زُويَتْ، أو زوى الإنسان بنفسه عن مجموعة من المفاهيم والمسائل ذات الموقع المحوري في بنائه الفكري؛ فالعقلية الإنسانية مثل المكتبة التي كلَّما كانت مُنّظَّمةً في التصنيف والفهرسة، كلَّما كانت لصاحبها، أو لروَّادها أكثر تناغمًا وانسيابيَّة في العطاء، وعلى العكس من ذلك، فهي كلَّما رُمِيَت في أحضان الفوضى، كلَّما غابت بين رفوفها كنوزٌ من العلوم المعارف.
وفي العقلية السائدة تفاقمتْ المشكِلَةُ حتى أصبح عند الناس، البحث في المفاهيم الدقيقة ترفًا وزيادة تفلسف!
والنتيجة، أنَّ المجتمعات البشرية تتراجع لمصلحة العقلية المستَبِدَّة التي تقود العالم في اتجاه مصالحها الكبرى.. والصغرى أيضًا..
في هذا المقال، أطرح نظرية خاصة في الماهيَّات، توصلتُ لها بعد مراحل من القراءات والتتبعات والتدبرات، وهي من الدقَّة بمكان، ما يستدعي توجُّه القارئ الكريم، فالمقام لا يعين على طرحها بكامل مقدِّماتها الاستدلالية، غير إنَّني أحاول جاهِدًا تقديمها بالشكل الأنسب لمقام المقال.
• ما المقصود بالماهيَّة؟
قالوا بأنَّ ماهيَّة الشيء، ما يقع في جواب: (ما هو)، فلو قيل: ما هو زيدٌ؟ لقيل: هو إنسان. ثم يقال: وما هو الإنسان؟ فيقال: حيوان ناطق.
وهذا الجواب الأخير هو ما به الشيء هو هو.
وبتعبير آخر: فإنَّ ماهيَّة الشيء حقيقته التي يتقوم بها، بحيث لو إنَّ سلبًا يقعُ على عنوان من عناوينها، لانتفت ولم تعد هي قبل السلب.
وهنا مسألة في غاية الدقَّةِ والأهمية، وهي إنَّ الوجود الماهوي وجودٌ ذهني، يتشخَّصُ في الخارج بمجموعة من العوارض المُظهِرة له، وبالتالي، فإنَّه لا يشار في الخارج إلى نفس الماهية، ولكِنَّها تُعرف بما يُظهرها.
وقد قلتُ بدِقَّة وأهمية هذا البحث لقوة حضور البُعْد الاتصالي فيه، بين التعقُل الإنساني والواقع الخارجي بمختلف أشكاله ومراتبه، وقد يتَّضِحُ تاليًا جانِبٌ من أهمية هذا البحث.
فالماهيَّة هي حقيقة الشيء، ووجودها ذهني، ويُتَوَصَّلُ إليها من خلال التحليل الدقيق بما يؤهل للإرجاع الجنسي (الحيوانيَّة للإنسان)، والحدِّ بالفصل المائز (ناطق)، فنُرجِعُ الإنسان لجِنسه القريب، وهو (حيوان)، ثُمَّ نفصل بينه وبين سائر أنواع (الحيوان) بفصل قاطع تمامًا (ناطق)، فنقول: الإنسان حيوان ناطق، فهو يشترك مع سائر أنواع الحيوان في الحيوانيَّة، وينفصل عنها بالناطقيَّة.
السؤال الذي أطرحه هنا:
هل كُلُّ فَردٍ من أفراد الإنسان يصدُق عليه أنَّه حيوان ناطق بالإرجاع إلى ماهيَّة واحدة فاردة وهي الحيوانية الناطقية، أم أنَّ الحيوانية الناطقية تختلف من فرد لآخر؟
وبعبارة أخرى: هل الحيوانية الناطقية بما هي حيوانية ناطقية لزيد، نفسها الحيوانية الناطقية بما هي حيوانية ناطقية لبكر، أو لا؟
وبمثال آخر: هل ماهية هذه النار الحارقة، هي نفسها ماهية تلك النار الحارقة؟
- مقدَّمة توضيحية:
تنقسم المفاهيم باعتبار انطباقها على مصاديقها إلى قسمين:
الأول: المفهوم الكلي: وهو المفهوم الذي يقبل الانطباق على كثيرين، كمفهوم الإنسان (حيوان ناطق)، فهو ينطبق على زيد وبكر وحسن وجعفر وليلى ورباب وزينب وأمينة، وكمفهوم الحصان (حيوان صاهل)، فهو ينطبق على كل حصان مهما كانت فصيلته وعِرقِه.
الثاني: المفهوم الجزئي: وهو المفهوم الذي لا يقبل الانطباق على غير مصداق واحد فقط، كمفهوم زيد الذي لا ينطبق إلَّا على شخص زيد، وكمفهوم هذا الحصان المشخَّص، فهو لا ينطبق على غيره.
فالمفهوم الجزئي كالبَصْمَةِ الشخصية.
يُفهمُ مِمَّا تقدم، أنَّ الشيء الواحد يرجع إلى مفهومين اثنين، أحدهما كلِّي، ويشترك معه فيه كُلُّ ما يُحدُّ بِحدِّه، والآخر جزئي، ولا يشترك معه فيه أحد.
