Pages

Friday, July 31, 2015

على ضفاف الذكريات (25) // ز.كاظم





بسم الله الرحمن الرحيم

ذات ليلة باردة من ليالي الشتاء القارس طُلب منّا الحضور إلى المركز الإسلامي.. لم نتعوّد أن نحضر إلى المركز في ليالي الأسبوع العادية، وبالذات في أسبوع اختبارات نهاية الفصل الدراسي، لكن الدعوة كانت ملحة على أن نحضر كون إحدى الشخصيات زائرة المركز وستقوم بإلقاء محاضرة، وليس من اللائق أن لا نتواجد أو أن يكون الحضور قليلًا.. حضرتُ – وحضر الكثيرون – على مضض.. أقيمت صلاة المغربين جماعة، فاختلست البصر بعد الصلاة أتفحص الوجوه لرؤية هذا الزائر.. مَن يا تُرى هذا الزائر! نعم، بسهولة عرفته.. رجلٌ غريب عنا يبدو أنه في الأربعين من عمره، لم يكن لابسًا لباسًا مميزًا، لا عمامة ولا بشت، بل قميص وبنطلون.. رجلٌ ذو نظرات حادة تعلو على محياه لحية كثيفة يخطها بعض الشيب.. يبدو من شكله أنه إيراني.. ماذا يُريد؟! ولماذا في هذا الوقت؟! ألم يجد وقتًا أنسب من وقت امتحانات الفصل الدراسي!

جلس على الأرض بعد أن رفض أن يجلس على كرسي المحاضر.. جال ببصره في وجوه الحاضرين بتلك النظرات الحادة.. ثم بدأ كلامه.. كانت محاضرته عن المناسبات الدينية كمحطات إعدادية للإنسان المؤمن ابتداءً بالإعداد لشهر رمضان المبارك تهيئة للإعداد لمحطة الحج الأكبر، وكل ذلك إعدادًا لليوم الأكبر.. يوم عاشوراء.. يوم الحسين عليه السلام.. لم تكن محاضرته عادية أو روتينية.. لم يكن الربط بين هذه المحطات واضحًا من البداية، بل استغرق وقتًا لكل محطة من المحطات الثلاث التي لم يخلو حديثه فيها من نقدنا وبجرأة قلّ نظيرها.. انتقد نظافة المركز، بل انتقد نظافة المرحاض.. في مقارنة يخجل منها الإنسان المؤمن.. أيكون مرحاض بيته أنظف وأفضل من مرحاض مكان عبادته! كيف لا يلمع ذلك المرحاض! انتقد وجودنا في قاعة كانت كراجًا للسيارات.. الحمد لله، قال واستطرد، أنكم حوّلتم ذلك الكراج إلى صالة ولكن لماذا تقفون عند هذا الحد.. يخاطبنا وتخاطبنا عقولنا وضمائرنا، أليست بيوتنا أجمل وأفضل من هذا المكان! لماذا لا نحضر إلا مرتين للمركز كل أسبوع! المركز مغلق، وصلاة الجماعة تشكو من هجراننا لها! هكذا كانت محاضرته.. ألا نخجل!

في العادة ما إن تمرّ خمسون دقيقة على أية محاضرة حتى ينتابنا السأم والملل وعلى وجوهنا تعلو تعابير تكاد تصرخ في وجه المحاضر “متى تنتهي من محاضرتك وتريحنا!”.. لكن مع هذا المحاضر كان الوضع مختلفًا، ثلاثة ساعات وأنظارنا لم تفارق نظراته الحادة.. استحوذ على انتباهنا أيما استحواذ.. كأننا أطفالًا بين يديه يحكي لنا حكاية مشوقة.. تشعر بمحاولاتنا الحثيثة على خفض صوت أنفاسنا لكي لا يفوتنا صوت حرفٍ من حروف كلماته.. لم تكن اللغة الإنجليزية – مع اتقانه لها – هي السبب.. لم يكن الموضوع ومادته هو السبب.. وإنما على هذا الرجل هالة غريبة جعلتنا مشدوهين إليه.. ثلاثة ساعات جالسون على الأرض اليابسة لا نكاد نتحرك لئلا تفوتنا كلمة يتفوه بها..

ما العلاقة بين شهر رمضان والحج الأكبر! وما علاقتهما بيوم عاشوراء! في مهارة المحاضر وبهدوء، يلقي الفكرة ثم ينظر إلينا بنظراته.. يخيّم الصمت، وكأنه يسمح للفكرة أن تدخل عقولنا وتجول في أذهاننا، لتُعمل عملها وتقوم بتوليد أفكار أخرى.. ما علاقة الذبيح (إسماعيل) بالذبيح (الحسين)! ما علاقتنا نحن بهما! أمجرد حدثان تاريخيان نُحيهما كل عام، أم لذلك علاقة بكياننا ووجودنا.. ما لنا لا نقف لله مثنى وفرادي!

قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) / سورة سبأ

وقف بعد قراءته تلك الآية.. ونظراتنا إليه تائهة.. رددها، قوموا لله مثنى وفرادى، وأشار بيده إشارة القيام.. بعد عدة مرات فهمنا أنه يدعونا للقيام لله.. قُمنا ننظر إليه تارة وننظر إلى بعضنا البعض تارة أخرى..

إن لم أتعلم شيئًا في تلك الليلة، فقد تعلمّتُ معنى الأولوية في وجودي.. لا أتذكر ذلك الأسبوع الدراسي ولا اختباراته، لكني تلك الجلسة ظلت راسخة في ذهني لما لها عندي من عظيم الأثر..  

لا أتذكر كل تفاصيل تلك الليلة، لكنها ليلة ليست كباقي ليالي العمر أيقظ فيها ضمائرنا وجعلنا نخجل من أنفسنا..


علي تضارفي بعد أكثر من عشرين عامًا على محاضرته في المركز الإسلامي في بورتلاند

من أين أتانا هذا الرجل؟!

جاءنا من مدينة رينو ولاية نيفادا! مدينة معروفة بصخب الكازينوهات في ولاية صحراوية مقفرة.. وُجد وحيدًا في تلك المدينة، فأبى إلا أن يكون مؤمنًا بالله، وقام يدعو.. من رحم الفسق والفجور آمن رجل بالله وانطلق يدعو له.. لا أعلم بالظروف التي اضطرته للجوء أو البقاء في تلك المدينة، إلا أنه لم يخضع لتلك البيئة، لم تسيطر عليه بزينتها وزخرفها، لم يركن لها، لم ييأس.. بل منها انطلق في جعل رقعة منها مكان عبادة وعلم وعمل.. كانت محاضراته الأسبوعية التي هي عبارة عن تدبر في القرآن الكريم وأحاديث أهل بيت العترة الطاهرة تدبرًا معاصرًا يمس الواقع تستمر لأكثر من ثمان ساعات.. يا لله.. ثمان ساعات تدبر وتعلّم وقراءة وتفكّر!! ثمان ساعاتٍ ونحن نضجر من محاضرة تزيد دقائقها عن الساعة الواحدة.. 

علمتُ بعد ذلك أنه انصب على تعليم الكثيرين، وهؤلاء ممن كان يحضر محاضراته الأسبوعية توجهوا للحوزة في قم بعد أن انتهلوا من رحيق العلم..  إنه رجل آمن بربه، فتعلَّم وعلَّم وعمل.. هكذا كان بكل بساطة وبدون أي رتوش..

 جاء هذا الرجل عن طريق أخ إيراني – أحمد رجب – كان يسكن في مدينة يوجين التي تبعد عن مدينتنا قرابة الساعتين.. أحمد رجب مدرس لمادة الرياضيات في إحدى الكليات في مدينة يوجين.. بعد تلك المحاضرة دأبنا أنا ونبيل على الذهاب إلى تلك المنطقة لنشارك في جلساتهم الأسبوعية التي كانت مختلفة عن جلساتنا.. كان القرآن وتدبره هو مادة المحاضرة.. هذا القرآن الذي هجرناه فصرنا غرباء عنه.. لا نكاد نعرفه إلا في المناسبات، ولا نقرأه إلا للبركة.. ساعتان ذهابًا ثم نجلس عدة ساعات في تلك الجلسة، ثم نعود بعد منتصف الليل بعد أخذ جرعات من الزاد الروحي والمعنوي.. 

أصبحنا لا نأنف من المسافات الطويلة طلبًا للعلم والفائدة.

أتذكر جيدًا أنه في نفس العام لتلك الجلسة قررنا أن نحضر مخيمًا أقيم في إحدى مدن كاليفورنيا – ساكرامنتو – وكانت المسافة قرابة الستمائة ميلٍ وتستغرق تسع ساعات بالسيارة تمر بها على جبال أوريغون وكاليفورنيا.. استأجرنا باصًا صغيرًا ورحلنا.. كان المخيم في فصل الصيف ومن إعداد المنطقة الخامسة للجماعة الإسلامية في أمريكا وكندا، وكان أغلب الحضور من الإخوة اللبنانيين وكان المحاضر عالمًا من لبنان.. وصلنا ليلًا ولم يمض وقتًا طويلًا من صباح اليوم التالي إلا وقرر الإخوة المرافقين للشيخ أن يرحلوا نظرًا لقيام اضطرابات خطيرة في مدينة لوس أنجلوس التي جاء منها الإخوة اللبنانيين على أثر الحكم الذي صدر ببراءة الشرطة الذين اعتدوا على الأسود رودني كنج بالضرب المبرح والذي تم تصويره من قبل أحد المواطنين وبثته جميع وسائل الإعلام (ذكرت خبر الاعتداء سابقًا في: على ضفاف الذكريات (16)).

أربعة من الشرطة تم توجيه الاتهام لهم باستخدام القوة المفرطة ومع وجود شريط الفيديو الذي لم تتوقف وسائل الإعلام عن بثه لمدة عام من المحاكمة، يتم تبرئتهم من استخدام القوة المفرطة! هيئة المحلفين وهو “نظام يشرك المواطن في عملية تطبيق العدالة الجنائية، ذلك أنه يكفل تمثيل المواطنين في تشكيل هيئة الاتهام أو المحاكمة – أو كليهما – بصفتهم مواطنين وليسوا متخصصين. وللتأهل للمشاركة في الهيئة التي تعرف عادة باسم هيئة المحلفين، يتم اختيار مواطنين وفحصهم بواسطة عملية اختيار المحلفين التي تسمى عملية الاستجواب للتحقق من الأهلية في المشاركة”. اشتملت هيئة المحلفين لقضية رودني كنج على تسعة من البيض، واحد ثنائي العرق، واحد لاتيني ، وواحد آسيوي. بعد صدور حكم البراءة اشتعلت لوس أنجلوس لمدة سبعة أيام بالمظاهرات وانتشر النهب على نطاق واسع، وحدثت اعتداءات وعمليات الحرق والقتل التي وقعت أثناء أعمال الشغب، و كانت تقديرات الأضرار في الممتلكات أكثر من 1 مليار دولار أمريكي. 53 شخصًا قتلوا وجرح أكثر من 2000 شخص. اضطر الجيش أن يتدخل لإيقاف الشغب بعدد 4000 جندي.

