على خط الزمن يتكرر دعاة الخير.. فيتكرر دعاة الشر، وصراعُ الخيرِ والشر الأزلي هو في الواقع صراع الحق مع الباطل، أو صراع الصلاح مع الفساد، وبمعنى أدق، هو صراع المصلحة الشخصية مع المصلحة العامة، المصلحة الشخصية التي تمثل مصلحة الجزء على حساب الكل، والمصلحة العامة هي التي تمثل مصلحة الكل على مصلحة الجزء، وبين هاتين المصلحتين بدأ الصراع ولم ينتهِ.
هناك نظريةٌ تقول بأن الأنانية (المصلحة الشخصية) تولدُ مع الإنسان من اليوم الأول له في هذه الدنيا، فينمو الإنسان وتنمو معه، حتى يكبران معًا، فهنا نسلّم بأنها فكرةٌ جُبل عليها الإنسان، فلا إمكانية لتغييرها، وأن ظهور أناس صالحون وأناس فاسدون، هو نتيجة تقاطع المصالح الشخصية للفئة الصالحة مع المصالح العامة، فيظن الناس بأن فلانًا صالحًا، لأنهم لاحظوه يعمل لمصلحتهم، وهو واقعًا يعمل من أجل نفسه، وأما الفاسدون فهؤلاء تعيسوا الحظ الذين اختلفت مصالحهم مع المصلحة العامة، فظنَّ الناس بأنهم فاسدون، بالرغم من أن الفئتين عملوا من أجل ذاتهم، ومن أجل مصالحهم الشخصية.
للإسلام ردٌّ على هذه النظرية، بالرغم من أن جزءًا كبيرًا منها مصيبٌ، فالإنسان فعلًا يولدُ أنانيًّا، فهو جاء من عالمٍ لا وجود لأي مخلوقٍ آخر غيرهُ فيه يشاركهُ الرحم، وبالطبع ستكبر معه هذه الصفات مع الأيام، وهنا يتدخلُ الإسلام، النظام العبقري العظيم الذي وضعه لنا الله عز وجل، ليدير به الحياة ويُنظِّمَها، وليهذب هذه الصفات ويوجهها حسب وظيفتها السليمة.. فحين كان من الطبيعة البشرية حب جمع المال، لم يأتِ الإسلام لمحاربة هذه الحالة، إنما هذبها، وأوجد طرقِ الكسب الحلال السليمة فـ (أَحَلَّ اللهُ لَكُمُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الْرِّبَا)*، وقال أيضًا (والَّلذِينَ يَكْنِزُونَ الْذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يَنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذّابٍ أَلِيْم)**، ثم حث بشدةٍ على صدقة السرّ، فعن أبي عبدالله عليه السلام قال: (الصدقة والله في السر أفضل من الصدقة في العلانية، وكذلك العبادة في السرِّ أفضل منها في العلانية) وعن سهل بن زياد عن جعفر بن محمد الأشعري، عن أبي عبدالله عن أبيه عليهما السلام قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: صدقة السر تطفئ غضب الرب). وهذه الأمور التي يحث عليها الإسلام، لا مقابل مادي منها تعود فائدته على الفرد بشكلٍ مباشر، إنما يحث الإسلام عليها من أجل قيمة هذا السلوك من جهةٍ، ومن أجل تهذيب صفة الأنانية في هذا المثال، وفي صعوبة الامتثال لهذا الحكم الشرعي، والتهذيب الإسلامي يكن الاختبار لتمييز الحب الصالح من الحب الفاسد، فالإنسان الصالح – من وجهة نظر الإسلام – ليس من تقاطعت مصلحتهُ الشخصية مع المصلحة العامة فقط، إنما مَن آثر المصلحة العامة على مصلحته الشخصية، هذا لأن الأحكام الشرعية والمبادئ والقيم الإسلامية، لم تُوجد من أجل التصعيب أو التطبيق الحرفي والممارسة الطقوسية، إنما كان هدف التشريع وروح التشريع هو أن يكون وسيلةً للوصول لهدفٍ اجتماعيٍّ معين، فحين أحل الله البيع وحرم الربا لم يكن هذا تحريمًا عبثيًّا بل كان هذا إجراءٌ وقائيًا للمجتمع لحمايته من الفساد الاقتصادي، ولحماية الفقراء من استغلال الأغنياء، ولمنع تكدس الأموال عند فئة وحرمان فئة أخرى منها، والكثير من الحكم التي جعلت تشريع الربا والبيع من أهم التشريعات. وهذا هو حال بقية التشريعات، كلها وسيلة للوصول لهدفٍ اجتماعي سامٍ، ينظمُ هذه الحياة ويديرها. والتحايل على هذا التشريعات، حتى لو طُبقت بصورتها الشكلية كأن تحول الربا لعملية بيع بواسطة مخرجٍ أو حيلة شرعية، لن يجعل منك إنسانًا صالحًا، لأنك لم تحقق الغاية التي كان من أجلها التشريع.
