"دايسو" هو اسم لمتجر تجاري أحبه وأهوى زيارته حتى من غير رغبة في الشراء، مركز فريد بنظري من نوعه، يضم كل ما جادت به العقول اليابانية من اختراعات في مختلف المجالات: أدوات مكتبية، مطبخية، كماليات، ونحوه.
كلما قمت بزيارته لسان حالي لا ينفك بترديد سبحان من وهب تلك العقول هذه النعمة.
لست في عرض للحديث عن اليابان كدولة متطورة شهدت تطورًا ملموسًا بعد نكبة أضاعت الكثير من معالمها ولم يقف أبنائها بعدها مكتوفي الأيدي أو بائسين، ساخطين للأقدار وصروف الحياة، بل جعلوا من النقمة نعمة ومن الضار نافع لهم، يشهد بذلك كل من شاهدها عن قرب أو رآها أو التمس القليل من ثمار عقولهم.
أشد مايلفتني أنهم لم يدعوا كبيرة ولا صغيرة إلا وشنوا بها فكرهم ليولدوا اختراعًا جميلًا، المتأمل للإنتاج الياباني بحق يجد أنهم بلد يقدس الوقت والعمل في آن معًا.. فكل شيء اخترعوا له شيئًا، ومن كل مشكلة وجدوا لها حلًا، عقول تعمل بلا كلل ولا ملل وقلوب تحب التميز والاستقلالية.
بين أقسام هذا المتجر أتجول بشيء من العجب وبشيء من الإكبار.. قد يقول قائل إن ما يوجد فيه لا يرتقي للذوق العالمي، ومدركة إن من يقول ذلك هم أرباب الماركات العالمية والأسعار الباهظة الثمن، فدايسو يختلف عن أذواق هؤلاء بكل تأكيد لأنه نتاج عقول تعمل من أجل مصلحة الجميع، وتحبه أن يكون في أيدي الجميع، فحين أجد اختراع بسيط لأمر بسيط جدًا أردد سبحان الله لم يدعوا بابًا إلا ولجوه ولم يتركوا ثقبًا إلا ورمموه. على أنني أحيانًا أستنكر لا من أجل الاستنكار وإنما رد فعل تلقائي لما أشاهده لأمور جد حقيرة قد لا نلتفت لها ولكنهم عملوا عقولهم من أجلها ليكرموا لنا اختراعًا جميلًا.. فمثلًا، حين تجد مكبسًا ليجمع كيس البلاستيك بشكل جميلٍ جدًا بدلًا من أن نجمعه بشكل عشوائي.. بصدق أمرًا كهذا استوقفني كثيرًا، هل هنا مشكلة حقًا نعاني منها حين نجمع أطراف ذلك الكيس وربطه!
هل فكرنا يومًا بأن هذه مشكلة غير جمالية تستدعي منا ابتكار مكبس وبألوان جميلة تتناسب وأذواق الجميع، أو قطعة صغيرة تحافظ وتستهلك عليك الصابون المتدفق أثناء الغسيل!
وغير ذلك الكثير لا يسمح بذكرها المقام هنا ومدركة أن من يقوم بزيارة ذلك المتجر سينبهر كما بهرت وأكثر..
هل حاجتهم الماسة لكل هذا هو وراء هذا التفوق الكبير الذي يشهد له الجميع؟!
هل حقًا -الحاجة هي أم الاختراع- كما نردد دومًا!
هل نحن بحاجة لاستعمار ياباني حتى نواكبهم!
أم قنبلة على غرار هيروشيما لنصحو من غفلتنا!
وماذا لو كانت تلك القنبلة فكرية تعجن تفكيرنا وتشكله بصورة جديدة بعد أن تسحق القديم منه!
من وجهة نظري القاصرة ما "دايسو" إلا نموذج مُصغر أو جُزء مِن الكل الذي ينبغي أن تقوم عليه اللبنة الأولى "الأسرة" وبالتالي المُجتمع والوطن.