لم نتمكن الاستفادة من المخيم وطفقنا راجعين بخفي حنين.

في إحدى جلساتنا الشبابية – في بيت أحد الأصدقاء – تداولنا أمرًا تم تداوله سابقًا عدة مرات، وكانت الإجابة دومًا معروفة.. لماذا لا نشتري مكانًا للمركز عوضًا عن دفع الإيجارات الشهرية ليكون ملاذًا للجالية الشيعية.. كان السؤال يُطرح سابًقا وكان الطلاب أغلبهم مبتعثين من أرامكو وكانت الحالة المادية جيدة، لكن قصور النظر كان يستحوذ على القرار.. كان الطلبة دائمًا ما يطرحوا أن هذا المكان مؤقت لفترة دراستهم ثم سيرحلوا.. كان المركز يواجه صعوبات في جمع التبرعات الشهرية للإيجار.. لم يكن تكليف كل فرد إلا عشرون دولارًا، ومع ذلك كان التفاعل ضعيفًا جدًا.. أمسكتُ مسؤولية المالية، وقُمتُ من أول شهر بجمع التبرعات وكان المبلغ أكثر من الإيجار.. تعلّمتُ حينها أن المتابعة أولًا، وأسلوب السؤال ثانيًا كفيلان بأن يقوم رواد المركز بالمشاركة في التبرع وبروح طيبة. نعتمد في الكثير من الأحيان على أن يقوم كل فرد بتحمل المسؤولية من تلقاء نفسه، ولكننا نخفق في ذلك. ليس من العيب أن نذكر بعضنا البعض بمسؤولياتنا والتزاماتنا، خصوصًا إذا كان الأسلوب مهذبًا وأريحيًا. إن العلاقة الأخوية الأريحية بين المؤمنين كفيلة بأن تزيل الحواجز، إضافة إلى معرفة ظروفهم وتقديرها، فالبعض ينسى، والبعض الآخر قد لا يكون لديه ما يشارك به في هذا الشهر، وهكذا.. ومع كل ذلك، فإن تلك التبرعات كانت تذهب هباءً في إيجارات شهرية لمركز هو رهينة في يدِ مالك المكان.

تم طرح السؤال في تلك الجلسة الشبابية الآنفة الذكر وكان التفاعلُ مختلفًا.. لماذا لا نشتري مكانًا ونجعله مركزًا للجالية (الموجودة في المنطقة أو التي ستأتي لاحقًا!).. كان أغلب الشباب حينها يدرس على حسابه الخاص، لكن الهمة كانت مختلفة والنظرة متفائلة.. فقام كل فرد من هؤلاء الطلبة بالتعهد لدفع مبلغ ما، كلٌ بحسب استطاعته.. ألف دولارٍ من هنا، وألفان من هناك، وعشرة من هذا وخمسة من ذاك، كانت كافية لأن يتم دفع القسط الأكبر من قيمة المكان.. كانت تلك الخطوة من أفضل الخطوات التي قام بها شباب تلك المنطقة.. ولا يزال المركز قائمًا، بل تم بيعه وشراء مكانٍ أكبر مساحة وأفضل بناءً..     

المركز الإسلامي في بورتلاند أوريغون

 ارتادت عائلة أفغانية المركز بعد أن علمت بوجوده.. كانت هذه العائلة تعيش في تلك المنطقة لمدة تزيد عن ثمان سنوات لكنها لم تكن تعلم بوجود هذا المركز.. العائلة تتكون من أب وأم، وأربعة أولاد وابنتين هربا من الحروب التي مرت على هذا البلد، أفغانستان.. أحمد كان الابن الثاني.. شاب هادئ جدًا.. تقدّمتُ إليه وعرّفتُ نفسي، فرد التحية والسلام بهدوء.. تحدثنا، وطال حديثنا.. استأذن من عائلته وطلب أن يمضي بعض الوقت معي، فاقترحتُ أن نذهب إلى أحد المطاعم، فوافق.. بينما كنا جالسين في المطعم قال لي أنه مستاء جدًا من المركز، فسألته لماذا؟! فأجاب: 

يتبع في الحلقة القادمة

1 أغسطس 2015

بين نقيضين / إكسير المحبة

 

إكسير المحبة

 

 

تبرز الأخلاق في الشريعة الإسلامية كواحدة من أبرز مميزاتها وسماتها الظاهرة والجليّة، وتمام الأخلاق إحدى غايات بعث رسول الإسلام محمد بن عبد الله – صَلى الله عليه وآله – حيث يقول: “إنما بُعثتُ لأُتَمِّم مكارم الأخلاق“، ويظهر أنها من غايات جميع الأديان السماوية.

ولأنها – أي الأخلاق – من أبرز خصائص الشريعة الإسلامية، كان مُبلغّها يُعرَف بالصدق والأمانة، بل أنه – صلى الله عليه وآله – بَلَغَ حد الكمال الأخلاقي، حتى قال عنه رب الكمال والجلال: “وإنّك لعلى خلقٍ عظيم“.

لذا، كان الإسلام مدرسةً أخلاقيةً قِيَميّةً استثنائية، ومن هنا جاءت (كانت) دعوة الإمام الصادق عليه السلام: “كونوا دُعاةً لأنفسكم بغير ألسنتكم” أي بالعمل، ولا شكّ بأن الخُلق ركيزة أساسية للدعوة للنفس بالعمل.

لاحظ أخي القارئ:

إلى هنا ليس في ما تقدم من الكلام أمر جديد، فهو كثيرًا ما يُقال، بل إن أغلبنا إن لم يكن جميعنا يحفظ ذلك ويردده، ولكننا لو راقبنا أنفسنا لرأينا العجب العُجاب من التناقض والتعاكس بين القول والفعل، بين ما نعلم وما نمارسه.

الحالة الطبيعية المفترضة تلزم أن نكون – لكوننا من ملّة هذا الرسول العظيم ذو الخُلق الكريم – في أرقى وأعلى مرتبة من الأخلاق والقيم، إلاّ أن هنالك الكثير من الظواهر والتصرفات بارزة في المجتمع – ربما – تجعلنا في أسفل المراتب الأخلاقية والقِيَميّة.

الأمثلة والشواهد أكثر من أن تُعد وتُحصى، لنلقي نظرة نحو التعامل مع الوافد الآسيوي مثلاً، كيف ترى؟! ألا تجد بأن هناك حالة من الإزدراء والاستنقاص والتعامل السيء، على الرغم من السمعة الطيبة التي نُوصف بها وتُنسب لنا.. بالطبع ليس المقصود هنا التعميم وإنما المقصد هو لفت الانتباه نحو ظاهرة اجتماعية موجودة وتتوسع شيئًا فشيئًا حسب ما أظن وأتصور.

ولتتضح لك الفجوة بين ما نفهم وبين ما نفعل، وترى حالة التناقض بين ما نردد من مفاهيم وبين ما نمارس، تعال لنوجه بصرنا إلى الطرقات والشوارع، كيف نتعامل فيها؟

من أكثر المواضع التي تُنبِؤكَ باختلال المفاهيم الأخلاقية هو طريق السير، أصبحت مظاهر التجاوز للسيارات بالخروج على الطرق الوعرة التي ينتج عنها تطاير الرمال والأتربة على مسار السيارات أمرًا اعتياديًا، تمارسه فئات واسعة جدًا، وبات الدخول لطريق الطوارئ “الخط الأصفر” تصرفًا شائعًا، والحالات كثيرة لو أردت عدّها في هذا الجانب.

إنّ حصر أسباب هذا التناقض تحتاج لدراسة مُعمّقة للظواهر، ولكن يبدو لي بأن هناك سببين ساهما بوجود حالة التناقض هذه:

 

١- عدم تمكّن المفاهيم الأخلاقية والقيميّة التي جاءت بها الرسالة المحمّدية والدين الإسلامي في نُفوسنا.

٢- نتيجة تداخل ثقافتنا مع غيرها من الثقافات الدخيلة علينا نتيجة العمالة الأجنبية الوافدة من جهة والتجنيس السياسي من جهة أخرى.

 

وعليه، بتنا في حاجةٍ ماسةٍ لمراجعة مثل هذه الظواهر، حتى نعود لأصالتنا الإسلامية التي قدَّمت لنا منظومة أخلاقية راقية فنرتقي برُقيّها، ونعلو بعُلوّها.

 

1 أغسطس 2015

تعذيب الأطفال.. مرة أخرى // إيمان الحبيشي

 

 

 

 

 

بعد نشر مقال الأسبوع الماضي بعنوان “تعذيب الأطفال” وجدت أن طريقة المزاح مع الأطفال والتي انتقدتها في المقال أكثر انتشارًا مما توقعت، وهو ما قرأته من خلال بعض النقاشات والتعليقات التي جاءتني بعد النشر، لذلك فقد قمت بمحاولة البحث عن دراسة أو بحث لجهه أو شخصية تخصصية تتناول الأثر السلبي لاستفزاز الأطفال وإثارة غضبهم من أجل التندر، وذلك لمحاولة توضيحه أو الرجوع لها من أجل تقريب الصورة التي رأيتها لأذهان المربين وعموم الأسرة.. إلا أن ذلك لم يكن متوفرًا!

بل لعله على العكس تمامًا، فإن الدراسات والأبحاث أشبعت موضوع “عناد الاطفال” وهو ما يعاني منه أغلب الآباء والتربويين لكون العناد “مرحلة” لا بد وأن يمر بها الطفل، ولا بد من التعامل معها بطرق سليمة لكونها مسؤولة عن صقل شخصية مستقلة وذكية للطفل في حالة حسن التعامل معها كما أن لسوء معالجتها عواقبه أيضًا.