يأمرنا الإسلام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا تشريع كما سبق لنا الذكر يصبُّ في مصلحة المجتمع بالدرجة الأولى، وهو أمرٌ يجب على كل مسلمٍ الامتثال له فـ(مَن بات ولم يهتم لأمور المسلمين فليس منهم) وهو فرعٌ مهمٌّ جدًا من فروع ديننا الإسلامي.. وقد تولى البعضُ كعلماء الدين مهمة الأمر والنهي هذه بشكلٍ خاص، فصار الوعظُ مهمتهم التي يسعون من خلالها لتطبيق روح الإسلام المحمدي الأصيل، وتنظيم الحياة كما شاء الخالق عز وجل.
تكمن المشكلة في عدم معرفة (بعض) هؤلاء الواعظين لمنشأ الخلل الموجود عند من ينحرف أو يُخشى عليه من الانحراف عن المسار الإسلامي الصحيح، أو في عدم تمكنهم من الإحاطة بالأسلوب المناسب لهذا الوعظ، فلا يعقل مثلًا أن يُطلَب من مترفٍ متلذذ بملذات الدنيا و شهواتها أن يتنازل عن كل هذا من أجل أن يُصلح حال المجتمع فيقبل، ولا يمكن قهر من نشأ في بيئة لم تعرف الالتزام من قبلٍ وإجباره على الالتزامِ دونَ أن يُعالجَ منشأه الثقافي الذي أوصلهُ لهذه الحالة. إن ممارسة الوعظ الديني لمجرد ممارسته دونَ الإحاطة بأساسياته وأساليبه، ودون اختيار الظرف المناسب، وجميع خصائصه المناسبة، يجب أن لا نتوقع منه تلك النتائج الباهرة التي ستصلح الناس والمجتمع، بل يجب أن نخشى منه أن يثير ردود الأفعال ضد الدين والدعاة إليه.
أن يضع الواعظُ نفسهُ في منصةِ العصمة والحق، ويبدأ بملإ مسامع الناسِ بالأوامر الجافة.. افعلوا.. لا تفعلوا.. إيّاكم.. احذروا.. يجب عليكم.. لا.. لن.. لا بد.. وهذا المصطلحات المقرِّعة لأذهان السامعين، تجعلهم يشعرون بأنهم في عمق جهنم والرذيلة وهذا من سينقذهم، قد يحول مهمتهُ التي تبنَّاها لأداةٍ تُبعدُ الناس عما يدعو إليه. كذلكَ فإن من يطلقُ فكرةً ما ويعظُ الناس بموعظةٍ ما، فإن أول ما سيفعله الناس هو أن يختبروا ما قالهُ عليه، فلا يمكن لسافرةٍ أن تقنع الناس بوجوب لبس الحجاب!
وهناك أمثلة وشواهد كثيرة على من حملوا ردود أفعالٍ كهذه وانقلبوا على السلك الديني بعد أن كانوا جزءًا منه بسبب سوء أسلوب الوعظ أو عدم جاهزية الواعظ له، أو – وهذه الكارثة – أن يكون الواعظ يعتبر ما يصنعهُ وظيفةً يبيعُ فيها كلامًا قد حفظهُ لا ينتظر منه سوى أن تربح تجارته..
حتى في فكرة الوعظ هذه، قد تتقاطع فيها المصلحة الشخصية مع المصلحة العامة، فيمارسها الإنسان فقط لانها تتوافق مع مصلحته، فلا يتوقع أن يجني منها الكثير، وقد يمارسها الإنسان لأنه مؤمنٌ بها، وتحتاجها المصلحة العامة، ويستقيم المجتمع بها، وإن أثرت على مصلحته الشخصية كما لا يحب، وشتان.. بين وعظ هذا.. ووعظ ذاك..
31 يناير 2015
____________________________________________
*البقرة 275
**التوبة 34
No comments:
Post a Comment