ من أمسي، لا أن أكونَ أفضلَ من الآخرين، لذلك أن يتفق معي الآخرون أو يختلفون، هذا أمرٌ لا يشكلُ هاجسًا لدي، كذلك لن أعتبر نفسي ناجحًا، ولن أعتبر فكرتي حقةً ومنتصرةً إن اعتمدت على إثبات أن فكرة الآخرين خاطئة، ففشل الآخر لا يعني بالضرورة نجاحي.
 
القناعات تتكون في أذهاننا من طريقين، إمّا طريقٍ ذاتيٍ، وإمّا مكتسبٍ.. فأمّا الطريق الذاتي فهو ما يكون نتاج التفكير والبحث والتأمل والتفكيك والتحليل والخبرات والتجارب وغيرها، وأما المكتسب فهو ما نحصل عليه كقناعات جاهزة بواسطة أحدهم أو عن طريق الكتب أو البرامج التلفزيونية مثلًا أو غيرها، وبطبيعة الحال فإن ما نحصل عليه ذاتيًا تكون علاقتنا به أوثق وتمسكنا به أكبر من قناعاتنا المكتسبة. ما نحتاجُ إليه هو أن نفهم أن للآخرين قناعاتٌ تكونت بذاتِ الطريقين، ونحن لا نملك الحقُّ أن نتدخل في الطريق الذاتي ونتحكم فيه أولًا، وعلاقتنا بالطريق الثاني إن كنّا ننوي أن نكون مصادرَ اكتسابٍ لقناعات الآخرين لا تتجاوز الحد الذي رسمه الله سبحانه وتعالى للنبي محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله أجمعين، وهو نبي الأمة الذي لا ينطق عن الهوى حين خاطبه قائلًا: (فَذَّكِّر إنَّمَا أَنتَ مُذَكِّر، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِر) ثم يقول: (إنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ، ثُمَّ إنَّ عَليْنَا حِسَابَهُمْ) (2)، وهذا ما يوضح لنا بأن وظيفتنا إن أردنا، هي التذكير والبيان، ولا نملك السيطرة على اتجاه تفكير وقناعات الآخرين، بل حتى النبي لم يكن يملكُ هذا الحق تجاه الكفار، فوظيفته هي التبشيرُ والتنذير، وإن استعصى الأمر فـ (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينْ) (3).
 
لم يكن وجود الكفار في زمن النبي محمد (ص) عائقًا يجعله يوقف دعوته لدين الحق، ولم يكن وجود النواصبِ وأعداء أهل البيت يوقفَ المعصومينَ (ع) من أن يستمروا في عملهم الرسالي، ولم يكن سبُّ عليٍّ في منابر المساجد يشكل مغريًا لينشغل الأئمة وشيعتهم به عن وظيفتهم الحقيقية، إنما كان الجميع يعي بأن حال الدنيا أن يكون حقًا وباطلًا في كل مكان، ونورًا وظلامًا في كل زاوية، والله وابليس في كل شيء، ووظيفة الإنسان هي الاختيار، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَةٍ خَيرًا يَرَه، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه) (4).
 
ختامًا، أقول بأنه من الممكن جدًا أن نتقبل فكرة أن يختلفَ معنا الآخرون، ومن المهم جدًا أن لا يعيقنا، ولا يوقفنا، ولا يفقدنا هدوءنا وحكمتنا.. أن يختلف معنا الآخرون، فقط لا بدّ أن نعي ونستوعب هذا، وأن نفهم أن الانشغال باختلافات الآخرين، سيعطِّلَ فكرتنا التي نؤمن بها ونتمسك بها، فمن أجل هذه الفكرة، لا بدّ أن نجد طريقة نتعايش بها مع الاختلافات دائمًا، ولتكن دائمًا اختلافاتنا رحمة، لا داعي أبدًا لأن تكون حربًا.. وبذات الدهشة والإبتسامة التي رأينا فيها الفستان أزرقًا أو ذهبيًا، نستقبلُ اختلافاتنا، بابتسامةٍ ودهشةٍ، ونمضي فيما نؤمن به، فـ 167 شخصٌ قالوا بأن الفستان ذهبيٌ.. وهذا لم يغير قناعتي في أن الفستان أزرق، بل دفعني لأن أبحث عن الدافع الذي جعلهم يقولون أنه ذهبيٌ، ثم دفعني ذلك للاستفادة من موقفهم تجاهي حين رأيته أزرقًا، وموقفي تجاههم، فكانت النتيجة أن كُتب هذا المقال.
 
 
28 فبراير 2015
___________________________________________________
(2)سورة الغاشية
(3)سورة الكافرون
(4)سورة الزلزلة 

No comments:

Post a Comment