عبر ضغطة زر، صارت تقتحمنا بإرادتنا أو رغما عنا ملايين الأفكار، أفكار الحق وأفكار الباطل وأفكار ما بينهما، بالأمس كنا مُحصّنين بأسوار قرانا وبيوتنا ومآتمنا ومساجدنا ومجتمعنا، لا يترشّح عبرها إلا اليسير من الأفكار، فتبقى تلك الحصون شامخة لا لقوة بنائها غالباً، لكن لقلة عوامل الضغط التي تنفث بأبخرتها عليها، ثم صار أبناء تلك القرى يختلفون على البلدان الأخرى، لينبهروا بحضارتها ومدنيتها، وليعجبوا بسمين فكرها وبغثّه أيضا، اليوم لا حاجة بنا لنتحرك بمقدار بوصة واحدة حتى نتلقّى ذلك الكم الهائل من الأفكار والنظريات والاشكاليات، لم نعد حبيسي بيوتنا وإن كنا مقيمين فيها لا نخرج إلا لقضاء حاجة، أطفالنا وشبابنا ورجالنا ونسائنا، للكل الحق والقدرة على التعلّم، والمعرفة لم تعد حكراً على الطبقة المتعلّمة أو الثرية أو المثقّفة.
نحن أصحاب حضارة عمرها آلاف السنين، كأصحاب هذه الأرض، أو كعرب أو كمسلمين وكشيعة، نمتلك رصيداً ضخماً جداً من الثقافة، وتاريخاً زاخراً بالحواضر العلمية والثقافية، تشهد عليها قرى عريقة كقرية البلاد القديم، ومعالم تاريخية كمشهد ذي المنارتين (مسجد الخميس حالياً)، ومن هذه البقعة العلمية صاحبة الحضارة صرنا نتلقّى الأفكار عبر وسائل التواصل الاجتماعي، عبر مقال يكتبه كاتب، أو إشكال يطرحه ناقد، فيُزلزّل البعض كياننا وأفكارنا وثباتنا، عبر فكرة يبثها هنا أو نقد يطرحه هناك، فيحوّلنا إما إلى مفكّرين مبدعين ثابتين أو الى مانعتقده أنه كذلك.
إن توافد المعلومات والنظريات لا يمكن أن يكون أمراً سلبياً بحتاً، لكن حين تكون الأرض التي نقف عليها ليست سوى رمال متحركة، فمن الطبيعي أن نغرق في عمقها يوما!
أُطالع منذ مدة كيف تتكاثر بعض الحسابات أو الشخصيات التي تدعوا للإنقلاب الكامل والواضح على هويتنا وعقيدتنا وثقافتنا، أو بعض الحسابات والشخصيات التي تتقوى بمصطلحات الحق إنفاذا للباطل، وتتسلح بأفكار تشبه أفكارنا لتأد الأصيل منها وتدسّه في التراب، دعوات الإلحاد تتدفّق من عمق منازلنا بينما نضع رؤوسنا على وسائدنا معتقدين أن أبنائنا في الغرفة المجاورة في رعاية (الإيمان والحب لله) إلا أن الأفكار والتساؤلات تتصارع في عقولهم المبدعة، فنُحيلها بإهمالنا وجهلنا وإنشغالنا بتوافه التجاذبات الدينية والسياسية والاجتماعية، إلى مقبرة ليدفنوا فيها معنى حلاوة الايمان والتوحيد والتسليم للخالق وللعقيدة الصحيحة النقية التي ننهلها من فكر أصيل هو فكر محمد وآل محمد.
(لا تقرأ لذلك الكاتب)، أو (توقف عن طرح تلك الاسئلة)، ليست تلك حلولاً صحيحة لجيل يعيش هذا العمق من الصراع الفكري، والانفتاح على الحضارات والعلوم، ليست حلولا لجيل يعيش زمن النكبات والخيبات وفداحة التوحش البشري، ليست الحلول الصحيحة لجيل يحاصره فكر أمثال داعش، أو حتى فكر المتطرفين من أبناء عقيدتنا أصحاب راية اللعن والتسقيط، بل (إقرأ) و(إسأل) بعد أن تُهَيّأ أرضية عقائدية وثقافية سليمة، لا يمكن أن تُهيأ عبر الأدوات التقليدية التي تهيأ بها الآباء والأجداد.
