تنزل الآية القرآنية لسبب خاص، ثُمَّ تُستَلُّ منها مفاهيمُ كلية وقواعِدُ عامة بحسب مجموع مفردات الموضوع، ولهذا العلم، وأقصد به علم أسباب النزول أهميَّة كبرى وخصوصًا في رسم المسار الثقافي والعملي لمُخطَّطِ السلوك في هذه الحياة الدنيا، ولهذا الأخير أهميَّة عظمى في تحقيق مكوِّنَات العِلَّة الغائية المولِّدة لأيِّ حركة من الإنسان.
ومن الواضح، أنّه كلَّما أحاط العقلُ بجنبات الموضوع وحيثيَّاته، كلَّما اقترب من إصابة الواقع، وتمكن من مُقدِّمات وضع الشيء في موضعه الصحيح، وهي الحكمة التي قال الله تعالى عنها (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ).
مثال:
ادَّعى اليهود أنَّهم من أهل الجنَّة حتمًا، وإن كان لهم أن يُعَذَّبوا، فإنَّ العذاب لن يتجاوز عِدَّةَ أيامٍ لن تطول (وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً).
جاء الأمر الإلهي للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) بأن يدخل معهم في نوع خاصٍّ من المحاورة الجدليَّة، فقال له (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ).
لسان العبارة - بحسب فهمنا - يقول: هذا جيد، فإنَّ جوابكم بالظفر بعهد من الله تعالى على ما تدَّعون يبرر عدم خوفكم من عذابه؛ إذ أنَّ القضية قضية أيام معدودة، ونحن وأنتم نؤمن بأنَّ الله عزَّ وجلَّ لا يُخلِف وعده.
ولكن إن لم يكن الأمر كذلك، فلا مفر من الاعتراف بأنَّكم تفترون على الله تعالى ما لا تعلمون.
مجموعة من الفوائد:
- نستفيد وجهًا من أوجه المنهج العِلمي في المحاورات الجدلية مع المخالفين، وهو الاتِّفاق كمقدَّمة للحصر في عنوان يفضي للنقض الذاتي على المُدَّعَى.
- الاحتفاظ بالوجهة العقليَّة في عموم الحوارات، وحتى الجدليَّة منها.
- تصدِّي الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) للمحاورات في القضايا المُهِمَّة، وعدم تدخُّل غيره من المسلمين، وإلا لكان الخطاب القرآني موجَّهًا بصيغة (قولوا)، أو (قل للمسلمين أن يقولوا)، أو ما شابه، ولكن الظاهر والقدر المتيقن من مجموع الآيات المشابهة هو أنَّ القضايا الذي تتخذ طابع الإدعاءات العقائدية والسياسية المهمَّة لا يوكل أمر التصدِّي لها لغير الرسول (صلى الله عليه وآله)، أو لغيره من المسلمين، ولكن بأمر وتوجيه منه.
• سؤالٌ:
هل يصلح الاحتجاج بآية التأسي (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) في القيام اليوم بما كان يقوم به الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) بالأمس؟
• جوابٌ:
لا شكَّ في أنَّ استفادة القواعد العامة من أقوال وأفعال وتقريرات المعصومين (عليهم السلام) هو المبتغى لكل عاقل حصيف، فنحن نستفيد المنهج العلمي في الحوار الجدلي من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومن بعد تحصيل مقدَّماته وإتقان مهاراته، فإنَّنا نمارسه متى ما استدعى الأمر، ولكِنَّ التوقف وبمقتضى حصافة العقل، لا بد أن يكون في الموارد ذات الشأن الوازن والأثر الخطير، وإنَّما كان هذا الاستثناء للسبب التالي:
من الواضح إنَّ الغايَةَ من الدخول في أيِّ حوار، هي الوصول لنتائج أكمل وأدق، وشرط ذلك أن يكون المحاوِرُ مُلِمًّا إلمامًا علميًّا بمختلف جوانب موضوع الحوار، ومن تلك الجوانب الآثار والمترتِّبات، وأبعادها ومتوارثاتها، فكم من موضوع أثير قبل عقد أو أكثر، ونجد اليوم آثاره وخيمة وربَّما كارثيَّة.
ولذلك، فإنَّ ميزانَ القضية مُعَقَّدٌ دقيق، ليس مقدورًا لغير فئة خاصة، بل وخاصة جِدًّا، ومن هنا جاءت حِكمَةُ العمل بالاحتياط ما وسع العقل، وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "كن في الفتنة كابن اللبون، لا ظهر فيركب، ولا ضرع فيحلب".
نعم، إنَّ لإحياء الثقلين في ثقافاتنا ومنظوماتنا الفكرية قواعد وموازين تتداخل فيها العقيدة والفقه والحكمة بدقَّة متناهية، ولا يصح على الإطلاق أسلوب الطيران بحديث من هنا وآخر من هناك، لموافقته هذا الموقف أو ذاك (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).
• الجهاد والحرب:
عند ملاحظة وتتبع آيات القرآن الكريم، نقف على مجموعة كبيرة منها تجعل من (الجهاد) فاصلًا إيمانيًا يقترن كثيرًا بالإيمان والهجرة، ومثال ذلك قوله تعالى:
- (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
- (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).
- (وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
- (الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ).
- (الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ).
- (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).
- (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
- (فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ).
- (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ).
الآن:
أعطتْ الشيوعيَّة المساحة الكاملة للبروليتاريا لتتحرك في (ثورات) متتالية حتى يتحقق لها الاستيلاء على مواقع البرجوازين، ثم تُسوَّغُ لهم الدكتاتورية؛ كطريق أوحدي لاستتباب الأمن والسلام قبل اضمحلال الطبقات في طبقة واحدة.
إنَّه ومنذ الانطلاقة الثقافيَّة الأولى للشيوعية في (ثوراتها) ضاعت مسؤولية (الدم) و(زهق) الأرواح، فهي ليست إلَّا (قرابين) يُقدِّمها مُمَزِّق الأجساد على عتبات (اللا طبقية).
نحن نفهم الدرجة العليا التي جعلها الله تعالى للجهاد في سبيله، ونفهم المعاني السامية لمقارعة الظلم والظالم، ولكِنَّ السؤال الذي أطرحه هنا:
ما هو دور القيادة المعصومة في مثل هذه المعادلات الخطيرة؟
هل هو وضع الكليَّات ثم رجوع أمر التشخيص والتطبيق على عامة الناس، أو أنَّ الأمر ليس هكذا؟
هذا ما يتناوله المقال القادم، ولكِنَّ الرجاء من القارئ الكريم، تدبر آيات الجهاد بشيء من الدقة والتوسع في تتبع مسائلها.
ويبقى سؤالان أطرحهُما الآن وفي خاتِمَة كل حلقة من حلقات هذه السلسلة:
ويبقى سؤالان أطرحهُما الآن وفي خاتِمَة كل حلقة من حلقات هذه السلسلة:
بأيِّ عينٍ وثقافةٍ ونَفْسِيَّةٍ ورُوحيَّةٍ نقرأ كتابَ الله المجيد وأحاديثَ المعصومين (عليهم السلام)؟
هل نحن على الطريق الصحيح أو أنَّنا في حاجة إلى مراجعات عاجلة وجادَّة جِدًّا؟
نلتقي في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى..
11 إبريل 2015
No comments:
Post a Comment