لوهلة وبينما أتجول بين كم الدراسات تلك شعرت بالأسى الشديد فمعنى أن يغيب موضوع “استفزاز الاطفال وأثره السلبي على شخصياتهم” عن التداول والنقاش والبحث، أمران لا ثالث لهما أسوأهما أن الأطفال لا صوت لهم ليرتفع معبرًا عن معاناتهم ورفضهم للاستفزاز الموجود داخل بيئتهم المسؤولة عن تربيتهم وما يتركه ذلك من أثر على شخصياتهم وسلوكياتهم، وهو ما يعني فقدان حلقة مهمة من حلقات العلاج وهي “استشعار المشكلة”. أما الأمر الآخر فربما أن غياب بحث هذا الموضوع يعني أن أسلوب استفزاز الأطفال وما يتبعه من آثار سلبية انما هو مشكلة تربوية أو سلوك ينفرد به مجتمعنا فحسب، لذلك فلم توجد حاجة لدراسته من قبل جهات أو شخصيات تخصصية خارج اطار مجتمعنا!

حينها وجدتني اسأل نفسي:

إذًا من أين لنا هذا؟

إن كان عناد الأطفال مرحلة طبيعية يمر بها الطفل في سني حياته، وهو من باب التسامح يدعى عنادًا – ذلك أن الواقع يقول أن إصرار الطفل على بعض الطلبات أو السلوكيات إنما هو تطور ونمو لا يجيد الآباء فهمه والتعامل معه – فهل “استفزازنا” لهم مرحلة أسرية لا بد منها؟ كيف تحوّل المزاح لدرجة متقدمة جدًا وصلت لعدم الاكتراث بآثاره على بناء شخصية طفل اليوم وشاب الغد؟ وهل يمكن فصل الأثر السلبي الواقع على “الفرد” عن المجتمع؟

واقعا فإن أي مشكلة سلوكية تربوية لا بد وأن تلقي بظلالها على عموم المجتمع، وربما لا نزال في طور عدم الوعي لسوء أثر أسلوب تربوي أو آخر، لكن بمجرد أن نستشعر احتمال وجود أثر سلبي لسلوك تربوي فالواجب علينا أن نضع ذلك السلوك تحت المجهر وذلك من أجل رصد كل أثر يتركه “سلبًا أو إيجابًا” لنصل أولًا لمرحلة فرزه بشكل صحيح فإن كان ذا أثر سلبي فالواجب محاولة إيقافه أو استبداله ثم علاج تركته على نفسية الطفل وإن كان ذا أثر إيجابي فوجب تعزيزه وجعله أكثر فاعلية.

وأقول.. حين لا يوجد بحث أو دراسة لظاهرة أو مشكلة ما فلا يعني ذلك عدم وجودها، كما لا يعني أيضًا تركها وإهمالها..

بل يعني ذلك بكل بساطة أننا أمام مسؤولية الأخذ بزمام المبادرة لإيقافها أو تحييدها ومن ثم علاج تركتها بل ووضع خطة تكون في متناول يد الجميع لتكون بمثابة خارطة طريق للحل.. وعلى أقل تقدير نكون أمام مسؤولية تنبيه المجتمع بسلبياتها.

إن المسؤولية الأولى إنما تقع على عاتق الأبوين الذين يجب عليهما أن يوفرا بيئة تربوية مناسبة لأطفالهما، وحين نطالب أولياء الأمور بالتنبه لسوء أسلوب الاستفزاز كطريقة مزاح مع أطفالهم، فلا يعني ذلك أن يتحولوا لرجال شرطة ليعتقلوا الابتسامة ما بين أفراد أسرتهم وأطفالهم بل يعني ذلك أن واجبهم يقتضي أولًا معرفة الوقت المناسب للتدخل وهو ما لا يمكن وضع قاعدة رياضية جامدة له..

فطفل يدرك أن خاله أو عمه يتعمد ممازحته عبر إيهامه بأخذ أخته حديثة الولادة معه لمنزله، ليبتسم ضاحكًا أو حتى ليفكر قليلًا ومن ثم يجد إجابة تكون ردة فعل لمزحة قريبه، قد لا يكون محتاجًا لأكثر من ابتسامة من أبيه وهزة رأس تطمئنه أنه لا يمكن لأي كائن أن يسلبه أخته..

وعلى العكس فإن طفلًا وبحسب شخصيته وإدراكه لا يمكنه التمييز بين المزحة والصدق، فتتغير ملامح وجهه وربما يعيش قلقًا مستمرًا خوفًا من أن أحدهم قد يسلبه أخته التي وصلت للتو للحياة، فإن على والديه مثلًا أن يوقفا قريبهما عن هذا النوع من المزاح وبشكل حازم بعيدًا عن مسامع الطفل وإن استدعى الأمر فأمامه أيضًا على أن يؤكدا لطفلهما أن تلك ليست سوى مزحة لا يمكن أن يقبلا بها وعلى ذلك قس..

في اعتقادي وبناء على مجموعة من ردود الأفعال على المقال السابق، أن هناك نسبة كبيرة من الجهل بأثر الاستفزاز الذي يمارسه الكبار مع الأطفال، وهو ما يتسبب بأكثر من الأثر السلبي الذي يقع على الطفل ذاته، لذلك فان أول الحلول تكمن في إشاعة درجة من المعرفة بأثر ذلك السلوك وهو ما يمكن تحقيقه من خلال نقاشات وحوارات صحيحة وصريحة داخل إطار العائلة الواحدة أو حتى في عموم التجمعات الاجتماعية مستثمرين وجود أفراد من المجتمع بمختلف الفئات العمرية.

تجتمع العائلة على أقل تقدير كل أسبوع في إجازتها المعتادة لتناول وجبة غداء أو عشاء أو إفطار، فما المانع في أن يقوم أحد الكبار ممن يرون ويستشعرون ويعانون من آثار الاستفزاز السلبية في العملية التربوية كأولياء أمور ومربين، من طرح هذا السلوك كعنوان عام يتم على أساسه مناقشة الأسباب التي تحفز الكبار على استفزاز الصغار، ثم مناقشة الآثار وتوضيح بعض أوجه المعاناة ومن ثم إشعار كل أفراد العائلة والمجتمع بأن لهم يدًا في تربية ذلك الطفل، وأنها قد تكون يد خير تساهم في غرس القيم والحب والمتعة في تربة الأسرة لتثمر أجيالًا صالحة، أو قد تكون بمثابة الوباء الذي يخرب المحصول ويهلك الحرث ثم يتسبب بالدمار لعموم العائلة والمجتمع وذلك لامتداد الأثر لأوسع من دائرة الطفل وأبيه لعموم العائلة والمجتمع.

قد يجد البعض أن المقال يهول ويضخم أمرًا طبيعيًا فطم عليه أطفال المجتمع، إنما هو دعوة للتوقف قليلًا ثم محاولة استقراء الحقيقة، لنضع أيدينا على مصدر قلق بعض الآباء ومن ثم لنبدأ في محاولة طمأنتهم إما عن طريق إثبات أن الأمر أبسط من أن يقلقوا بسببه أو عن طريق القضاء على ما قد نجده أثرًا سلبيًا أو سلوكًا ضارًا لنعيد الأمور إلى نصابها داخل الأسرة.

ذلك أن أول طرق الحل، معرفة المشكلة واستشعار أهمية معالجتها.

 

1 أغسطس 2015

بذورُ الخير، وقطف الثّمار // محمود سهلان

 

 

الثمار قد تتأخر أحيانًا عن البذر طويلا، وقد تظهر لكنها لا تكون يانعةً إلا بعد طول انتظار، تلك حالة قد تكون على جميع المستويات، لكنّ الكثير منا لا يستوعبها، ليس لأنها عصيةٌ على الاستيعاب، لكنْ لخلل ما في دواعي البذر، أو الهدف من وراءه، أو أهداف ما وراء الهدف.

هذا هو حال الكثير من المشاريع الثقافية والخيرية، فإنّها إذا تجاوزت مرحلة الحرث ثم البذر، لا يُضمن لها الاستمرار لسبب أو لآخر، ولعل أهم هذه الأسباب هو استعجال قطف الثمار، فإذا لم يتحقق ذلك بدأ اليأس يأخذ محله في الصدور، فيتلاشى العمل شيئًا فشيئا، في إحدى مراحل النمو، فلا يأتي الدور حينها للإثمار علاوةً على قطفه.

الاستعجال الحاصل قد يكون لضعف التخطيط والنظر، إضافة لفقدان صفة الصبر والتريث، فلو كان التخطيط لمشاريعنا صحيحًا، لما دخل اليأس إلى قلوبنا، لأن الرؤية حينها ستكون واضحة، والخطط البديلة على الأغلب ستكون موجودة، فترى أصحاب المشروع يعملون بهدوءٍ وروية، حيث الإيمان بالمشروع وقيمته وسموه يريح ما بداخل الصدور..

الأمر الآخر هو الأنانية، وربما الشوق المفرط لروية النتائج، فإن كانت ثمرة الزراعة (الحقيقية) نراها ونلامسها غالبًا، ونعيش لحظاتها، فإن الكثير وربما الغالب من الأعمال الثقافية، يصعب أن نتمكن من رؤية ثمارها على المدى القريب، وقد لا نراها، لكننا قد نتمكن من بعثها للأجيال القادمة، وما أعظمه من عمل، فلا يجب أن نتخلى عن صبرنا وطول بالنا في مثل هذه الأعمال والمشاريع.

حبُّ الظهور كذلك، قد يكون أحد تلك الآفات الفتاكة القاتلة، فلأجله قد تُقتل ألف فكرة، والعديد من المخططات الرصينة، والاستراتيجيات الفعّالة، لأنها لا تناسب ذوق فلان، فلا يترك المجال لها، لأنه يجب أن يظهر، ويكون في قلب الصورة، داخليًا وخارجيًا، سرا وعلانية، أوَلَم يرى أنّ الجذور تغوص في عمق الأرض، ليظهر غيرها من الأجزاء للعلن، لأنها تلعب الدور المناسب لها..

في أحد المشاريع التي أشترك فيها اليوم، رأيت روحًا غريبةً عجيبةً من العاملين فيها، لا تكل ولا تمل، تؤمن بأن عليها أن تحرث، وتبذر، وتسقي، وتفعل كلّ شيء، ثم تترك أمر الثمرة لله تعالى، وهذا فعلا ما ينبغي أن نكون عليه، وهذا بإذن الله من علامات إخلاص هؤلاء في عملهم، دون كلل أو ملل، ولا يأس وقنوط، ولا أنانية في البين، حيث ذابت كلّ الفوارق، ووظفت الإمكانيات دون تفرقة لصالح المشروع، مهما تفاوتت المستويات والقدرات.

