Pages

Friday, April 10, 2015

على ضفاف الذكريات (17) // ز.كاظم

 
 
بسم الله الرحمن الرحيم

إِيلافِنا رحلة الصيف:

في صيف 1991 زارنا أحد أصدقاء نبيل (علي الشاعر) من القطيف وقد قررنا أن نقوم برحلة سفر إلى ولاية فلوريدا.. كانت تلك هي الرحلة الثانية لي بين الولايات بعد رحلة المؤتمر في عام 88. تأجرنا إحدى السيارات وانطلقنا ليلًا من فانكوفر متوجهين إلى فلوريدا، من أقصى الشمال الغربي إلى أدنى الجنوب الشرقي، وكانت الفكرة أن نلتقي بالشباب (الطلبة) الذين نعرفهم في الولايات المتفرقة..


أول محطة لنا بعد خروجنا من ولاية أوريغون كانت مدينة مانهاتن في ولاية كنساس.. كان لي أحد الشباب البحرانيين يدرس هناك وقد تعرّفتُ عليه سابقًا عن طريق أحد الأصدقاء - نسيبه - في رحلة سفر إلى دبي قبل مجيئي لأمريكا، وكنتُ أعرف والده السيد إذ كان مواظبًا على حضور صلاة الجماعة في مسجد مؤمن. استغرقت الرحلة تقريبًا يومًا كاملًا إذ تبلغ المسافة بين المدينتين حوالي الألف وسبعمائة ميلٍ. استلم السياقة الشاعر فقد كان يقوم بالسياقة لمسافات طويلة بين السعودية وسوريا، وكل ما يحتاجه كيسًا من الحب الشمسي فهو زاده الذي يعينه على قطع الطريق.. قطعنا عدة ولايات (أيداهو، يوتا، وايومنج، نبراسكا) لنصل إلى ولاية كنساس.. كانت المسافة طويلة جدًا وهذا ما تتميز به ولايات القسم الغربي على خلاف الولايات في الجزء الشرقي فالمسافة بينها قصيرة جدًا.. قضينا الوقت في قطع المسافة الشاسعة بين الولايات الأربع في الأحاديث المتفرقة والاستمتاع بالطبيعة الخلابة. لم نكن نتوقف إلا لتزويد السيارة بالبترول، وهناك نأكل ونقوم بالصلاة عند محطة البنزين إذ نتخذ مكانًا جانبيًا ونضع سجادة الصلاة ونصلي.. 


وصلنا إلى مدينة مانهاتن ليلًا وكان السيد محمد بانتظارنا، وهو شاب تتفجر الطيبة منه، وكان قد أعد لي مفاجأة كما أخبرني بالهاتف.. كانت المفاجأة أنه دعى عادل عباسي، وهو أحد الذين هاجروا من البحرين قبل مجيئي لأمريكا، وكان من حيِّنا وله صداقة مع أخي الأوسط. تفاجأت بوجوده عند السيد فهو كان يقطن في ولاية ميزوري الولاية المجاورة لكنساس. كنتُ سعيدًا برؤيته فهو من الذين خرجوا من البحرين منذ فترة الثمانينات ولم نسمع عن أخباره شيئًا. جلسنا وتحدثنا معه ولكن للأسف لم يتمكن من المكوث معنا طويلًا ورجع في نفس الليلة التي التقانا..

مكثنا مع السيد محمد حوالي فترة يومين، تفقدنا فيها أحوال الرعية وقد كانت مدينته عبارة عن مدينة جامعية متوسطة الحجم، لكن لم يكن فيها تواجد كبير للجالية الشيعية كما هو الحال عندنا.. قام السيد بضيافتنا على أكمل وجه، وقد ذهبنا لجامعته وهي من الجامعات المعروفة في أمريكا Kansan State University وأمضينا فيها بعض الوقت..




لكن الحدث الأهم والذي ظل راسخًا في ذهني طوال هذه السنين هو قصة ذكرها السيد لنا حينها.. ذكر السيد أن طالبًا كويتيًا للتو جاء للدراسة في جامعتهم، وبعد فترة قصيرة اختفى لعدة أيام.. بعدها عُلِم أنه قتل برصاصة في خلف رأسه!!!


كيف حدث ذلك؟!

هنا في أمريكا، عندما يوقفك الشرطي فالعُرف أن تمكث في سيارتك ولا تخرج، وأن لا تتحرك بحركة تثير الشكوك بل تضع يديك على مقود السيارة.. تقف سيارة الشرطة خلف السيارة الموقوفة مع تركيز الأنوار، وفي الليل فإن سيارة الشرطة تسلط ضوءًا ساطعًا على السيارة الموقوفة ليتم كشفها بسهولة، ولتعشي عين السائق قليلًا.. بعد إيقافك يقوم الشرطي من سيارته بالاتصال بالشرطة ليتحقق من سيارتك، ثم يخرج ويأتي إلى جهة السائق إذا كان لوحده، أما إذا كان مع السائق آخرون، فهو يحاول أن يستكشف الآخرين حذرًا من أن يكون ضحية من ضحايا الإجرام. يأتي الشرطي من الخلف واضعًا يده على مسدسه، ويطرق النافذة الزجاجية لتفتحها ومن ثم تتحدث معه. ويحق للشرطي أن يقوم بالقوة اللازمة الرادعة إذا ما ساوره الشك من السائق!


