لستُ في حاجة لا لمقدمة ولا لمدخل ولا لتوطئة، فما قد هَيَّجَ الحِبْرَ في القلم هيَّجَه قبلُ في قلوب حرة..
فِكْرَةٌ تجول في خاطرك، ولا إساءة فيها لأحد، غير أنها ترتعد في داخلك وتمتنع عن الانطلاق خوفًا من مُعارِضٍ يسُبُّها أو مُخَالِفٍ يخوض في عِرْضِها فيُظهِرُها داعرةً عاهرةً خبيثةً، وهذا لو سَلِمْتَ يا صاحبها من مخالب الضباع تمزق أحشاءك بسم الله والله أكبر!
عندما يصِلُ المجتَمَعُ إلى هذا المستوى من الدناءة، وعندما يلصِقُ دناءته في الدين فيجعلها غيرةً وحَمِيَةً ومروءةً ورجولةً، فإنه حينها مستحق لوالي السوء يسومه العذاب وقبيح الفعال.. كيف لا وقد سحق أجمل ما يميز الإنسانية؟
وهل أجمل من الفكرة مائِزًا بين الإنسان و(اللا) إنسان؟
إن كُنَّا قد عشنا أكذوبة (الميل مع الدليل)، وإن كُنَّا قد اسْتُخْرِفنا بأننا ننتمي إلى مدرسة التعدُّدِية وحُرِّيَة الرأي، فالوقت اليوم قد حان لتصحيح المعادلة وقلب الأكذوبة إلى حقيقة وواقع، والاستخراف إلى تعقل وحكمة، فلست أنت ولست أنا من يقرر وقد فاض الكتاب العزيز ونضحت عن العترة الطاهرة نصوص ونصوص تؤصل لاحترام العقل وتقدير الفكرة وإعذار المخطئ مادامه يبحث بصدق، كما وأن التكثر الصريح في الثقلين قد حسم الموقف لصالح التعدُّدية الثقافية والفكرية، وجعل التقوى ميزانًا وحاكمًا (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)، بل وقبل النص ما كانت الإنسانية لتستقيم إلا بأصلي الفكر والتعدُّدية، وقد يكون الأمر محسومًا باكرًا لو أننا نقف قليلًا عند قوله تعالى (لِتَعَارَفُوا)، فالمعرفة ليست إلا نتيجة للانفتاح على ثقافة الآخر وعلومه ومبانيه وما نحو ذلك، كما وأن الآية الكريمة أرجعت المعرفة المطلوبة إلى التقوى، وجعلت هذه الأخيرة ميزانًا للإنسان عند الله تعالى.
هناك نظرية يبدو لي، بل أراها نظرية تكوينية، وهي رجوع النتائج في تحققها دائمًا وأبدًا لأحد أمرين:
الأول: التطارد بين القوى:
بمعنى أنه لا وجود لألف إلا بعدم ضده، ومثال ذلك اللون على الجسم، فسطح الطاولة لا يمكن إلا أن يكون أحد الألوان، ومحال أن يكون أزرق وأخضر في نفس الوقت ومن نفس الجهة.
الثاني: التزاوج بين القوى:
ومثاله الجنين في رحم الأم، ومثال آخر الماء بعد اندماج الأكسجين والهيدروجين بنسب معينة، والحالة هنا إنما هي إنتاج مع المحافظة والإبقاء على روح الاستقلالية وجوهرها، فالرجل يبقى رجل والمرأة تبقى إمرأة، ويضاف لكل منهما عنوان جديد بعد خلق الولد منهما، فالأبوة للرجل والأمومة للمرأة.
يظهر أن عقلية التطارد غالبة في مجتمعنا، وأن نظرية إما أنا وإلا فالطوفان باتت وأصبحت محورًا ثقافيًا حتى بين الآباء والأبناء، ولذلك فإن البقاء اليوم ليس للأقوى، ولكنه للأكثر وقاحة وجرأة على انتهاك القيم ومحارمها، وقد طغت هذه السادية المعنوية حتى تحولت إلى استراتيجية علمية تُدَوَّنُ وتُدَرَّسُ، وأما من يتقنها ويجيد فنونها فهو في نظر المجتمع صاحب الحنكة والفطنة والكياسة!
تعالوا لنتخيل مجتمعًا يبحث عن المزاوجة بين الأفكار وخلق الجديد منها، وهذا ممكن جدًا شريطة الاستعداد المجتمعي للتخلي عن (الأنا) من جهة والتحفز للتنازل انتصارًا للخلق الفكري الجديد من جهة أخرى، غير أن هذا ممتنع جدًا ما لم نراجع أحكامنا على الأمور والتي عادة ما نحصرها في عنوان (التناقض)، والحال أنها ليست كذلك، بل هي على النقيض تمامًا..
أهمس هنا في آذان واعية:
كم من المتصارعين في مجتمعنا التقوا للحوار والبحث في ما بينهم عن منطلقات مشتركة؟
بضرس قاطع أقول: قليل جدًا، بل نادر جدًا، فالضرب والتصارع والتلاسن والتنازع غالبًا ما يكون عن بعد ومن خلف الشاشات أو الأوراق من صحف وما شابه، وما إن تقترح على طرف أن يزور الآخر ويبرز عنده وجهة نظره، إلا وقال: لا فائدة.. هؤلاء لا يفهمون ولا يريدون الآخر أصلًا!!
وبذلك فإنه لا بديل عن الضرب من بعيد وتحوله إلى إنجاز في سوح الجهاد..
وعادت الفكرة لترتعد خوفًا من ألسنة (العظماء) من سياسويين ودينويين، الذين لا يتورعون عن الزنا بها حفاظًا على (الإنسانية) ووحدة الحق!!!
14 يونيه 2014
No comments:
Post a Comment