فلنبذر اليوم كلّ ما هو صالح، وننسى أمرًا واحدًا، وهو (من الذي سيقطف الثمار؟)، فقط فليكن عملنا في أرضٍ خصبة، وموجهًا بالشكل الصحيح، مغلفًا بالصبر والإخلاص، وما فيه الخير سيكتبه الله تعالى.

 

١ أغسطس ٢٠١٥

الهوية الضائعة: النظام الدراسي نموذجًا // ياسر المعلم

 

 

كثير ما ربط علماء الاجتماع صفات وسمات الفرد بصفات وسمات المجتمع، فعلى سبيل المثال دورة الحياة للإنسان تشبه إلى حد كبير دورة الحياة للمجتمع، فكلاهما يمران بمرحلة الولادة والنمو، ومن ثَم مرحلة الشباب (القوة)، وأخيرًا مرحلة الشيخوخة (الضعف) والموت، وبدء دائرة جديدة للحياة.

وتتداخل مواضيع ومشاكل الفرد بمواضيع ومشاكل المجتمع إلى حد يصعب في كثير من الأحيان الفصل بينها عند القيام بدراسة وتحليل للمواقف والمواضيع الإنسانية.. فعندما يصاب الإنسان بمرض “فسيولوجي”، عادةً ما تكون هناك أسباب ومقدمات وعوارض للمرض نستطيع من خلالها اكتشاف المرض وتشخيصه.. وكذلك الأمر بالنسبة للأمراض “السيكولوجية” النفسية، مع الأخذ في عين الاعتبار التعقيدات المحاطة بالنفس البشرية، وهذا ينسحب أيضًا على المجتمعات. فالمجتمع قد يصاب بالأمراض والمشاكل والضعف، وتلك المشاكل بطبيعة الحال أشد تعقيدًا من الأمراض الفردية، لطبيعة المكونات والظروف المختلفة والمتشابكة في كل مجتمع.

لا يختلف اثنان على مدى التدهور والضعف الذي وصلت إليه الأمة (مجتمعاتنا) في شتى المجالات وعلى مختلف الأصعدة، ولو أردنا تحديد الأمراض لغرقنا فيها لكثرتها، ولوجدنا أن أسبابها لا تقل عددًا عن الأمراض التي أصابت هذه الأمة على مدى عقود من الزمن مما سبب الكثير من الهزات والنكبات وأسهم في تهشيم وضياع هوية الأمة، وتحولنا من أمة ذات حضارة قوية مؤثرة في الآخرين إلى أمة تستورد كل شيء من مأكولها وملبوسها الجسدي وصولًا إلى مأكولها وملبوسها العقلي والروحي.. نستورد ونقلّد دون قياس ودون تقييم ومن كل مكان، ومع الأسف حتى استيراد وتقليد الأفكار والأنظمة فشلنا فيه ولم نستطع مجاراة من نقلدهم، حتى أصبحنا حضارة لا لون ولا طعم لها وبلا هوية.

إن من بين أهم الأنظمة التي لها دور محوري في بناء أي حضارة وتطورها هو النظام التعليمي والتحصيل المعرفي، وقد أسس النبي محمد (ص) وأولى اهتمام كبير للعلم منذ اليوم الأول (اقرأ)، وكان لدوره التحفيز لأسرى الحرب في تعليم المسلمين رسالة مهمة إلى دور العلم، حتى وصلت الحضارة الإسلامية إلى مراتب متقدمة في مجال المعرفة كمًا و كيفًا في مرحلة من المراحل، ولعبت دور كبير على مستوى الحضارات الإنسانية.. وكانت الرحلة طويلة في هذا المجال ارتقت وهبطت لأسباب كثيرة ذاتية وخارجية لا مجال لمناقشتها في هذا المقام.. الشاهد هنا أننا حتى ما كنا نجيده تخلينا عنه لنستورد الغث والسمين من الآخرين، فتخلينا عن نظامنا ومنهجنا التعليمي وقمنا باستيراد أنظمة لا تلائم بالضرورة واقعنا، وكان لذلك الأثر السلبي الكبير على مناحي كثيرة في نظامنا الاجتماعي.. وسأسلط الضوء هنا على النظام التعليمي الحالي وتأثيره على جانب اجتماعي واحد فقط من باب المثال لا الحصر.

سأبدأ هنا بطرح السؤال التالي، والذي قد طرحته على كثير من الأشخاص في حلقات نقاشية أو جلسات حوارية وقد جاءت الإجابات متقاربة إلى حدٍ ما، والسؤال هو كالتالي:

ما هو رأيك في الزواج المبكر؟ جاءت الإجابات إجمالًا إنهم يرون أن الزواج المبكر جيد و له إيجابيات كثيرة، ولكن الزواج المبكر لا يناسب واقعنا، فالشاب أو الفتاة  أمامهم رحلة طويلة لإنهاء المرحلة الجامعية والبدء بالدخول في سوق العمل وحينها قد بلغوا من العمر 25 أو 26 سنة.. فمع الإقرار بإيجابية الموضوع إلا أنه (متخلف) عن نظامنا وعصرنا.

السؤال التالي: هل الخطأ في الزواج المبكر أم عصرنا ونظامنا؟ فتأتيك المقارنة الظالمة بين المجتمع الغربي ونجاحاته العلمية ونظامه التعليمي الذي (نطبقه) نحن، ناسين أو متناسين أمور كثيره أهمها الفروقات في العادات الاجتماعية،  والأهم من ذلك مَن قال أن النظام التعليمي هو الأنسب والأصلح لهذا العصر؟!

إن (نظامنا التعليمي) الحالي يتكون من 6 سنوات للمرحلة الابتدائية، و3 سنوات للمتوسطة و3 سنوات للثانوية وبعدها 4 إلى 5 سنوات للمرحلة الجامعية!! ناهيك عن الحشو الزائد في المواد التعليمية بما لا ينفع الناس، والأسلوب البائس المتبع حاليًا في طريقة التعليم. وعلى فرض أنه نظام تعليمي يتميز بجودة عالية، هل من المعقول إمضاء ما يقارب نصف العمر الافتراضي للإنسان كطالب وليس كفرد مسؤول في هذه الحياة!! حيث إن تنشئة الفرد في هذه المراحل يكون التعامل معها في الغالب على أن مرحلة الابتدائية هي مرحلة الطفولة، ومرحلة المتوسطة على أنها انتقال من الطفولة إلى مرحلة المراهقة، ومرحلة الثانوية على أنها مرحلة المراهقة وقد تمتد إلى مرحلة الجامعة في كثير من الأحيان. فيصل الفرد إلى مرحلة العشرينات من العمر بعقلية المراهق الغير مسؤول، ويبدأ بعدها مرحلة العمل، ومطلوب منه التحول إلى مرحلة الرجولة والمسؤولية وتكوين أسرة في تحول (دراماتيكي)! ولك أن تتخيل السيناريوهات المحتملة لهكذا نموذج وما أكثرها في مجتمعاتنا، وعندها تأتي الحلول لمشاكلنا الاجتماعية حلولًا ترقيعية وبشكل ردات فعل وعلاج جزئي آني.

إذًا هل النظام التعليمي صالح للاستعمال؟

للإجابة على هدا السؤال يجب علينا فحص وتقصي نشأة هذا النظام ومصدره:

يعود نشأة النظام التعليمي الحالي بشكله ومضمونه إلى فترة العصر الفيكتوري في (القرن التاسع عشر)، وكان أثر ظهور و اختراع الآلة من أهم المراحل لانتهاء العصر الزراعي الإقطاعي، ودخول العصر الصناعي كمظهر للقوة وترسيخ مفهوم البقاء للأقوى. ومع ظهور الآلة التي تشبه في عصرنا اختراع الكمبيوتر وأثره في بدء عصر التكنولوجيا والسرعة، وتحول الشعار من البقاء للأقوى إلى البقاء للأسرع.

فكان العصر الصناعي نقطة تحول مهمة صاحبته ظهور بعض الأفكار الفلسفية (كالفلسفة المادية – النفعية)، والتي مهدت للعصر الصناعي وقد أثرت هذه الأفكار وطبيعة هذه الحقبة في نظام التربية والتعليم. ومع توسع مستعمرات الإمبراطورية ونشوء النظام (البيروقراطي)، كانت الحاجة ملحة لتداول وتخزين قاعدة البيانات والمعلومات واستعمالها في أنحاء مستعمرات الإمبراطورية فكانت مجاميع الموظفين تقوم مقام عمل الكمبيوتر في ذلك العصر، وكانت الضرورة تحتم توفير نظام تعليمي يضمن تدفق أعدادًا بشرية مهيأة لاستمرار حركة قاعدة البيانات والتواصل عبر أطراف كل الإمبراطورية، فكان التعليم يعتمد على ما يسمى بالعلوم التطبيقية والتي تفتقر في الوقت نفسه إلى أي أبعاد روحية وأخلاقية، مما حول المتعلمين في الفصول التعليمية إلى مجرد آلات لحفظ المعلومات بعيدة كل البعد عن جوهر العلم بدرجاته العليا، وجوهر المعرفة والأخلاق.

هناك نقاش كبير يدور منذ سنوات في أروقة الجامعات الغربية، في مراجعة شاملة للنظام التعليمي وأساليبه وطرق التعامل مع الجيل الجديد، حيث يرون أنه في القريب العاجل سيضطرون إلى التعامل مع المتغيرات الجديدة في النسق التعليمي والتعامل مع هذه الأجيال الجديدة ذات التطلعات المختلفة والرافضة لأسلوب التلقي والتلقيم للمعلومات دون نقاش هذا من جهة، وتأثير التطور التكنولوجي الهائل من جهة أخرى.

في حين لا زالت مجتمعاتنا تدور حول نفسها مع النظام التعليمي، وما زلنا متشبثين ومقتنعين بهذا النظام التعليمي الذي انتهت صلاحيته منذ عقود مضت. إن هذا النظام التعليمي الذي استوردناه مما يقارب ال 300 عام هو أحد أهم الأسباب لكثير من مشاكلنا الاجتماعية والاقتصادية، والتخلف العلمي والحضاري. وأعتقد جازمًا أنه قد حان الأوان لوقفة جادة لإعادة تقييم النظام التعليمي ومخرجاته بشكل كلي وتكاتف كل الجهات الرسمية والأهلية، والاستعانة بمتخصصين في شتى المجالات والعلوم للوصول إلى نظام تعليمي يتلاءم مع المتطلبات الحالية ويتواءم مع طبيعة المجتمع ونظامه.