هذا الطالب أوقفه شرطي المرور، وهو لا يعلم طريقة التعامل مع الشرطة، وكان واضعًا بطاقة القيادة في الدرج الأمامي من السيارة. وبمجرد أن أوقفه الشرطي، مد يده إلى الدرج ليستخرج بطاقة القيادة، مما دفع بالشرطي من خلفه لأن يظن أنه سيقوم بإخراج مسدسًا من الدرج!! فأطلق عليه رصاصة جاءت مسرعة متهورة لتستقر في جمجمته!!! تصوّر أن تبعث ولدك للدراسة الجامعية في أمريكا فيرجع لك مقتولًا برصاصة في رأسه سببها تصرف داثر وحظ عاثر وعُرف مغاير! درس قاسي أودى بحياة هذا الطالب الذي لم يبلغ العشرين، وفي نفس الوقت كان درسًا لنا لنعرف أهمية وخطورة هذه الأعراف القانونية وكذلك مدى الصلاحية (الخطيرة) التي يتمتع بها الشرطي في أمريكا!!!

ودّعنا السيد ولم نكن نودّ مفارقته، وبعد ذلك توجهنا لولاية أوكلاهوما وهي الولاية الملاصقة لكنساس جنوبًا.. كان يدرس في هذه الولاية أحد الطلاب لنبيل معرفة بسيطة بأهله فهو من نفس المنطقة التي جاء منها نبيل، وقد كان العزم أن نمكث عنده فترة قصيرة أيضًا ومنه ننطلق إلى وجهتنا.. وصلنا مدينة تلسا في ولاية أوكلاهوما الثالثة عصرًا أي بعد خمس ساعات منذ خروجنا من مدينة مانهاتن، وكان الجو ممطرًا قليلًا.. أتذكر جيدًا تلك العمارات الشاهقة وحبات المطر تهطل بحنان على زجاجة السيارة.. توجهنا بعد ذلك إلى المنطقة (Fort Smith) التي يدرس فيها هذا الطالب.. وصلنا إليها بعد ساعتين تقريبًا، وهي منطقة حدودية بين ولايتي أوكلاهوما وآركنسا.. المدينة صغيرة جدًا ولا يوحي مظهرها بأنها مدينة جامعية.. ظللنا ندور في شوارع تلك المدينة حتى دارت رؤوسنا وانتفخت.. كانت وسيلة الاتصال حينها الهواتف العامة، ولكن لم لدينا رقم الطالب الذي لا أتذكر اسمه.


بعد فترة من البحث في شوارع تلك المدينة توقف نبيل عند إحدى محطات البنزين القديمة ليسألهم عن الجامعة.. دخل المحل وبقينا أنا وعلي في السيارة.. بعد فترة قصيرة جاءني نبيل وهو يضحك ليقول لي: "روح تفاهم وياهم ما يتكلمون انجليزي"! استغربت من ذلك، وذهبت إلى داخل المحل، وسألتُ الكاشير عن الجامعة، وبالفعل كانت اللهجة التي يتكلم بها ثقيلة جدًا هي لهجة الجنوبيين Southerns والتي تكون عادة بألفاظ معينة فيها الكلمات مطاطية ذات نغم مختلف جدًا.. تقريبًا لكل ولاية لهجتها الخاصة بها، ولكن في الولاية نفسها قد تجد اختلافًا في اللهجة بين أهل المدن وأهل الريف. وجدتُ صعوبة في التفاهم مع الكاشير، لكنه أخبرني أنه لا يوجد جامعة في هذه المدينة، بل توجد كلية صغيرة جدًا..  

رجعتُ وأخبرت نبيل بذلك.. وطفقنا ندور في شوارع تلك المدينة مرة أخرى حتى قاربت الشمس على المغيب.. قلتُ لنبيل اعطني عنوان الطالب، فمد يده إليّ بورقة نظرتُ فيها مليًا ثم قلت: "غربلكم الله.. جايبينا مدينة غلط، كنّا في تلك المدينة قبل عدة ساعات!!". دعني أوضح:

ينقسم العنوان هنا في أمريكا إلى النحو التالي:

1234 اسم (اسم الشارع)
المدينة، الولاية (الرمز البريدي)

(الرقم في السطر الأول هو رقم المبنى)

كانت العنوان على الورقة التي ناولني إياها نبيل هكذا:

1234 Fort Smith
Tulsa, OK74101

الجامعة التي يدرس فيها الطالب في مدينة تلسا، وليس مدينة فورت سميث، وقد كنا في تلسا قبل عدة ساعات، وفورت سميث ليس اسم المدينة وإنما اسم الشارع. غضب نبيل على تضييع كل ذلك الوقت في الذهاب إلى هذه المدينة، وقام بالسياقة رجوعًا مرة أخرى إلى تلسا وقد كان مسرعًا جدًا.. بعض شوارع أوكلاهوما تأخذ رسومًا على السائقين، وهي ظاهرة لم نكن نعرفها قبل رحلتنا هذه. وصلنا عند محل دفع الرسوم Toll، لكن قبل وصولنا بقليل وإذا بسيارة الشرطة من خلفنا والأنوار تضيء منها.. لم يكن نبيل يتصور أنه خالف، مع أنه كان مسرعًا، لكنه خفف السرعة عندما جاءت سيارة الشرطة خلفه فكانت سرعته على النحو المطلوب. دفعنا الرسوم.. 


