Pages

Friday, April 17, 2015

على ضفاف الذكريات (19) // ز.كاظم

 
 
بسم الله الرحمن الرحيم

في آخر ليلة لنا في أورلاندو قررنا أن نزور مدينة صغيرة بالقرب منها اسمها "كيسيمي" وبينما نتجول بالسيارة فيها وإذا بلافتة على مبنى معزول مكتوب عليها ليالي العرب "Arabian Nights"..
 
  

ما هذا المكان؟ وما علاقته بالعرب؟! هل من الممكن أن يكون من أماكن فساد العربان التي نسمع عنها؟

كان المكان مطوّقًا ومعزولًا، يكتنفه الغموض.. حاولنا أن نستكشف المبنى من جوانبه، لكنه كان مسوّرًا.. تملّكنا الفضول حتى كاد أن يفتك بنا.. حاولنا أن نستكشف المكان من يمين المبنى إلى شماله..

لم نرغب أن ندخل فلربما كان مكانًا للفسوق والفجور، ولكن الفضول لم يكن ليتركنا.. بعد مداولات طويلة قررنا أن نغامر وندخل.. فهذه فرصة العمر لنرى كيف يتصرف العرب في هذه الأماكن.. دفعنا قيمة الدخول وكان العرض مع عشاء.. ماذا سنرى! وكيف سنتصرف!!
 
دخلنا فتفاجأنا.. وإذا بهذا المكان الذي نسجنا الخيالات حوله لم يكن إلا سيركًا!! ولم نجد عربًا فيه إلا نحن الثلاثة!!!
 
لا طاولات، ولا كراسي فاخرة.. لا عربٌ ولا زندقة.. وإنما خيول واستعراضات!!
 
خيّمت على رؤوسنا خيبة أمل كغمامة سوداء ترعد وتبرق ولكنها عقيمة لا تمطر.. قضينا تلك الفترة ونحن نشاهد الاستعراض تارة نضحك على أنفسنا، وأخرى نلومها! حتى الطعام لم نتمكن من أكله.. الحمد لله تم إغلاق هذا المكان بعد خمسة وعشرين عامًا ربما بسبب دعواتنا عليه!  
 
Arabian Nights Orlando  

من أجمل المعالم السياحية التي زرناها في مدينة أولاندو (فلوريدا) هو منتزه "عالم البحار"  SeaWorld الذي افتتح في عام 1973.. وبالرغم من كونه معلمًا تجاريًا سياحيًا يزوره السواح بالملايين كل عام ليدر على أصحابه ملايين الدولارات، إلا أن فيه أمورًا تثير الإعجاب من ضمنها مدى قدرة الإنسان على تدريب وتطويع الحيوانات البحرية.. فالعروض التي لا يتجاوز كل عرض منها الساعة تكشف تلك العلاقة بوضوح، فعرض الدولفينات مثلًا وهي تمتلك ذكاءً كبيرًا تراوح وتقفز مع أصوات الموسيقى وحركات المدربين.. أما ذلك الحوت الأسود القاتل "شامو" والذي يصل طوله إلى 14 قدم ويزن قرابة التسعمائة كيلوجرام فهو أعجوبة في الاستعراض،، فأول ما يبدأ العرض يأتي إلى منصته ليسلم على الجمهور بتحريك ذيله يمينًا وشمالًا، ورأسه من الأعلى إلى الأسفل.. ثم يبدأ العرض بحركات استعراضية تكشف عن جمالية هذا الكائن وهو يقفر في حركة بهلوانية فوق الماء، وينتهي برش الجمهور بالماء.. 



بعد انتهاء العرض، قمنا ومشينا قليلًا لنتذكر أننا نسينا الكاميرا على المقعد.. عدنا سريعًا وإذا بالكاميرا قد اختفت في دقائق معدودة واختفت معها آمالنا في استرجعاها.. ما هذه الحالة المزعجة من مد اليد على مال الغير! ذهبنا إلى قسم المفقودات لنسأل عن الكاميرا المفقودة ونحن على يقين أنها لن ترجع.. لم يجدها أحد، لكنهم طلبوا منا أن نترك معلوماتنا عندهم ليرسلوها لنا بالبريد إن وجدوها مع وصف للكاميرا.. نعم، صحيح، سيقوم أحد ما بإرجاعها وسيقومون هم بإرسالها لنا على البريد! لم نكن لنصدقهم، ولكن تركنا معلومتنا عندهم مع وصف دقيق للكاميرا.. وبعد عدة أسابيع استلمناها من البريد!! معقول، أن أحدًا وجدها وسلمها للمفقودات!! نعم.. كان موقفًا شريفًا من يد أمينة قامت بمسؤوليتها في حفظ المال المفقود. موقف لم نكن لننساه..

بعد قضاء عدة أيام في فلوريدا شددنا رحالنا للرجوع.. يتميز خط الرجعة بأنه ممل ومتعب على خلاف خط الذهاب.. ليس لدينا ما نأمل لرؤيته غير بعض الأصدقاء في ولاية أريزونا.. كانت عودتنا على مدينة لتل روك لنقضِ يومين آخرين مع محسن أبو عضلات وزميله نزار.. ثم اتخذنا خطًا للرجعة يمر على الولايات الجنوبية (تكساس، نيومكسيكو، أريزونا، كاليفورنيا) إلى ولاية أوريغون.. كان خط الرجعة قلما نقف فيه إلا لنتزود من الوقود أو للأكل والصلاة.. 

