Pages

Friday, July 24, 2015

مرة أخرى .. اختلاف الزوايا ومعضلة لا فهم الفهم! / محمد علي العلوي

 

لو أنَّنا نتجاوز بعض المحاذير الموضوعية، ونشرع بالحديث عن (الواقع) وما قيل فيه وسط أروقة الفلسفة وبحوث الفلاسفة، فلربَّما اتَّخذ بعضُنا قرارًا بالإحجام عن الكلام مطلقًا، وكذلك التوبة العظمى عن إبداء الاختلاف مع الآخر أبدًا، كيف لا، ومن جملة ما قيل: أنَّ الواقع ليس إلَّا القضايا الذهنية الخاصة، فالإنسان –بحسب هذه النظرية- لا يمكن أن يعيش واقعًا خارج إطار ما يحمل في ذهنه من قضايا، فالواقع وهم تصنعه القضايا الذهنية.

هذا من أبسط ما قيل في مسألة الواقع وما يتفرع عنها من مسائل غاية في الإعضال، وعلى أيَّة حال فإنَّ المقام لا يحتمل مثل هذه المناقشات بالرغم من الحاجة الماسَّة لإيقاف نزيف العلاقات الفكرية بسبب التراجع في استيعاب حقيقة الاختلاف بين بني البشر.

يُحيطُ الإنسانُ بمجموعةٍ من العناوين، ولا يهمُّ أن تكون صحيحةً أم خاطئةً، فالقضية، كلُّ القضية إنَّما هي في انحباس النظر داخل إطار تلك العناوين المشار إليها، وعندها فإنَّ النقاش وبحساب التكوين لا يمكن أن يكون ذا أثر، ومثل ذلك، المولود كفيفًا عندما يطلبُ أحدُهم تعليمَه الألوان، فهذا محالٌ جِدًّا؛ إذ أنَّ المادَّة التصوريَّة الأولى مفقودة، وإمكان تحصيلها ممتنع، فلا مجال لاستيعاب المولود كفيفًا معنى الألوان.

هكذا هي القضية بالنسبة للمنحبس داخل إطار العناوين الخاصة التي استوعبها ذهنه في قضية ما، فهو وبحكم الانحباس لا يتمكَّنُ تكوينًا من رؤية غيرها إلَّا أنْ يفكّ القيودَ ويبدأ بتغيير المواقع، وهذا في منتهى الصعوبة ما لم تحدث في ذهنه نفحةٌ تُفيقُه إلى أنَّ الكثيرَ من العناوين التي لا يراها لها وجود في أذهان أخرى، وللتعرف عليها فهو في حاجة ضرورية إلى التحول من زاوية نظره تحوُّل انفتاحٍ وتخلُّصٍ من مخانق (الأنا).

وقد قيل: عدم الوجدان لا يعني عدم الوجود.

أقول: "تحول انفتاحٍ وتخلُّصٍ من مخانق (الأنا)"، لأنَّ الإنسان وفي كثير من الأحيان لا يقوى على نفسه وهي تصوِّرُ له التراجع عن رأيٍ أو فِكرَةٍ هزيمةً نكراء وضعفًا يُصغِّره أمام الآخرين، وهذه في الحقيقة أوهام أقل ما يقال عنها أنَّها سخيفة، وكفى.

قد لا ينجح أحدُنا في الإقدام على هذا النوع من التحوُّل الإنساني، وحينها يُعلَّق الأمل على الطرف أو الأطراف الأخرى في الحوار والنقاش أنْ تفهم حالةَ الانحِباسِ التي يعانيها الطرف الأول، وهي حالةٌ قابِلةٌ للتضاعف في حال وُجِهت بالحقيقة، فهي من مصاديق العزة إذا أخذت صاحبها بالإثم، ومعها لا تكون المواجهةُ أكثرَ من حاضِنَة لمزيد من التشقُّقات الجافة المؤذية.

في مقام الإثبات قد يذهبُ البعضُ إلى استحالة التعايش مع الرأي المُعاكِس؛ فالحال يقتضي المصادمة في ميادين العمل، وهذا قد يكون صحيحًا، ولكنَّه من المفترض أن يكون تحت سيطرة العقل والاستعداد للتراجع لا ضعفًا ولا انكسارًا، ولكِن حكمةً ورجحانَ عقلٍ.

لو أنَّنا نعي نعمة الاختلاف في الرؤى، وكيف أنَّها العامل الرئيسي في التكامل وبلورة الفكر، لبحثنا عنه في الآفاق وفي أعماق المحيطات وفي كل زاوية من زوايا هذا الوجود، ولكِنَّ الواقع يُحدِّثُ بحالة من الاستبداد يمارِسُها المجتمَعُ ضدَّ نعمة الاختلاف، والأعجب أنَّه يرفع شعارات جعلها فضفاضة مطَّاطة يستعملها متى ما استشعر الضعف، ويلوي عنقها متى ما استراح على كرسي القوة، ومنها شعار (وحدة الكلمة) و(الصف)، وما نحو ذلك.

لماذا لا يكون المراد من (وحدة الكلمة) أن نجتمع على كلمة (التكامل) الفكري من خلال الاشتمال على أكبر قدر من الآراء؟

لماذا لا تكون (وحدة الصف) بمعنى أن تلتحم الجماهير التحامًا ثقافيًّا خلف التعدُّديَّة وتحمُّل مسؤولية الخيارات الغالبة، صائِبَة كانت أم خاطِئَة؟

أحتَمِلُ قويًّا أنْ (تُتَّهم) هذه السطور بالمثالية، وقد كتبتُ أكثر من مرَّة حول المثالية وأوضحت أنَّها القاعدة المطلوبة لسلوك الطريق الصحيح نحو صناعة الواقع، ومن جهة أخرى فإنَّ فهم طبيعة التعدُّدية ليس بالأمر المُعضِل، ولكِنَّ الإعضال إنَّما هو في القدرة على التخلُّص من (مَخَانِق الأنا).

أودُّ هنا الإشارة إلى عنوان (التراجع)، وهو –في نظري- ليس عنوانًا سلبيًا لمن يملك فكرًا برهانيًّا صحيحًا؛ إذ أنَّ هذا الأخير يُقصدُ، وهو مستغنٍ تمامًا عن الضغط الترويجي المنتشر اليوم في المجتمعات البشرية، ولذلك فإنَّ التراجعَ معه، حِمَايةُ له من المصادمات وما تُنتِج من تكسير وتشويه وما شابه.

قد يحتَاجُ العاقِلُ وفي كثيرٍ من المواطن إلى مثل هذا التراجع الحكيم، وهذه استراتيجية نحتاج إلى تقوية ملكاتها في نفوسنا أفرادًا ومجتمعات، وكمقدَّمة لهذه الغاية نحتاج لفضح (الأنا) التي تدفع صاحبها إلى اتخاذ موقف وتحقيق غلبَة في كل شاردة وواردة، وتصور له عدمَ ذلك ضعفًا ونقصًا أمام الناس، وهو تصوير وهمي شبحي يؤصل لهستيريا تسجيل المواقف، وهي –في نظري- ليست أكثر من محاولات هروب من تلك التصوُّرات المُتوهَّمة.

أختم هذه السطور بعنوان مقال سابق، وهو:

"هو = ليس أنت"

رابط المقال:
 
 
25 يوليو 2015

No comments:

Post a Comment