ما أراه أن هكذا مُجتمعات عرفت معنى أن تكون مسؤولة عن نفسها قبل أن تكون مسؤولة عن نفوس أفرادها، ما يمثله هذا المتجر المذكور أعلاه ما هو إلا نتاج عقول أدركت المسؤولية فعرفت كيف تَستثمر العقول، تُربي الأفراد وتُخرج مِنهم أجيالًا تجيد ما تقوم به خلال ساعات يومها، لا أن تستيقظ ومُشكلتها في كيفية قضاء هذا اليوم!
ما نحتاجه هو المسؤولية.. أن نعرفها.. أن نُدركها.. أن تُبنى مسالكنا ومنطوقاتنا عليها.
الفرد البشري لا يولد وهو "مبيّت النية" فيكون عاطلًا ، "ما يشغّل عقله" أو عاملًا "شغّل عقله" الفرد البشري يُربى ليكون..
ويظل السؤال: كيف نُربي وهُنا ليس نحن على مستوى الأسرة، بل حتى المُجتمع بمختلف مؤسساته ابتداءً بالمدرسة لكونها المؤثر الأكبر بعد مُحيط الأسرة.
مثال بسيط جدًا: حين ينهض صغير ويركض إلى والديه حاملًا "رسمة" انتهى مِنها لتوه ويلقى الجواب المُعلب بـ " ثقافة المُجتمع المُصاب بعقله":
(اترك اللعب وذاكر دروسك يمكن تنفعك!) أو يأتي الجواب: (هذا اللي أنت فالح فيه) نعم ربما هذا هو ما "يفلح فيه" أو سوف "يفلح فيه" مستقبلًا.
(اترك اللعب وذاكر دروسك يمكن تنفعك!) أو يأتي الجواب: (هذا اللي أنت فالح فيه) نعم ربما هذا هو ما "يفلح فيه" أو سوف "يفلح فيه" مستقبلًا.
مثال آخر على "ثقافة المُجتمع المُصاب بعقله" فتاة تُجيد التصميم والخياطة وكلما أنهت واحدة يُقابل عملها بـ الاستخفاف والتصغير وتقليل الأهمية، فَتُجبرعلى ترك "تضييع" الوقت كما ترى تلك الثقافة وحشو رأسها بما سيكون تضييع للوقت وإهدار لسنوات فعلًا.. أن يُصافح الصغار ويُجالسون الألعاب الالكترونية وقنوات التلفاز والشبكة العنكبوتية "الغير مُقنن جميعها" لساعات أمر "لا بأس به بحكم العادة" وحين ينشغل الصغار بالعبث بجهاز ما وتفكيكه ومحاولة إعادته "نقوم الدنيا ولا نقعدها".
نظرة واحدة على أحوالنا مع أفراد الأسرة -الصغار على وجه الخصوص- توضح
مدى "التكميم" الذي نُمارسه على العقول والذي بدوره يؤدي إلى تعطيلها لا إعمالها فكيف ننتظر أو ينتظر المُجتمع " ثمرة " من العقول.
مدى "التكميم" الذي نُمارسه على العقول والذي بدوره يؤدي إلى تعطيلها لا إعمالها فكيف ننتظر أو ينتظر المُجتمع " ثمرة " من العقول.
ما هذا المتجر إلا جُزء مِنْ كل يقوم على تقدير واحترام وثقة بعقل الفرد البشري وبكل حركة وعمل لا يستصغر الأمور ويبحث عن الأكبر. احترام وتقديرالنفوس وكيفية إخراج ما تُجيد لا أن تُجبر على دراسة ما لا تُريده كما هو الحال عندنا حتمًا.. إن أردنا إصلاح الفرد البشري فعلينا إصلاح ثقافة مُجتمعه، تلك الثقافة التي تنص على تجميع أكبر كم مِنْ الشهادات ليقال: فلان ابن فلان يملك كذا وكذا وراتبه كذا وكذا، والصحيح والسويّ أن تنص ثقافة المُجتمع على: أن يعيش كل فرد بشري وهو يعمل ويُنتج ما يُجيده وما يبرع ويبتكر فيه، ما يُفرح نفسه حين يستيقظ وهو ذاهب إليه لا وهو "شايل هم" لأنه ذاهب لعمل لا يُريده لان النظام التعليمي أراد ذلك وقبله ثقافة المُجتمع.