أيقضني نبيل لصلاة الفجر في طريقنا إلى ولاية أريزونا.. فتحتُ عينيي والشمس لمّا تبزغ.. سألت نبيل ما هذه الرائحة! إنها رائحة روث البقر.. نظرتُ حوالي وإذا نحن عند محطة بنزين.. اشمأززت من هذا المكان، ما هذه المدينة! وهل نحن في أمريكا أم المكسيك!!! المباني قديمة وبالية، والأرض قاحلة صفراء! سألت نبيل عن المدينة، فقال إنها لاس كروسز، في ولاية نيومكسيكو الأمريكية! معقول! هذه المدينة وهذه الولاية في أمريكا! ومَن يسكن في هذه المدينة الصغيرة القاحلة ذات الرائحة العفنة!!! قلتُ ذلك وأنا على موعد مع القدر.. هذه المدينة ستكون محطة دراستي في المستقبل القريب.. ليس ذلك فحسب، بل ستكون من أفضل المناطق التي سكنتُ فيها وكوّنتُ فيها الكثير مع العلاقات بل وفتحت لي آفاقًا في العمل الإسلامي والاختلاف العرقي والمذهبي!!!
 
وصلنا مدينة توسان في ولاية أريزونا (ولاية نبات الصبّار)، وهي مدينة صحراوية تحيطها خمسة نطاقات صغيرة من الجبال.. تتميز بجوّها الحار مع رطوبة عالية.. كانت نسبة الطلبة العرب فيها كبيرة وأغلبهم يدرس في جامعة أريزونا.. ترتكز التنمية الاقتصادية في هذه المدينة على تطوير جامعة أريزونا، والتي تعتبر حاليا ثاني أكبر مكان للعمل في المدينة.. الطلبة العرب الذين زرناهم قاموا بحسن الضيافة على أكمل وجه.. قضينا معهم عدة أيام جميلة، ثم طفقنا راجعين مرورًا بولاية كاليفورنيا، وكانت المسافة بين توسان إلى مدينتا ما يقارب الواحد وعشرين ساعة، وهي مسافة طويلة جدًا نقتفي فيها الطريق تلو الطريق تحت أنوار النجوم ليلًا وهي تزين صفحة وجه السماء، وصفاء نور الشمس صباحًا وهي تزهو بأشعتها من بين السحاب على جبال كاليفورنيا / أوريغون..


كانت الرحلة مفيدة جدًا لنا فقد أبانت لنا اختلاف الطبيعة الجغرافية والتضاريسية بين الولايات، وكذلك اختلاف القوانين المرورية، واختلاف طباع الأمريكان ولهجاتهم.. كنّا نعتمد على الخريطة في الوصول إلى المناطق التي نريدها، وعند دخولك لأي ولاية فإن في بدايتها مركزًا صغيرًا تباع فيه الخرائط وبعض الأشكال المزخرفة عن الولاية، كما يُزوّد الزائرون ببعض المعلومات العامة عن الولاية.. ومع طول مسافة السفر فإنه يستولي عليك العجب والاستغراب من هذه الطرق والشوارع التي تشق الأرض كالحيات على قارة كبيرة كأمريكا.. نظام الطرق والشوارع مع اختلاف الولايات إلا أنه متشابه إلى حد كبير.. وأكثر شيء أثار انتباهنا التخطيط الهندسي للشوارع بصورة عامة، إذ وأنت تقطع المسافات الشاسعة فإنك تمر على مناطق لا يوجد فيها إنسان ولا تكاد أن تنتبه إلى عداد البترول وهو يقارب على الانتهاء إلا وترى محطة بنزين في منطقة نائية لا توجد إلا هي، وكأنما قد تم التخطيط لأماكن هذه المحطات.. كذلك، تستغرب من الأيدي العاملة التي شقت هذه الطرق في الجبال والصحار والهضاب وغيرها.. صادفنا عدة مرات عمالًا أمريكان في مناطق نائية جدًا وهم يقومون بتصليح أو تعمير الشارع، ويلفت انتباهك ذلك الرجل الواقف وهو يرتدي قبعته وقميصه الأصفر تحت وطأة حر الشمس الحارقة، والذي كل مهمته أن يمسك باللافتة لتنبيه السيارات القادمة للتخفيف من سرعتها.. أما في الليل، فالشوارع مظلمة لا إنارة فيها ولا تهتدي إلا بمجسمات صغيرة في الشارع تعكس ضوء السيارة.. كنا نستغرب من هذا البخل لدولة عظمى كأمريكا في عدم إضاءة شوارعها!!



كنا نتوق شوقًا للرجوع إلى مدينتنا، حبًا فيها أو ربما سأمًا وتعبًا من طول السفر وعناءه.. لا أعلم كيف استطعنا أن نواصل تلك الرحلة التي استغرقنا الكثير منها في الطريق.. تنام في الكرسي الخلفي متقوّسًا وتصحو وتسوق وتتوقف لشحن البترول، تصلي وتأكل قليلًا لتعيد الكرة مرة أخرى.. لكن بالرغم من التعب والنصب إلا أنها رحلة مليئة بالأحداث والمغامرات والدروس.. 


 
يتبع في الحلقة القادمة..

 
18 إبريل 2015

No comments:

Post a Comment