كلمة أخيرة:

ليس بالضرورة معنى التوصل إلى نظام تعليمي جيد هو البحث عن الجديد أو من خارج المجتمع، فبعض الأنظمة التعليمية التقليدية ( كالحوزات الدينية) مثال جيد في تخريج نوعيات قوية من الطلبة فيمكن الاستفادة من الإيجابيات الموجودة هناك:

  • كجودة المادة التعليمية وإخلاص ومقدرة المعلم على إيصال المعرفة إلى طلابه.

  • نموذج الفصل التعليمي (الحلقة الدراسية) تضم مختلف الفئات العمرية والمستويات العلمية.

  • تواضع المعلم والتلميذ أمام الدليل العلمي.

 

1 أغسطس 2015

الحاضر والمستقبل و(زمن الطيبين) // محمد علي العلوي

 

 

إن كانت اللحظةُ القادِمَةُ مستقبلًا، فمِن الصعب أن يعيش الإنسانُ حاضرًا؛ فاللحظة لا تلبث (لحظة) إلَّا وطردتْها قادمِةٌ من الخلف..

وإن قلنا بالمستقبل، فهذا يعني نفي القول بتصرُّم الزمن؛ وإلَّا فلحظة الزمن من أين تأتي؟ وهل هي لحظة الحاضر المطرودة من (الخلف)؟

إذا كان الأمر كذلك، فهل الزمن حركة دائرية ولا تصرَّم فيه؟ أم هو وهم لا حقيقة له إلَّا في أذهاننا؟

يقول الله تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).

أفهم أنَّ الزمن ظرفٌ لا أكثر، ولا أراه متصرِّمًا، ولكِنَّ مرور المظروف مرورٌ في اتِّجاه واحد غير قابل للانعكاس مطلقًا، ولذلك فهو غير قادر على العودة إلى اللحظة التي تجاوزها.

كما وهناك تفاصيل في هذه الرؤية، ومنها أنَّ المظروف يبقى في ظرفه اللحظي ولا يغادره على الإطلاق، ولكِنَّ ماهيَّة جديدة تتحقق في الآن القادم ومع كلِّ آن.

هل نتصوَّرُ مدى تعقُّد مسألة الزمن؟

هي هكذا، هائِلَةٌ في لحظة كونية واحدة، يحِنُّ لها مظروفها الإنسان بمجرد وجوده في لحظة تحتضنه ليدخل خلقًا جديدًا في لحظة جديدة، وكلَّما فهم الإنسان مظروفَ (آنِه)، وأحاط بكونه نتيجةً خالِصَةً للحظاتٍ انقضى أمرُها، كلَّما تآلف مع لحظة لم تحن بعد، وكلَّما تغرَّب عن مظروفِ (آنِه) وما انقضى من لحظاتِ حياته، كلَّما استوحش المستقبل وتعلَّق بمعظم عاطفته بما انقضى، ولا يتردَّد في عدِّه (أروع الأزمنة).

نحنُّ كثيرًا إلى الماضي وأيَّامه التي نصفها بالبساطة والطُّهر وما نحو ذلك من توصيفات جميلة نخنق بها واقِعَ اللحظةِ في نظر أولادها الذين لم يعاصروا ماضينا، ونفس ما نقوله لهم ونتحسَّر عليه في صدورنا، يتكرَّر لحظة بلحظة على ألسنتهم لأنفسهم وفي ما بينهم، وسرعان ما سوف يجري منهم لأولادهم، وهكذا نمضي على خطِّ الزمن بعمومات ثقافية واحدة نتناقلها بتلقائيَّة مفرطة.

التيلغراف (telegraph) جهاز اتِّصالات يعتمد على ترميز الحروف بنبضات كهربائية يُرسِلُها عبر الأسلاك لآخر يقوم بطباعتها، فتكون مقروءةً للجهة التي تصل إليها..

هذا الجهاز ومن حيث المفهوم العام والظرف الموضوعي من مختلف جهاته وأبعاده، هو نفس الهاتف الذكي الذي نستعمله اليوم، ولكنَّ عقليةَ اليوم تستصغر تيليغراف الأمس، وعقلية الأمس تستعظم هواتفنا الذكية اليوم، ولكنَّ تلك العقلية التي اخترعت التيليغراف، لو حُدِّثت في ذاك العصر عن هاتف ذكي (في الخيال) لما استعظمتْ أمرَه؛ فمبادئه التصورية قائمة عندها، غير أنَّ سعتها التصديقية كانت في حاجة إلى التليغراف أولًا لتتسع معه شيئًا فشيئًا.

وبعبارة أخرى، أقول: إنَّ العقلية التي اخترعت التيلغراف هي نفس العقلية التي اخترعت الهاتف الذكي بكل ما فيه من مزايا (تُبهِرُنا).

حنينُنا لبساطة الماضي، هو نفسُ حنين أحفادنا لبساطة اليوم، وخوفنا بالأمس من اليوم، هو نفس خوف أبنائنا من الغد، والوحيد الذي لا يخاف هو ذاك الذي يحتضن لحظات الزمن ليساهم بقوَّة ومن منطلق حقِّه التكويني في صناعة مظروفاتها وتجنُّب التغرُّب عن مصنوعات الآخرين.

لن يتمكَّن إنسانٌ من هذا الانفتاح المتقدِّم، ما لم يصرف أكثر وقته في قراءة الآخرين ثقافة وفكرًا وأدبًا ونتاجًا، قراءة منفتحة ومبنية على أسس ناضجة صحيحة، وفي المقابل، هو لن يجد خيارًا غير محاربة اللحظة والدخول في فوبيا الهروب المستحيل من القادم، ما لم يحقِّق ذاك الانفتاح، وهو انفتاح لا يوزن بحجم القراءة وتتبع الأخبار، ولكنَّ ميزانه هو القراءة وتتبع الأخبار بعقلية منفتحة تعادي الذاتوية معاداة القطبين المغناطيسيين المتنافرين لبعضهما البعض.

ثمَّة مسألة أعتقدها مهمَّة، وهي كالتالي:

اللحظة الزمنية لا تأتي، فهي ثابتة على خطِّها الخاص، أمَّا المتحرك فهو المظروف مطلقًا، وحركته بدفع تكويني جوهري طارد؛ وقوة الطرد يولِّدها امتلاء الظرف اللحظي السابق امتلاءً تكوينيًّا، وما لم يكن للإنسان فردًا وجماعةً يدٌ في صناعة مظروف اللحظة السابقة، فإنَّه يُقذَف منها نحو اللاحقة تائهًا لا يقوى على التعاطي الواثق مع واقعه الزمني.

وأخرى أيضًا:

من ضمن تفسيرات الحنين إلى الماضي والخوف أو القلق من المستقبل، هو أنَّ المستسلِمَ لوقائع الزمن، يخدعُ نفسه بالحنين إلى الماضي، ولكنَّ الواقع أنَّه فرِح بالتخلص مما كان مستقبِلًا له، فيُظهر شجاعةً بحنينه له بعد أن أصبح ماضيًا، ثم يكرِّر خوفه أو قلقه من المستقبل، ولكِنَّه سرعان ما يشرع في تبجيله والحنين إليه بعد انقضائه وابتعاده عنه بفعل تكاثر اللحظات بينه وبينه!!

ممَّا تقدَّم، يبدو لي أنَّ استراتيجية الإنسان في هذه الحياة الدنيا من المفترض أن تكون قد اتضحت، ولو في معالمها العريضة العامة..

يحتاج الإنسان إلى ترسيخ وتأصيل ثقافة الإصرار على التكامل مع كلِّ البشرية في صناعة الواقع، والتناغم معه بحيث يكون الطرد اللحظي في نفس (آن) التطلع لاحتضان مظروف اللحظة المستَقبَلة، ومن الواضح أنَّ التكامل مع الآخر المتوافق، لا يختلف عن التكامل مع الآخر المتعاكس، فهذا الأخير حقيقة قائمة، ومجرد التسليم ثقافة وفكرًا لهذا الواقع، يكفل التفكير في تحرُّك إبداعي لتحقيق مساحات صناعية أكبر في قِبال (المُعاكس).

وفي جميع الأحوال، فإنَّ الإنشغال بالآخر هو في الواقع انشغال عن صناعة مظروف اللحظة، وبالتالي الوقوع قهرًا في مصنوع الغير..

والنتيجة هي: الحنين إلى ما أسميناه (زمن الطيبين).

 

1 أغسطس 2015

Monday, July 27, 2015

تفضل باستلام نسختك من كتاب
.
"رحل جسدا ..وبقي آمالا"
.
هدية مقدمة من مجموعة #ارتقاء وهو عبارة عن مجموع مقالات فقيدها الشاب #محمد_المخوضر #ابومقداد  .. رحمه الله
.
لاستلام الكتاب يرجى التواصل عبر الوتسب فقط على الرقم :
+973 3301 5700

Saturday, July 25, 2015

على ضفاف الذكريات (24) // ز.كاظم

 

بسم الله الرحمن الرحيم

في عام 1992 وقفنا في طابور السينما لدخول فيلم لشخصية أمريكية كان لها تأثيرها الكبير (والمغيَّب) في حركة الحقوق المدنية في أمريكا.. كانت تلك المرة الأولى التي أدخل فيها السينما في أمريكا، إذ لم أتعوّد على دخول هذه الأماكن.. كنتُ قبلها قد سمعت عن هذه الشخصية في بعض محاضرات المركز، إذ أتذكر جيدًا محاضرة للأخ الإيراني علي يذكر فيها شيئًا من تاريخ ذلك الرجل، مع عرض بعض صوره وانجازاته في حركة الحقوق المدنية في الخمسينات والستينات من القرن السابق.. لكنها لم تكن لتشدني بقدر ما شدّني هذا الفيلم الذي وللأسف استنزف جزءًا كبيرًا من مقدمته في عرض مشاهد تافهة من حياة هذه الشخصية، إلا أن القسم المهم منه كان كفيلًا بأن يثير فضولي ويخلق لديّ مشاعر مزدوجة ومضطربة عن العنصر الأسود.. 