مُشكلتنا أن لا مشكلة لدينا! نعم فالمسألة بسيطة ولا تحتاج لدراسة ولا لتقارير بل تحتاج لتفتيح البصيرة وتشغيل العقل وإن قليلًا.
أن نترك الفرد البشري يدرس ما يُريد هو.. أن "يغرف" مِن المعارف والخبرات التي يُريدها هو وفي أي وقت وأي عمر لا أن نُحدد عُمر ومؤهلات.
أن نتركه يختار التخصص والدراسة التي "يفلح" هو فيها، أن نثق بالفرد البشري وبكل "ومضة" فكر ورأي، ونأخذ بيده كأسرة وكمجتمع ونسير معه لا ضده أو أقله لا نضع له العراقيل. إن نظرنا إلى الأحوال عندنا وإلى أوضاع الناس سنرى وبوضوح أنها تجسيد حي وناطق لثقافة المُجتمع المُصاب بعقله.
إذًا..
نحن: نأخذ الفرد البشري حين يولد ونسير به في طريق مرسوم سلفًا نُكمم عقله ونُجبره على الانتقال من مرحلة لمرحلة وإن لم يرغب بها، فالمهم لدينا أن يُنهي تعليمه بشهادة تقبلها ثقافة مُجتمعه ويحصد مِنْ ورائها راتب مُجزي ولا يهم حتى إن لم يُجيدها.
أما هم لا أعلم كيف يأخذون الفرد البشري لكني أُجزم أنهم يأخذونه بطريقة أُخرى ويُربى عندهم ليكون إنسانًا يسعى في الأرض ويجد في اليوم عددًا مِنْ الأفكار التي تنتظر تنفيذها.
نحن لا نثق بالفرد البشري وبما أنعم الله عليه مِن عقل ونثق بالمكتوب درجات وشهادات.
وهم (لا أعلم لكني أُجزم) يثقون بالفرد البشري وبما يشعر أنه يملك ويأخذون بيده لما يرى هو أنه سيبرع فيه ويُنتج.
وهم (لا أعلم لكني أُجزم) يثقون بالفرد البشري وبما يشعر أنه يملك ويأخذون بيده لما يرى هو أنه سيبرع فيه ويُنتج.
نحن لا نتعامل مع الفرد على أنه بشر بل جعلنا مِنْه آلة نضع لها القواعد والتعليمات وتسير.
وهم (لا أعلم لكني أُجزم) يتعاملون مع الفرد البشري على أساس بشريته وما يملك مِن فروق فردية ومميزات.
نحن لا نرى إلا القريب لذا نظامنا التعليمي مثلنا فكل مُخرجاته تصب في نهر واحد وكأن المُجتمع لا يحتاج إلا لبضعة تخصصات ومهن وكأنه راكد لا يتغير ولا يتطور. وهم (لا أعلم لكني أُجزم) يرون المُستقبل قبل يومهم القريب لذا هم يزرعون في الفرد البشري ما يُمكنهم مِن الحصاد في الحاضر والمُستقبل.
باختصار: نحن أضعنا فطرة النفس الإنسانية فضعنا، فعلنا كما فعل الغراب الذي أضاع مشيته فلا هو نجح في التقليد ولا هو استفاد مِن ما كان يملك. وخير شاهد ما باتت عليه ثقافة المُجتمع وما بات عليه حال إنسانه، ساد التعليب.
11 أغسطس 2014
No comments:
Post a Comment