لمآتمنا دور عريق في بث الفكر الشيعي الصحيح الذي نؤمن جزماً أنه فكر انساني راق، أبدعه خالق عالم بخبايا الكون ومن عليه، ولا بد أن تحتفظ مآتمنا بذات الدور التاريخي، ولا يتحقق ذلك إلا عبر تطوير خطاباتها وأدواتها، لا يمكن أن يبقى طرفي المعادلة هناك، مستمع ومتحدث بل متحدث مستمع لمتحدث مستمع أيضا، لم يعد التلقين أسلوبا تعليميا وتوجيهيا فعّالا، بل ذلك العصف الذهني الذي من الممكن أن يخلقه خطيبا فذا في أرواح المتفاعلين معه، فيحيلهم لمصادر الفكر الصحيح عبر إستقراء الفكر الذي نعتقد أنه فكرا منحرفا، أو على أقل تقدير فكرا قاصرا يبلوره فكرنا النقي وان باستخدام وسائل حضارة نعاني من تقدمها فوق جثث وأفكار أبناء مجتمعنا بعد توطين تلكم الأدوات.
علينا أن نلقي أبنائنا في عمق تلكم الأفكار والنظريات، واثقين أنهم سيثبتون أكثر لا خائفين أنهم سيتذبذبون، قد تُحار الكثير من الأسر أمام حجم عقول أبنائها، عاجزة عن القدرة على إحتواء تساؤلاتهم، ذلك ليس عيبا، خذ بيد إبنك وإذهب باحثا معه عن إجابات اسئلته، عبر اختيار من وما يتمكن من ذلك حقا، علينا أن نتوقف حالاً عن مهاجمة عقولهم، ومحاولة احتوائها قبل أن تنضج في حضن الأفكار التي من الممكن أن تُبعدهم ثلاثمائة وستون درجة عن حواضرهم الثقافية والعقائدية والعلمية، وأزعم أن حجم المسؤولية كبير جدا، ومن الإجحاف أن نلقي بثقله كله على الأسرة لأسباب عديدة لا يتسع بي المجال لعدها، إنها مسؤولية العلماء والمثقفين والمؤسسات الاجتماعية والدينية، إنها مسؤولية اجتماعية متعددة الاطراف، ومن أجل تحقيقها نحتاج لوضع سلّم أولويات لما نُريد أن نحققه، هل نريد صيتا لاسم مذهب قد يقرضه الفكر الآخر قرضا؟! بينما ننشغل بتأكيد مرجعية فلان دون عن فلان، أو بصحة شعيرة مقابل شعيرة، أو بتفوق حزب سياسي دون حزب، أو بمهاجمة جماعة لجماعة أخرى!
أم نريد أن نكون منتمين لمجتمع متقدّم بأفكاره هو، بعقيدته الصحيحة النقية كما أراد وأسس لنا ذلك من بعد نبي الرحمة أئمتنا وخصوصا إمام العلم جعفر بن محمد الصادق (ع)، عودوا لتاريخ هذا الانسان العالم الذي كانت دروسه ونقاشاته تستقطب القاصي والداني، ستجدون أنه كان منفتحا جدا على أفكار ونظريات ورؤى مخالفة لدين جده تماما إلا انه تمكن من إحتواءها والرد عليها في حضرة ما لا يقل عن أربعة آلاف طالب علم!*
* أحيلكم لقراءة كتاب ( الامام جعفر الصادق في نظر علماء الغرب) ستعرفون عن إمامكم ما لم نتعلمه بمعلّم أو مأتم قط!
الكتاب موجود على صفحات الانترنت وعبر برنامج المكتبة الجامعة .
No comments:
Post a Comment