منذ قدومنا إلى أمريكا وبمجرد أن تعرفنا على بعض عادات وأخلاقيات المجتمع، بل بمجرد أن وطئت قدماي مطار جي إف كينيدي في مدينة نيويورك لأول مرة وأنا أنظر للسود بنظرة الحذر الخائف.. فالسود لا يتواجدون إلا في مناطق الجيتو (الأحياء التي يقطنها السود) وتلك الأحياء عبارة عن بؤر للإجرام فيها تباع المخدرات وتُشترى وتكثر فيها العصابات وعمليات السرقة والاختطاف والقتل.. كنا نعرف تلك المناطق ونبتعد عنها لئلا نصاب بسوء، بل مجرد أن ترى أسودًا فلا بد لدقات قلبك أن تتزايد وتحاول أن تكون حذرًا لئلا تكون عرضة للنهب أو السرقة أو ما شابه.. ومع كل ذلك فقد كان للفيلم صدىً كبيرًا في جميع أرجاء أمريكا لجرأته في عرض بعض الحقائق المغيّبة والتعرض إلى حقبة زمنية كانت مليئة بالأحداث والتغيرات الهامة في التاريخ الأمريكي.  

هذه الشخصية التي عاصرت فترة صعبة من تاريخ أمريكا المعاصر كانت كفيلة بتغيير الكثير من القوانين والممارسات العنصرية التي تمارس من قِبل البيض - وللأسف قانونيًا - على السود.. كان الطابور للفيلم طويلًا جدًا، مختلطًا سودًا وبيضًا في انتظار ذلك الفيلم.. فيلم "مالكوم إكس".. هذا الرجل الذي عاني - كغيره من السود - من العنصرية والتمييز في سيرة تاريخ طويل يمتد لأكثر من أربعمائة عام من الاضطهاد للعنصر الأسود..

 
 
لم يكن الفيلم ليشبع فضول معرفتي لهذه الشخصية المميزة، بل قادني لأن أبحث عنه أكثر، فوقعت يداي على كتاب لسيرة حياته للكاتب "أليكس هيلي".. الكتاب عبارة عن لقاءات متعددة مع مالكوم إكس تناول فيها سيرة حياته ليخطها أليكس بحبره على ورقات جعلتني مشدودًا لها في أول كتاب أقرأه باللغة الإنجليزية خارج كتب الجامعة.. كان تجربة قراءة الكتاب مميزة جدًا خصوصًا بعد أن عوّدتُ نفسي على القراءة مجددًا، تجربة غنية جدًا بالدخول في عالم قديم جديد، عالم التاريخ واللغة.. فمن جهة، كان الكتاب يستعرض حقبة تاريخ زمنية من تاريخ أمريكا وبلغة أهلها.. تلك اللغة التي تفقد بعض خصائصها عند الترجمة..    
 

تستطيع أن تلمس الفرق بين فيلم يُعرض لمدة ثلاث ساعات، وبين تاريخ يعرضه الكاتب في سطور على صفحات هذا الكتاب.. عندما يستعرض الفيلم شخصية مالكوم إكس في بداية الفيلم وقبل أن يصبح ذلك الخطيب المفوّه، فإنه يصوّره ذلك الإنسان المهزوز الشخصية في حين أن الكتاب يستعرض قوة تلك الشخصية في نفس تلك الحقبة وبلسان الشخصية نفسها.. يقول مالكوم عن نفسه أنه حتى عندما كان يمتهن الإجرام في سني حياته الأولى، فقد كانت صفة الإتقان غالبة عليه.. الإتقان، تلك الخصلة التي يتميّز بها الإنسان الناجح عن غيره.. 

لم يكن ذلك الفيلم إلا بداية لنقطة تحوّل بالنسبة لي في نمط تفكيري وتعاملي مع السود وخصوصًا المسلمين منهم.. ومن ثمرة ذلك التغيّر كان ذهابي إلى السجن لزيارة المسلمين السود والتواصل معهم.. كان السيد مجتبى والحاج فرهاد الإيرانيان بين فترة وأخرى يذهبان للسجن لزيارة السود وكانا دائمًا ما يدعوانا للذهاب معهما، وكنّا نتعذر بأعذار واهية لكن السبب الحقيقي أن ليس منا مَن سيترك نوم صباح يوم الأحد ليذهب لزيارة السود في السجن! لكني عزمتُ أن أذهب معهما إلى السجن.. اتفقنا أن نلتقي قبال المركز الإسلامي في صباح يوم الأحد، وفي طريقنا الذي استغرق ثلاث ساعات ونصف تقريبًا تناولنا فيها أطراف الحديث حتى وصلنا إلى السجن. يقع السجن Eastern Oregon Correctional Institution في منطقة نائية وهو عبارة عن مكان كبير مسوّر، وفي الحال لفت انتباهي وجود بعض السجناء في فناء السجن يحق لهم الخروج منه ولكن عليهم الرجوع قبل حلول الليل (هؤلاء تكون أحكامهم مخففة وعلى موعد قريب من إطلاق سراحهم)..
Eastern Oregon Correctional Institution
 


عند دخولنا إلى المبنى كان المكان مكتظًا بالزائرين.. يوجد على الجانب خزائن تضع فيها محتوياتك التي في جيبك، إذ لا يسمح أن تدخل أي قطع معدنية أو حاجات غير مرخصة إلى داخل السجن.. يوجد دفتر تكتب فيه بعض المعلومات عنك، ثم يقوم أحد حراس السجن بالتأكد من المعلومات وتفتيشك.. بعد ذلك قادونا عبر أفنية السجن إلى غرفة صغيرة، وطلبوا منا الانتظار.. بعد عدة دقائق أدخلوا علينا السجناء السود المسلمين.. 

إن للسجن تاريخ طويل في دخول الكثير من السود - ومن ضمنهم مالكوم إكس - إلى الإسلام.. كانت حركة أليجا محمد - الأب الروحي لمالكوم إكس - تمنح الكثير من الاعتناء إلى السجناء السود إذ أن السجين الأسود عادة ما يكون ضحية المجتمع الذي يدفعه للإجرام.. كان مالكوم إكس محكوم في قضية سرقة - ثمان إلى عشر سنوت -، وقد تعرف على شخصية مميزة في السجن - جون بمبري - أثارت إعجابه.. وصفه مالكوم بأنه "أول رجل رأيته يسيطر باحترام كامل.. بكلماته".. عكف مالكوم على قراءة وحفظ القاموس الإنجليزي مما أعطاه قوة في فهم الألفاظ والمصطلحات وساهم في تطوير قدراته اللغوية.. هكذا كان ولا يزال السجن لبعض السود، إذ أنه يعتبر محطة في إعادة صياغة الحياة.. 
 
وهكذا جيء بعدة مساجين من السود إلى الغرفة الصغيرة التي كنّا فيها.. كانوا عدة أفراد - أربعة إن لم تخنّي الذاكرة -، عليهم سيماء الهدوء والوقار، وعلى رأس كل واحد منهم طاقية.. كانوا متميزين بأخلاقهم، ويرددون كلمات باللغة العربية حين التحدث معنا، والواضح عليهم تعطشهم للعلم والمعرفة.. جلسنا نتحدث معهم طويلًا، ثم قام السيد مجتبى بإلقاء كلمة صغيرة عن الإٍسلام، فكانوا ينصتون باهتمام بالغ، تشعر بأنهم يتوقون إلى معرفة هذا العالم الجديد - الإسلام - الذي منحهم احترامًا لذواتهم.. كانوا فرحين بأن وجدوا ضالتهم في الإسلام.. مضى الوقتُ سريعًا فلم نلتف إلا والزيارة انتهت.. كانت زيارتنا تُعتبر زيارة دينية، إذ يقوم القسيسون المسيحيون بزيارة السجناء في يوم الأحد للوعظ والإرشاد بصورة أسبوعية..
 
بعد فترة تعرّفنا على مسجد للإخوة السود في أحد مناطقهم وكنّا نذهب في كل يوم جمعة للصلاة معهم، وتكوّنت مع بعضهم علاقات صداقة وأخوة..
 
 
هذه التجربة أطلعتني على الكثير من الدروس المهمة في حياتي، منها:
 
1. أن السود وبحسب طبيعة تاريخ وجودهم في أمريكا عاشوا - ولا يزالون - أزمة هوية وانتماء.. مع أن أمريكا يُعبّر عنها بوعاء الإنصهار- melting pot - فما مِن هوية إلا وأذابتها وصهرتها وأصبحت هوية أمريكية، إلا أن التاريخ السيء لمعاملة السود فمِن العبودية إلى الفصل العنصري إلى وقتنا الحالي الذي بالرغم من وصول أحدهم إلى رئاسة الدولة، إلا أن وضعهم بصورة عامة لا يزال سيئًا.. هذه الأزمة - أزمة الهوية والانتماء - لا تزال تسيطر على غالبية السود..
 
 
2. حركة مالكوم إكس - أو مالكوم شبّاز كما أطلق على نفسه عندما انفصل عن "أمة الإسلام" وفارق رئيسها أليجا محمد وتعرف على الإسلام التقليدي بعد قيامه بالحج وزيارة مصر وعدد من الدول في رحلة لاكتشاف الذات - هذه الحركة غُيّب تاريخها في الوعي الأمريكي وتم التركيز على شخصية أخرى حقوقية - مارن لوثر كنج -، والسبب في نظري هو خطورة الفكرة التي حملتها "أمة الإسلام" وهي ليست الدعوة للعنف كما يصورها البعض وإنما الدعوة إلى البناء الذاتي على هوية الاعتزاز بالعنصر الأسود وضرورة الرجوع إلى أصله وخلق حالة من الانتماء والانفصال التام عن العنصر الأبيض.. في حين قامت دعوة مارتن لوثر كنج على الدعوة إلى الاندماج والمساواة مع البيض..
 
3. أهمية العلم والقراءة في بناء الذات وتطويرها وصقلها فليس هناك أخطر من الجهل في استعباد الإنسان.. عندما قرر مالكوم أن يبني ذاته، عكف أولًا على قراءة وحفظ القاموس لكي يفهم الكلمات والألفاظ.. هذه البداية مع قدرة مالكوم الفائقة على الحفظ دفعته للقراءة في كتب أخرى مما كوّنت لديه مخزونًا معرفيًا ومعلوماتيًا جيدًا جعلته قادرًا على فهم العقلية السائدة ومكّنته من حوارها ومقارعتها وجدالها من جهة، واستقطاب الكثير من السود إلى الأفكار والرؤى التي يطرحها من جهة أخرى..
 