ثم أوقف نبيل السيارة على الجانب، وبعد لحظات وبينما نبيل يسألنا عن رخصته، قال علي إنها في الدرج الأمامي، وأراد أن يمد يده، فقلتُ له: "امسك إيدك ولا تتحرك لا تودينا في داهية".. ثبت علي في مكانه، وفي تلك اللحظة وإذا بالشرطي وهو بجانب نافذتي واضعًا يده على مسدسه. 

     
طرق الشرطي على النافذة وسأل نبيل الخروج فورًا.. خرج نبيل وذهب معه إلى سيارته.. عشنا لحظات قلق شديدة - تقلّ بدرجة واحدة عن قلق الأمين العام للأمم المتحدة على قضايا الشرق الأوسط - خصوصًا أنه أخرج نبيل من السيارة وفي العادة لا يتم ذلك إلا للتفتيش أو لإلقاء القبض، وأيضًا مكث نبيل قرابة النصف ساعة مع الشرطي في سيارته.. ماذا سيحصل مع نبيل؟ وهل سيعطيه مخالفة كبيرة، أم سيلقي القبض عليه؟ رجع نبيل مبتسمًا وقال أنه لم يحصل على مخالفة، بل مجرد تنبيه!!!



لم يكن الشرطي هو الذي رصد سرعة السيارة، وإنما الطائرة فهناك طائرة ترصد السرعة المتهورة وتقوم بالاتصال بشرطة الهايوي.. سألنا نبيل إذا كان كذلك، فكيف لم يحرر الشرطي له مخالفة! قال أنه سأله من أين، فقال له من السعودية، وكانت أحداث حرب الخليج لا تزال طرية وقد استثمر نبيل الحدث فحدثه عن حرب الخليج فترة مكوثه معه.. كان الشرطي في البداية غاضبًا جدًا لكن بعد الحديث مع نبيل عن أحداث الخليج يبدو أنه هدأ وقام بتوجيه تنبيه له في عدم السرعة مستقبلًا.

وصلنا إلى صاحب نبيل في مدينة تلسا، وكان الطالب يسكن في السكن الجامعي، ومعه أحد الطلبة الآخرين ولم يكن عربيًا.. كانت مدينة تلسا تضج بالطلبة العرب وخصوصًا الخليجيين.. أتذكر في تلك الرحلة أنه تم دعوتنا في بيوت الكثير من الطلبة لوجبات طعام، كما أيضًا ذهبنا إلى الشباب وهم يلعبون كرة الطائرة فكان العدد كبيرًا جدًا.. مع أن الأخ الذي زرناه كان طيبًا إلا أن وضعه لم يكن يسمح لنا بأن نمكث معه أكثر من تلك الليلة، لكني أتذكر أن أحد الإخوة الآخرين دعانا للسكن معهم الليلتين التاليتين.


مكثنا عدة أيام في مدينة تلسا ثم توجهنا إلى ولاية آركنسا مدينة ليتل روك.. كان في تلك المدينة شابًا من القطيف اسمه محسن (أبو عضلات) يعرفه نبيل.. وصلنا إلى مدينة آركنسا ومكثنا عند الشاب وكان معه طالب آخر من القطيف.. 

الملفت في هذه الرحلة أن الطلبة الذين قمنا بزيارتهم قد قاموا بضيافتنا لمجرد معرفة بسيطة، فهم يأنسون لذلك ويقوموا بدعوة شباب المنطقة ليتعرفوا علينا..

بعد ذلك توجهنا إلى فلوريدا ولم نكن نعرف بها أحدًا..


كانت المسافة بين ليتل روك (آركنسا) وميامي (فلوريدا) حوالي أربع ساعات نمر من خلالها على ثلاث ولايات (ميسيسبي، ألاباما، جورجيا). خرجنا من ليتل روك ليلًا، وكنتُ نائمًا في الخلف.. انتبهت من نومي بعد فترة وإذا بالذي يسوق نبيل وقد كان علي يسوق عندما خلدتُ للنوم، ولم يكن علي موجودًا في السيارة. قلتُ لنبيل أين علي؟ فقال إنه في السجن. وضعتُ رأسي من جديد لأكمل نومي ظنًا مني أن نبيل يمزح. أوقف نبيل السيارة وخرج. قلتُ في نفسي لا بد أننا توقفنا عند محطة البنزين. بعد دقائق رفعتُ رأسي، وإذا نحن بموقف للسيارات ويوجد مبنى أمامي مكتوب عليه "السجن"..

 
 
يتبع في الحلقة القادمة..

 
4 إبريل 2015

No comments:

Post a Comment