بسم الله الرحمن الرحيم
خلال وجودي في البحرين استطعتُ استخراج فيزا "طالب" بكل سهولة وذلك لوجود قبول من الجامعة مع إحراز المتطلبات الأخرى.. لم أمكث طويلًا في البحرين، لكن المؤسف في هذه الفترة القصيرة من سفري أن مجموعة من أصدقائي - ثمانية - قد تفرقوا في خلال فترة هذا السفر، وهذه بداية للكثير من علاقات الصداقة الحميمة التي تبدأ وتستمر ثم ما تلبث أن تتلاشى إلا مع قليل من التواصل المتباعد.
بعد رجوعي ووصولي لمطار المنطقة الدراسية اتصلتُ بأحد الزملاء في فصلي لكي يقلّني من المطار.. هذا الزميل - وغيره - ممن جمعتنا معهم جدران فصول الدراسة أو الحياة في الغربة تركوا في النفوس أجمل الأثر بمعرفتهم، فطيب أخلاقهم وحسن معاشرتهم ومواقفهم - وإن باعدتك عنهم دائرة الزمان والمكان - تظل محفورة في حافظة الذكرى.. اتصلتُ بهذا الزميل - خالد من الكويت - من المطار وأخبرته أنني أحتاج لمساعدته في توصيلي من المطار إلى سكن الجامعة.. كان الجو ممطرًا كالعادة في هذه المدينة التي لا تتوقف الأمطار عنها طوال العام.. حضر سريعًا لي واستضافني في شقته على وجبة العشاء (موّش لذيذ) ولم يتركني حتى بتُ عنده في شقته تلك الليلة.. في اليوم التالي أوصلني لسكن الجامعة..
برنامج العائلة الأمريكية:
بدأتُ الفصل الدراسي الثاني في معهد اللغة وكان من ضمن البرامج التي يوفرها المعهد هو إتاحة المجال لطلبة اللغة بأن يختلطوا بالمجتمع الأمريكي وذلك عن طريق التعرف على عائلة أمريكية.. الهدف من البرنامج - وهو برنامج اختياري ومجان - تطوير اللغة عند الطالب والتعرف على عادات المجتمع الأمريكي وثقافتهم، وكذلك فهو يمنح الفرصة للعوائل الأمريكية الراغبة في التعرف على ثقافات مجتمعات أخرى. تم إلحاقي بإحدى العائلات، وكانت ربة الأسرة واسمها سمانثا - سامي هو الاسم المختصر - في حوالي الأربعين من عمرها متزوجة ولديها ولدان، الأول في الإعدادية والثاني في الثانوية.
كانت تأتي إلى سكن الجامعة تأخذني إلى بيتها بعد انتهاء الدوام الدراسي أو بعض الأحيان في عطلة نهاية الأسبوع. كانت الحالة بالنسبة لي غريبة نوعًا ما، فالأب جدًا هادئ ولا يكاد يتكلم إلا نادرًا وكذلك الأولاد، وأكثر تواصلي كان مع الأم التي تتمتع بشغف كبير للتعرف على ثقافة مجتمعي. وفي كل مرة كانت تقوم بإعداد وجبة العشاء مراعية فيها ما يحلّ لي من أكلٍ كالخضروات والأسماك لعدم توفر اللحم الحلال.
تركتْ هذه التجربة عندي الكثير من الانطباعات المختلفة، أولها: تمتع هذه العائلة وخصوصًا الأم بحب الاطلاع على ثقافات أخرى ليس عن طريق القراءة أو التلفاز وإنما عن طريق الاختلاط المباشر، إذ ما الذي يدفع بربة أسرة مع مشاغلها الأسرية والعملية بأن تهتم بطالب غريب عن مجتمعها لا تعرف عنه شيئًا! كانت ربة الأسرة - وزوجها بعض الأحيان - يسألون الكثير من الأسئلة التي تعني بالثقافة بدون أن تشعر بمحاولة فرض ثقافتهم أو رؤاهم عليك، فحبُّ الاستطلاع والتعرّف هو المحرك للكثير من أسئلتهم واستفساراتهم. كذلك، فإنهم يجيبون على أسئلتي عن ثقافتهم بكل أريحية بدون أن أشعر أن هناك فرضًا لثقافة مجتمعهم على ثقافة مجتمعي.
الثاني: تمتع هذه العائلة - والأمريكان بصورة عامة - بطبيعة احترام الاختلاف الثقافي والديني، إذ لم أشعر من خلال استقبالهم للمعلومات عن ثقافتي أو ديني اعتراضًا أو تذمرًا أو سخرية، بل كانوا يستمعون بكل انتباه واحترام. خضتُ مع الأم الكثير من المواقف وأولها كانت المصافحة إذ بمجرد أن أرادت أن تصافحني في أول لقاء، أمسكتُ عنها يدي واعتذرت. تصوّرتُ حينها أنني أحرجتها، فلاحظتُ قسمات وجهها وطريقة ردة فعلها واستغربت حينما اعتذرت مني. وحين سألتني عن السبب، أجبتها، ولم تبدِ اعتراضًا بل تقبّلت ذلك الاختلاف وحافظت عليه طوال معرفتي بها. موقف آخر كان حول العلاقة بين الذكر والأنثى خارج العلاقة الزوجية إذ سألتني ذات مرة إن كان لدي جيرل فرند، فأجبتها بأن مثل هذه العلاقات غير مشروعة في ديني. بعد شرح مطوّل حول طبيعة العلاقة المشروعة وغير المشروعة في الإسلام، أبدت تفهمها واحترامها لما طرحته، ولكنها طرحت وجهة نظرها حول الأمر من خلال ثقافتها أيضًا. وموقف أخير أنه في حين دخول وقت الصلاة، فإن ربة الأسرة توفر لي مكانًا للصلاة فيه بدون أن يسبب ذلك لها أي حساسية أو حرج أو امتعاض، بل كانت تبدو سعيدة بذلك.