4. احترام الذات هي البداية للإنسان في أن ينطلق في رسم شخصيته ويشرع في بنائها بصورة تكاملية من جوانبها المتعددة.. إن من أسوء الأساليب التي تستخدمها القوى المسيطرة على مراكز القوى هي الضرب في الإنسان لتهتز ثقته بنفسه، فتراه يخجل من تاريخه، دينه، أصله، تراثه، لغته أو لهجته.. من الضروري جدًا التغلب على هذه الأساليب باحترام الإنسان لذاته..
 
5. في بعض الأحيان يحتاج الإنسان أن يتخلص من الصورة النمطية عن الآخرين.. في كثير من الأحيان نطوّق أنفسنا بأوهام وتصورات خاطئة عن الآخرين..
 
6. للأسف الشديد فإن الإنسان الذي ينشأ في بيئة موبوءة وبالرغم من محاولته الجادة في التخلص من قيود تلك البيئة وآثارها، فقد ينجح لفترة معينة ومن ثم قد تجره مرة أخرى لمستنقعاتها.. ولذلك على الإنسان أن يتصل دائمًا بربه ليمنحه الهداية والرشد.. الشيطان يقف في وجه الإنسان بالمرصاد ولذلك لا غنى عن الاتصال الدائم بالله سبحانه من السقوط في الهاوية.. كان أحد السود المسلمين الذين تعرفنا عليهم وقد هداه الله للإسلام وكان مثالًا للشخصية المؤمنة لعدة سنوات قد أودع السجن بتهمة قتله لزوجته بصورة بشعة. حدثت تلك الجريمة بعد أن رحلتُ عن المدينة فلستُ أعلم إن قام بهذه الجريمة فعلًا أم أنه بريء منها، لكني أسأل الله أن يكون بريئًا من تلك الجريمة الشنيعة..
 
لم يقتصر تعاملي مع السود المسلمين فقط، بل تجاوزه خصوصًا بعد خوض الحياة العملية.. لم ينته هذا الفصل، وسأطرح مواقف أخرى بحسب تسلسلها الزمني..
 
في ذات ليلة باردة من ليالي الشتاء طُلب منّا الحضور إلى المركز الإسلامي.. لم نتعوّد أن نحضر إلى المركز في ليالي الأسبوع العادية، وبالذات في أسبوع اختبارات الفصل، لكن الدعوة كانت ملحة على أن نحضر كون إحدى الشخصيات زائرة المركز وستقوم بإلقاء محاضرة.. حضرتُ - وحضر الكثيرون - على مضض.. كانت صلاة المغربين جماعة، فاختلست البصر بعد الصلاة أتفحص في هذا الزائر.. رجلٌ ذو نظرات حادة تعلو على محياه لحية طويلة يخطها بعض الشيب.. يبدو من شكله أنه إيراني.. ماذا يُريد؟! ولماذا في هذا الوقت؟!
 
 
 
 
 
يتبع في الحلقة القادمة 
 
25 يوليو 2015 

 

Friday, July 24, 2015

فقدان الحنان / زينب عبدالأمير

 

عندما يفقد الابن/البنت الحنان من والديهما، حينئذٍ أيّ شخص سيعطيهم ما فقدوه؟

يجب علينا الالتفات لهذه المسألة.. ففقدان الحنان عند الأولاد يدل على أنّ الأسرة لم تبنَ بالشكل المطلوب، وقد بنيت على أسس ضعيفة هشة، وأنّ هناك ثمّة مشاكل بين الوالدين تؤثر على الأبناء.

حينما نرى طفلًا يسلك الطريق، ويترك المنزل الذي لم يعد يُشعره بالدفئ والأمان، فيجب علينا الانتباه وترك كلّ شيء، والوقوف بجانبه لأنّنا لا نريد أن يصيبه شيئ من الأمور السلبية. كانحراف الطفل من خلال تركه المنزل، وتوجهه للتدخين والسرقة وغيرها من الأمور، وكالتوحد الذي قد يصيب الطفل، ومن الصعب أن نعالجه حينذاك، وتشتته الذي يعرض حياته للجرائم البشعة.

 هكذا أيّها الوالدين تهدمون أحلام أبنائكم الصغيرة، و مستقبلهم المشرق بأيديكم من غير قصد، ولكن امنحوه حاجته العاطفية باشباع منكم، لكي يتطور أكثر فأكثر، و دعوه بعيدا عن مشاكلكم وهمومكم بقدر ما تستطيعون، كي لا تؤثر هذه المشاكل والهموم عليه، ويكون قد أخذ كل حاجاته العاطفية دون كدر، وشعر بالدفئ والأمان والحب.

 فالطفل منذ ولادته بفطرته يريد الحنان الحب، وعندما يكبر قد يسأل عن ذلك، وهو بكل بساطه يشعر بالحب والدفئ والأمان، فلا تحرموه، وبساطتها أنه يحصل عليها من خلال أن أقول له حبيبي/حبيبتي، وغيرها من الكلمات التي تشعره بذلك، وبالثقه، وهنا ستنبض الحياة بالفرح، والأمل، وجميع الحواجز ستنكسر.

نرى في حياتنا أطفالا يمرون أمامنا، وحين نود التحدث معهم دائما نشعر بسؤال يتوارد في أذهانهم.
هل أحببناه أم لا؟ وما حجم الحب الذي زرعناه في قلوبنا له؟

من الأمور الواجب الالتفات لها، هي ضرورة الاستماع للأطفال، فعندما يأتي الطفل يروي كلّ يومه لوالديه، ولا يجد من يستمع له، ووالداه مشغولان عنه، أين سيذهب؟!

إلى حيث لا نريد، وعندما يكبر سيكون أُخذَ منكم، ولن يستمع لكم، لأنه سُيخبركم أنّه أُخذ منكم.

لذلك سأطرح تجربتي:

الكثير من الأطفال يبتعدون عن والدَيهم، إذا لم يلقوا ما يريدونه منهما، فيذهبون إلى أقرب شخص بجانبهم كالخالة، والعمة، وغيرهما، فيبوحون بما في قلوبهم لهم، فتراهم يقتربون ويريدون أنْ تضمهم وتجعل السعادة في قلوبهم.

عزيزتي الأم/ عزيزي الأب: اتركا كلّ شيء عند الوصول للمنزل في خلف ظهوركم، وابدأوا صفحة بيضاء مع أبنائكم، بالهدوء وحسن الاستماع، لا بالصراخ والصوت المرتفع وإغلاق الآذان والأبواب.

فالإنسان لا يخلو من ضغوطات الحياة، وليس الطريق هو أن تضربوا أبنائكم، وكأنكم تخبرونهم أنّ حبّكم لهم قل، وصبركم عليهم نفذ، لتكرار ما يفعلون مما لا يرضيكم، وعنادهم الشديد، بل خذوهم بطيبة مثل نسيم الهواء، فإنهم سيصغون أكثر من الكبار لكلما تقولونه لهم.
 
25 يوليو 2015

اخترنا لكم : تناقضات الفكر / رؤية سوسيولوجية تحليلية في بحث (الدين والسياسة والعلمانية للدكتور متعب مناف)

 


الثنائيات التي برزت بشكلٍ جدي وليس مجرد انسيابية أفكار من قبيل مثلاً القديم والحديث والاصالة والمعاصرة والابوانية والحداثوية والدينية والعلمانية، لم تأت إلا من تصادمات ولّدت هذه الكيانات بحيث من الممكن القول إن ملامح وحدود المصطلحات القديمة قد بانت في الحديثة منها.

إن ما نبدأ به وكتساؤل منطقي، هو هل سبب الحديث فكراً وصراعاً أو حواراً هو القديم وكمحصلةٍ له، أم انه كيان له من الخصائص ما لا يتشابه ويتجانس مع القديم؟

ربما تكون التقليدية في مواجهة حادة مع الآنوية (المتمثلة بالحديث) من زاوية استدماج التغير والاختلاف وما اعترى الفترة الفاصلة بين الفترتين من تشكيلاتٍ وأحداث قد فصلت ملامح القديم عن الحديث.

في صورةٍ جدلية عقيمة الإجابة لا نعرف ما صيرورة الصراع بين الراكد أو الثابت التقليدي والحديث المتغير، أهو فكري أم توجهي أم قيمي أم مجتمع ككل؟

السياسة ومواجهة الدين والعلمانية

هل أصبح الدين في مقابل العلمانية، وهل جمعت السياسة لنجاحها بين الدين والعلمانية، أم إنها تختار توجهاً مستقلاً؟

لماذا حمّلنا ونحمّل الدين أكثر من طاقته وخلقنا له صراعاً مع العلمانية، هل العلمانية قد تخندقت في حربٍ مع الدين، أم ان الدين قد رفضها، أم انها مبالغة وترف فكري؟

لماذا الدين والتقليدي يمكن ان يمثل الثابت، والحديث ممكن ان يمثل المتغير، وإذا كان التقليدي ثابت كيف استطاع البقاء، وإذا بقي فعلاً فعلى ماذا استند؟

 بماذا تقاطع الدين مع السياسة والعلمانية، وما نوع المجابهة والاحتواء بينهما؟

لا يمكن عد الدين محصوراً بهالةٍ اسمها السعي السماوي بقدر ما هو وسيلة الحياة لابتغاء الآخرة.

ومتى ما نقول السياسة ماذا نقصد بها، هل هي الحاكم والرعية أو الآمر والمأمور، أم كل شيء يحقق سلطة على الأفراد؟


لمواصلة القراءة:

http://annabaa.org/nbahome/nba85/009.htm

مرة أخرى .. اختلاف الزوايا ومعضلة لا فهم الفهم! / محمد علي العلوي

 

لو أنَّنا نتجاوز بعض المحاذير الموضوعية، ونشرع بالحديث عن (الواقع) وما قيل فيه وسط أروقة الفلسفة وبحوث الفلاسفة، فلربَّما اتَّخذ بعضُنا قرارًا بالإحجام عن الكلام مطلقًا، وكذلك التوبة العظمى عن إبداء الاختلاف مع الآخر أبدًا، كيف لا، ومن جملة ما قيل: أنَّ الواقع ليس إلَّا القضايا الذهنية الخاصة، فالإنسان –بحسب هذه النظرية- لا يمكن أن يعيش واقعًا خارج إطار ما يحمل في ذهنه من قضايا، فالواقع وهم تصنعه القضايا الذهنية.