• انعطافة البحث:
إذا اتضح ما مرَّ، فيكون القُبحُ اللاحِق بمفهوم من المفاهيم لاحِقًا بكل مصاديقه، وكذلك الحسن، إلَّا بتخصيص في الموارد تقوم به جهة يؤمن المجتمع بعُلوِّها، كحسن الكذب في موارد إصلاح ذات البين، وكحسن القتل قصاصًا بأمر الحاكم الشرعي، هذا والكذب قبيح، ومثله القتل.
ما أقوله هو: إنَّ هذا الذي يسمى (كذبًا) في موارد إصلاح ذات البين، ليس هو ذاك (الكذب) في غيره من الموارد، وعندما أقول (غيره)، فإنَّني أقصد التغاير الماهوي، بل وحتى في موارد الكذب القبيح، فإنَّ ماهية هذه الكذبة ليست هي ماهية تلك الكذبة، وهذا القتل الحرام مختلف في ماهيته عن أيِّ قتل حرام غيره.
- البناء الفكري للنظرية:
يحمِلُ عالمُ الواقع ونفس الأمر مرتبتين من الماهيِّات:
المرتبة الأولى: هي الماهيَّةُ التصنيفيَّة، وفيها يُحدَّد العمل بحسب ظاهره في عالم الإثبات، فيتشابه القتل مهما اختلفت ظروفه، وبالنظر إلى الماهيَّة التصنيفية، فإنَّه لا فرق بين القتل الحرام، وبين قتل القصاص، ولا تُصنَّفُ ماهية التصنيف لا حُسنًا ولا قُبحًا، فهي مجرَّد تعريف واقعي للصفة المجرَّدة للفعل.
المرتبة الثانية: الماهية الجزئيَّة: وهي مفهوم جزئي يصدق على واحد، وهذا الواحد يُحقِّقه تمام الظرف من زمن وما فيه من ظروف موضوعية تتمُّ بها عِلَّة الحدث، وهذا الحدثُ متصرِّمٌ بتصرُّمِ ظرفه، ولا تتكرَّرُ ماهيته في غيره على الإطلاق، فالماهيَّة والحقيقة له خاصَّةً، وليس هو أكثر من مُظهِر لها في عالم الظهور والإثبات، ولو لا تشكُّل الظروف الموضوعية على نمط خاصٍّ فارِدٍ في آنٍ خاصٍّ فارِدٍ لما وقع الحدَثُ في الخارج، وهنا مسألة أشير إليها لعظيم أهمِّيَتها:
إنَّ الآن الذي يقعُ فيه الحدث (أ) ليس هو الآن الذي يقع فيه الحدث (ب)، وإن اتَّفق الوقوع في ساعة ولحظة واحدة بحسب القياس الزمني المعروف، ولنقل أنَّ حدثين وقعا عند الساعة الواحدة ظهرًا وفي لحظة واحدة تمامًا، ففي الحقيقة أنَّ آن الوقع مختلف تمامًا، وهذا واضح لكونِ آن الحدث داخلًا في ماهيَّتِه كما كُلِّ الظروف الموضوعية.
- وعليه:
إذا اتَّضح ذلك، فإنَّ الإسقاطات التاريخية والاستفادة منها في قراءة الواقع لا يمكن إمضاؤها بشكل ساذج يظهر في جَرِّ الأحكام لمجرد التشابه بين الواقعة التاريخية والحال القائم، ولأنَّ هذه السذاجة الإمضائية هي الحاكمة اليوم، فإنَّنا نشهد هذا الكم الهائل من التنازعات والصدامات بين البشر، وكُلُّ فئة ترى الحقَّ معها دون غيرها (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)، وقال عزَّ وجلَّ (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)، ومن داخل نفس الحزب تتشكل أحزاب ومن كل واحد أحزاب، وهكذا، إلَّا من وعى قوله تبارك ذكره (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)، ومثلها (وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ).
يحتاج المقام لبيان وانتقال من مرحلة إلى أخرى، وهذا ما نحن بصدده في بعض المقالات القادمة، ولذلك الحين، أطلب من القارئ العزيز أن يُقلِّب ما جاء في هذا المقال بحذر وتأنِّي، ولا شكَّ في أنَّه أهل لذلك.
كما وأُلفِتُ الانتباه إلى أنَّ قراءة المقالات القادمة دون استيعاب مطالب هذا المقال، أمر غير مستحسن، وليس الأمر أن تتَّفق مع الكاتب أم لا، ولكِنَّ المهم استيعاب وهضم ما يريد قوله، حتى نتجنب الاشتباهات والالتباسات.
ويبقى سؤالان أطرحهُما الآن وفي خاتِمَة كل حلقة من حلقات هذه السلسلة:
بأيِّ عينٍ وثقافةٍ ونَفْسِيَّةٍ ورُوحيَّةٍ نقرأ كتابَ الله المجيد وأحاديثَ المعصومين (عليهم السلام)؟
هل نحن على الطريق الصحيح أو أنَّنا في حاجة إلى مراجعات عاجلة وجادَّة جِدًّا؟
نلتقي في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى..
4 إبريل 2015
No comments:
Post a Comment