الثالث: أتذكر مرة أن سامي أخذتني في رحلة قصيرة على قارب في بحيرة أوسويجو، كان الجو فيها جميلًا جدًا. هذا الموقف أثار استغرابي فتصوّر أن امرأة تأخذ شخصًا غريبًا في قارب بدون زوجها أو أحد أولادها. كانت الحالة بالنسبة لي حينها غريبة بعض الشيء مع علمي بتحرر المجتمع الأمريكي، إلا أنها بالنسبة لي تعدّ تصرّفًا غير مألوف. كذلك بدى غريبًا لديّ طبيعة معرفتي بالعائلة واقتصارها فقط مع ربة الأسرة، فقد كنتُ أقضي معظم الوقت معها حتى مع وجود عائلتها، فبالعادة يكون الزوج منشغلًا ببعض أموره العملية، والأولاد في غرفهم. هذا النوع من العلاقة ربما سببه ما سأذكره في الانطباع التالي.
الرابع: من الأمور التي أثارت انتباهي مع هذه العائلة حين وجودي معها هو طبيعة العلاقة الأسرية بين أفرادها إذ بدت لي أنها طبيعة باردة وجافة ليس فيها دفئًا، وللإنصاف فإني لا أعلم إن كان تلك الطبيعة أثناء وجودي معهم فقط أم هي حالة مستمرة. لكن يبدو لي أن سامي كانت تعاني من الفراغ أو جفاف العلاقة العائلية خصوصًا أن زوجها كان دائم الانشغال حتى حينما يكون في المنزل، وكذلك انشغال الأولاد بحياتهم وأصدقائهم.
الخامس: مع قوة العلم والحضارة في المجتمع الأمريكي، إلا أنه -أي المجتمع الأمريكي- بصورة عامة لا يعرف أكثر من حدود موطنه إلا بعض المعلومات الضئيلة جدًا سواءً على المستوى التاريخي أو الجغرافي أو الديني أو غيره. من الغريب جدًا - بالنسبة لي - أن نسبة كبيرة من الأمريكان لا يعلمون أين تقع معظم بلدان العالم حتى تلك البلدان التي خاضوا أو يخوضوا حروبًا معها. الكثير منهم لم يسافر بعيدًا عن حدود أمريكا، بل صادفتُ بعضًا منهم لم يخرج من حدود ولايته. كانت سامي تتمنى أن تسافر إلى أوربا وبالخصوص روما لما لروما من بعد ثقافي وديني في المجتمع الأمريكي بصورة عامة، لكنها مع أنها في الأربعين من عمرها إلا أنها لم تسافر للخارج قط.
استمر تواصلي مع سامي إلى أن قررنا أنا وفيصل أن نسكن في شقة خارج سكن الجامعة، وذلك بعد انتهائي من معهد اللغة الإنكليزية. كان لدينا صديق متزوج يكبرنا سنًا من القطيف، أبا محمد، قد عرض علينا أن نسكن معه إذ في تلك الفترة رجعت عائلته للبلد بسبب دخول أطفاله إلى المدارس، وقد كانت لديه شقة تسعنا نحن الثلاثة، فعرض علينا أن نسكن معه. دعتنا سامي جميعًا لحضور عشاء عيد الشكر Thanksgiving وهو عيد لشكر النعم على حصاد العام الذي أشرف على نهايته. يتم الاحتفال بعيد الشكر في آخر خميس من شهر نوفمبر من كل عام. ولهذا العيد تاريخ يتعلق بمجيء الإنكليز إلى قارة أمريكا في عام 1620، وبسبب برودة الطقس القاسية وقلة خبرة المهاجرين في الزراعة، توفي البعض منهم.. وبعد شهور تدخّل أحد الهنود وكان رئيس قبيلة مسيطرة في المدينة فتقرّب من المهاجرين الإنكليز لإنقاذهم من المعاناة والخسائر التي تواجههم، فعلمهم الصيد والزراعة. وللاحتفال بأول موسم حصاد أقام الإنكليز احتفالًا لثلاثة أيام دعوا الهنود إليه ليشكرونهم على المساعدة و...للصلاة.*
أتذكر جيدًا جلوسنا على طاولة الطعام، وقبل أن نبدأ بالأكل، قام كل منّا بمسك يد الآخر وتنزيل رؤوسنا واغماض أعيننا احترامًا في حين قام زوج سامي بالدعاء شكرًا لله.. كان لقاءً أخيرًا لم يتسنَ لي بعدها أن أتواصل معها. وأنا أكتب هذه الذكريات أتساءل، لماذا لم أتواصل مع هذه المرأة الطيبة كل هذه الفترة؟! ما حالها؟ هل لا تزال على قيد الحياة! كان آخر تواصل لي معها قبل ربع قرن..
يتبع في الحلقة القادمة..
17 يناير 2015
No comments:
Post a Comment