هذا من أبسط ما قيل في مسألة الواقع وما يتفرع عنها من مسائل غاية في الإعضال، وعلى أيَّة حال فإنَّ المقام لا يحتمل مثل هذه المناقشات بالرغم من الحاجة الماسَّة لإيقاف نزيف العلاقات الفكرية بسبب التراجع في استيعاب حقيقة الاختلاف بين بني البشر.

يُحيطُ الإنسانُ بمجموعةٍ من العناوين، ولا يهمُّ أن تكون صحيحةً أم خاطئةً، فالقضية، كلُّ القضية إنَّما هي في انحباس النظر داخل إطار تلك العناوين المشار إليها، وعندها فإنَّ النقاش وبحساب التكوين لا يمكن أن يكون ذا أثر، ومثل ذلك، المولود كفيفًا عندما يطلبُ أحدُهم تعليمَه الألوان، فهذا محالٌ جِدًّا؛ إذ أنَّ المادَّة التصوريَّة الأولى مفقودة، وإمكان تحصيلها ممتنع، فلا مجال لاستيعاب المولود كفيفًا معنى الألوان.

هكذا هي القضية بالنسبة للمنحبس داخل إطار العناوين الخاصة التي استوعبها ذهنه في قضية ما، فهو وبحكم الانحباس لا يتمكَّنُ تكوينًا من رؤية غيرها إلَّا أنْ يفكّ القيودَ ويبدأ بتغيير المواقع، وهذا في منتهى الصعوبة ما لم تحدث في ذهنه نفحةٌ تُفيقُه إلى أنَّ الكثيرَ من العناوين التي لا يراها لها وجود في أذهان أخرى، وللتعرف عليها فهو في حاجة ضرورية إلى التحول من زاوية نظره تحوُّل انفتاحٍ وتخلُّصٍ من مخانق (الأنا).

وقد قيل: عدم الوجدان لا يعني عدم الوجود.

أقول: "تحول انفتاحٍ وتخلُّصٍ من مخانق (الأنا)"، لأنَّ الإنسان وفي كثير من الأحيان لا يقوى على نفسه وهي تصوِّرُ له التراجع عن رأيٍ أو فِكرَةٍ هزيمةً نكراء وضعفًا يُصغِّره أمام الآخرين، وهذه في الحقيقة أوهام أقل ما يقال عنها أنَّها سخيفة، وكفى.

قد لا ينجح أحدُنا في الإقدام على هذا النوع من التحوُّل الإنساني، وحينها يُعلَّق الأمل على الطرف أو الأطراف الأخرى في الحوار والنقاش أنْ تفهم حالةَ الانحِباسِ التي يعانيها الطرف الأول، وهي حالةٌ قابِلةٌ للتضاعف في حال وُجِهت بالحقيقة، فهي من مصاديق العزة إذا أخذت صاحبها بالإثم، ومعها لا تكون المواجهةُ أكثرَ من حاضِنَة لمزيد من التشقُّقات الجافة المؤذية.

في مقام الإثبات قد يذهبُ البعضُ إلى استحالة التعايش مع الرأي المُعاكِس؛ فالحال يقتضي المصادمة في ميادين العمل، وهذا قد يكون صحيحًا، ولكنَّه من المفترض أن يكون تحت سيطرة العقل والاستعداد للتراجع لا ضعفًا ولا انكسارًا، ولكِن حكمةً ورجحانَ عقلٍ.

لو أنَّنا نعي نعمة الاختلاف في الرؤى، وكيف أنَّها العامل الرئيسي في التكامل وبلورة الفكر، لبحثنا عنه في الآفاق وفي أعماق المحيطات وفي كل زاوية من زوايا هذا الوجود، ولكِنَّ الواقع يُحدِّثُ بحالة من الاستبداد يمارِسُها المجتمَعُ ضدَّ نعمة الاختلاف، والأعجب أنَّه يرفع شعارات جعلها فضفاضة مطَّاطة يستعملها متى ما استشعر الضعف، ويلوي عنقها متى ما استراح على كرسي القوة، ومنها شعار (وحدة الكلمة) و(الصف)، وما نحو ذلك.

لماذا لا يكون المراد من (وحدة الكلمة) أن نجتمع على كلمة (التكامل) الفكري من خلال الاشتمال على أكبر قدر من الآراء؟

لماذا لا تكون (وحدة الصف) بمعنى أن تلتحم الجماهير التحامًا ثقافيًّا خلف التعدُّديَّة وتحمُّل مسؤولية الخيارات الغالبة، صائِبَة كانت أم خاطِئَة؟

أحتَمِلُ قويًّا أنْ (تُتَّهم) هذه السطور بالمثالية، وقد كتبتُ أكثر من مرَّة حول المثالية وأوضحت أنَّها القاعدة المطلوبة لسلوك الطريق الصحيح نحو صناعة الواقع، ومن جهة أخرى فإنَّ فهم طبيعة التعدُّدية ليس بالأمر المُعضِل، ولكِنَّ الإعضال إنَّما هو في القدرة على التخلُّص من (مَخَانِق الأنا).

أودُّ هنا الإشارة إلى عنوان (التراجع)، وهو –في نظري- ليس عنوانًا سلبيًا لمن يملك فكرًا برهانيًّا صحيحًا؛ إذ أنَّ هذا الأخير يُقصدُ، وهو مستغنٍ تمامًا عن الضغط الترويجي المنتشر اليوم في المجتمعات البشرية، ولذلك فإنَّ التراجعَ معه، حِمَايةُ له من المصادمات وما تُنتِج من تكسير وتشويه وما شابه.

قد يحتَاجُ العاقِلُ وفي كثيرٍ من المواطن إلى مثل هذا التراجع الحكيم، وهذه استراتيجية نحتاج إلى تقوية ملكاتها في نفوسنا أفرادًا ومجتمعات، وكمقدَّمة لهذه الغاية نحتاج لفضح (الأنا) التي تدفع صاحبها إلى اتخاذ موقف وتحقيق غلبَة في كل شاردة وواردة، وتصور له عدمَ ذلك ضعفًا ونقصًا أمام الناس، وهو تصوير وهمي شبحي يؤصل لهستيريا تسجيل المواقف، وهي –في نظري- ليست أكثر من محاولات هروب من تلك التصوُّرات المُتوهَّمة.

أختم هذه السطور بعنوان مقال سابق، وهو:

"هو = ليس أنت"

رابط المقال:
 
 
25 يوليو 2015

مواهبٌ يضيعها الإهمال / محمود سهلان

 
 
 
ينتشر في أوساطنا الكثير من أصحاب المواهب والآمال، لكنّهم يواجهون بعض العوائق، التي يكون بعضها طبيعيًا، ويكون بعضها الآخر زائدًا عن الوضع الطبيعي، كما أنّهم لا يعرفون قدراتهم أحيانًا، ولا يجدون من يهتم لأمرهم، فيكتشف معهم مواضع قوّتهم، وقدراتهم، ولعلّ أسوء ما قد يواجههم هو غفلة الأبوين والأقارب عنهم.

إنّ مما قد يؤثر على هؤلاء أيضًا ضعف الحالة المادية، سواء كان على المستوى الشخصي، أو على مستوى من يرعاهم ويهتم بشؤونهم، خصوصًا عندما يكونون في مقتبل العمر، وهذا جانب لا يمكن إغفاله أيضًا، وإن كانت الحاجة أحيانًا محركًا للإنسان ليصنع شيئًا ما، كما فعل الكثيرون، ويفعل غيرهم اليوم.

ما يحتاجه هؤلاء هو أنْ يستمع لهم أحدٌ ما، ويعاملهم بودٍّ واحترام، وما أسرع اكتشافهم حينئذٍ، فكلّ فردٍ ما لم يجد من يعينه على ذلك، قد يغفل عن اكتشاف نفسه مدى الحياة، فيذهب مشروع إنسانٍ ناجح في مجال ما هباءً.

في هذه الحياة تعودت أنْ أنظر لكلّ إنسان على أنّه مشروع، وذلك على مستويين:

الأول: أنّ الله خلقنا أناسًا بالقوة لنكون مشروع إنسان بالفعل، مما يجعل المجال للعمل والسعي متواصل دائمًا، من نفس الفرد، ومن كل من يريد به خيرًا.

الثاني: أنّ كلّ إنسان في هذه الدنيا من الممكن أنْ يكون له قيمة معينة، فقد يكون مهندسًا أو طبيبًا أو عالم اجتماعٍ أو غير ذلك، في النهاية فقد كان مشروع مهندسٍ أو طبيبٍ أو غير ذلك سابقًا، حيث وجدت لديه قدرات معينة، وتوجهات معينة جعلته يكون الشخص الذي نراه اليوم.

أظنّ أنّ كلّ إنسان كونه إنسان فهو يستحق أنْ ننظر له على أنّه سيكون ذا قيمة معينة يومًا ما، فيدفعنا ذلك لمساعدته ودفعه للأمام، فنجاح أيّ فرد هو نجاح وتقدم للإنسانية، ولو في مجال معين، فكيف لو كان هذا الفرد من الأهل أو من محيطنا أو كان أخًا لنا في الدين.

الآن.. أيّها الآباء الأعزاء، والأمهات العزيزات، إنّ أبناءنا يستحقون رعايةً أفضل، فهم يحتاجون لمن يستمع لهم، ويجيد التواصل معهم، فلا تنفروهم منكم، ولا يعلم أحدٌ حينها إلى من يتجهون، ويحتاجون لعاطفتكم وقربكم فلا تتركوهم يضيعون منكم، حاولوا اكتشافهم منذ الصّغر، كي تتمكنوا من توجيههم للطريق الصحيح، وكي تتمكنوا من تقديم الدعم المطلوب لهم.

أيضًا على الإنسان أنْ يحاول اكتشاف نفسه، ولا يركن إلى الراحة والخمول، فيقتل مواهبه بنفسه، فقد لا تجد من يساندك أحيانًا، لكنّ هذا لا يعني أن تقف مكتوف اليدين، فقد أعطاك الله سبحانه وتعالى كلّ المقومات المطلوبة للتقدم والنجاح، فأغلب الأعذار والمبررات تسقط حينها.

تعالوا لنعمل معًا لنكتشف مواهبنا معا، ولننميها، ونستثمرها لرفعة الإنسان، كي لا تذهب ضياعًا..
 
25 يوليو 2015