يقالُ بأن الوطنَ هو الحدود الجغرافية التي تحدّ مكانًا ما، أو المنطقة التي يولد فيها الإنسان، هكذا نتعلمُ منذ الصغر، وقد نلاحظ ولا نلاحظ، أننا منذ الصغر، فإنا نأنسُ لوجود أطفالٍ يشتركون معنا في المرحلة العمرية، ثم نلاحظ ولا نلاحظ أيضًا، حين نسافر لدولة قريبة ونشاهد سيارةٍ بلوحةٍ تعود لبلادنا نلتفت لها وتشد انتباهنا، ومن ثم نلاحظ ولا نلاحظ أيضًا، حين نسافر لدولةٍ أجنبيةٍ ونُصادفُ شخصًا ما يتحدث بلغتنا الأم أننا نود الحديث معه وإخباره بأننا نتحدث بلغته، وثم نلاحظ ولا نلاحظ أيضًا، بأنا نتقرب تلقائيًا ونشعر بالاطمئنان حين نصادفُ مسلمًا ينتمي لعقيدتنا في بلدٍ غير مسلم وإن لم ينتمِ لبلادنا، أو لم يتكلم بلغتنا!!
نعم، نلاحظ هذه المشتركات وتلفتُ انتباهنا، ولا نلاحظ أنها هي الوطن الذي ننتمي إليه.. الوطن الذي لا يمكننا رسمه على مجرد خارطة؟
لم يلفت انتباهنا لهؤلاء المذكورين أعلاه جوازَ سفرٍ، ولا نشيدًا وطنيًا، ولا عَلَمًا نعتز به، بل هنالك بعض الأمور غير المادية، الأقوى من مجرد جوازٍ نعبرُ به حدود الدول، وأنا أتحدث عن وحدة الهدف والمصير والعدو، وتفاوت مستويات المشتركات بين الأفراد والمجتمعات، ويأتي التفصيل لاحقًا.
الدولة ليست الوطن!
الدولة هي مجموعة أفرادٍ يمارسون نشاطهم على إقليم جغرافي معين، ويخضعون لنظام سياسي معين يتولى شؤونها، وتشرف الدولة على أنشطة سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية وقضائية، وما شابه، والتي تسهم في ازدهازها وتحسين مستوى حياة الأفراد فيها، والدولة هي قسم من التقسيمات الجغرافية التي تقسم العالم.*
فهل الرقعة الجغرافية هي الوطن؟ وهل النظام السياسي هو الوطن؟ وهل حدّ مساحة ما - مهما اختلف حجمها - وإطلاق عليها مسمى دولة، كفيلة بأن تجعل هذه المساحة وطنًا؟!
يقولُ أمير الكلام علي ابن أبي طالب "الفقر في الوطن غربة، والغنى في الغربة وطن".. إشارة لأن معيار الفقر والغنى قد يتدخل في تحديد ما إذا كانت رقعة جغرافية ما تشكل وطنًا للإنسان أم لا. الفقر والغنى في حديث الإمام كانا معيارَيْن، وكذلك في مقدمة المقالِ، فإن اللغة قد تشكل معيارًا آخرًا، كذلك الدين، وكلها تتدخل في أن تكون إما مشتركاتٍ بين الأفراد والمجتمعات أو مقومات فردية تسمح للفرد بالتعايش مع المجتمع، فالوطن في الدولة الأجنبية قد لا يتجاوزُ إنسانًا يشاركك اللغة أو الاعتقاد الديني، وقد يكون مركزًا وظيفيًا يدر المال عليك، والوطن في الدولة، وبسبب شيوع تشابه اللغة والدين مثلًا، فإن المطلوب من الوطن أن يقدّم للفرد ماهو أكثر من مجرد المشتركات البسيطة، بل يحتاج أن يقدمَ أكثر من ذلك، من قبيل الأمن العام، والحياة الكريمة، ويظل الإنسان أبدًا يبحث عن هذه المميزات وأين ما تحقق له أكبر جزء منها سيعتبره وطنًا له، ولذلك فالإنسان عادةً في رحلة البحث عن وطنٍ بشكل مستمر!
وبشكلٍ عام، فهي مقومات معينة إن توافرت في مكانٍ ما، استحق هذا المكان أن يسمى وطنًا، وإن لم تتوافر فسيظل الإنسان في غربته، لا بد له من البحث عن وطنه في رقعة ما، أو أن يصنع من المكان الذي يقطنه وطنًا له بحسب حاجته!
حين يُقسم العالم سياسيًّا فهو يًقسم لدولٍ وأقاليم، بحسب حاجة الساسة والمصلحة السياسية، ولكن علماء الاجتماع حين يقسمون العالم، فأنهم يقسمونه وفق تركيباته المجتمعية، فالحدود الجمركية لن تمنع أن يكون المجتمع البحراني والمجتمع القطيفي متشابهان أو يتعاملون معه كمجتمعٍ واحد، ولكنه ورغم عدم وجود أي حدود جمركية، ولا جغرافية، يعتبرون أن المجتمع القطيفي مختلف عن مجتمع الرياض في السعودية مثلًا، لا لأن المسافة ابتعدت فحسب، إنما يملك المجتمعان البحراني والقطيفي من المميزات الكثير، مما لا يوجد بين نظيره القطيفي الرياضي، مثل تقارب اللهجة، ووحدة الهوية الدينية والمذهبية، والعادات والتقاليد، ووحدة الهم والمصير، هذه بعض العوامل بالإضافة لأخرى جعلت القطيف وجزء من البحرين مجتمعًا واحدًا، مجتمعًا لم يشترك في الجنسية ولا في جواز السفر ولا في الصفة الدولية، فكلاهما اليوم ينتميان لوطنٍ واحد، ودولتين، كذلك هي العلاقة بينهما وبين أي أحدٍ يشترك معهما في وحدة مصيرهما وما شابه، علاقة وطنٍ واحد، وإن تعددت الدولُ للعشراتِ وللمئات.
المصير المشترك، عاملٌ مهمٌ ينبغي عليَّ وعلى أبناءِ (وطني) في كل مكان، الذين استهدفهم في هذا المقال، أن نلتفت له ونركز على أن يكونَ مصيرًا محقِّقًا للهدفِ الأسمى الذي يعد الله به المستضعفين في الأرض، هناكَ (وطنٌ) نحتاجُ أن نبنيه بكلِّ ما أوتينا من طاقة وجهد، وتقع مسؤولية بنائه على كل فردٍ منا، من الخسران أن نتخاذل بأنانيتنا عنه.
القومية حسب قول ماتزيني: هي انماء جماعة بشرية لدولة واحدة شريطة أن يجمعها تاريخ واحد ولغة واحدة وثقافة واحدة.
وأقول: بأن هذه القومية ينبغي لنا أن نتمسك بها جيدًا، وينبغي لنا أن ننميها بيننا، وأتصور بأن القومية ستكون حلًا للكثير من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسة والثقافية في مجتماعتنا، شريطة أن تكون هذه القومية قومية (وطنية) وليست قومية (دولية)، وطنية بالمفهوم الذي أحاول أن أشير له في هذا المقال طبعًا.
الإحساس بمسؤولية وحدة الهم والمصير، والشعور بالانتماء، والقومية الوطنية التي أدعو لها، ستكون مؤسسة ومساهمة وصانعة لثقافة تكافلية جديدة ربما نحن فقراءٌ فيها اليوم، واستقلالية نحتاجها جدًا، عبر آليات وتفاصيل ربما تم ذكر بعضها في مقالات سابقة، وربما أتطرق لبعضها في مقالات لاحقة.
ختامًا أقول بأننا في هذا العصر، ومنذ عقودٍ على الأقل، نواجهُ حربًا ممنهجةً وشرسة، لا تهدف لقتلنا فحسب، إنما تهدف بالدرجة الأولى لتعريتنا من هويتنا التي نتمسك بها، لهجتنا التي نعتز بها، ثقافتنا التي تمثلنا، عاداتنا وتقاليدنا وأصالتنا التي تكوننا، عقيدتنا التي تربينا، إيماننا الذي يهذبنا، وكل هذه الأمور هي التي تجمعنا في وطنٍ لا يكترث في أي دولةٍ هو.
إن اهتمامنا بالوطن الذي أقصد، سيجعلنا - في كل العالم - أقوياء، لن تتمكن أي دولة من أن تركعنا في أي زمانٍ ومكان، القوة الوجودية التي حتمًا نحتاجها، وربما نحن مأمورون بالتمهيد لبنائها.
ويبقى السؤال عالقًا، وموجهًا لي، وللجميع في كل بقاع الأرض: هل أنت تنتمي للدولة؟ أم للوطن؟
28 مارس 2015
No comments:
Post a Comment