خِتَامٌ وانْطِلَاقٌ
أنقل السؤالين من الخاتمة إلى الصدر:
بأيِّ عينٍ وثقافةٍ ونَفْسِيَّةٍ ورُوحيَّةٍ نقرأ كتابَ الله المجيد وأحاديثَ المعصومين (عليهم السلام)؟
هل نحن على الطريق الصحيح أو أنَّنا في حاجة إلى مراجعات عاجلة وجادَّة جِدًّا؟
لم أجد في الأطروحة الشيوعية بعدًا إصلاحيًا ينطلق من الذات إلى الخارج، ولكِنَّ الذي وقفت عليه هو اتِّهام الوضع العام، والتَّوجُّه لتكسيره من أجل وضع جديد يتساوى فيه الجميع، ولأنَّنا نُدرِك تمامًا بأنَّ المعلول لن يتخلف عن علَّته، فالمتحصَّل هو العلم بحتميَّة تكرُّر الخلل مع كل وضع جديد تسعى النظريَّة الشيوعيَّة لخلقه، وبذلك فإنَّ الصراع لن ينتهي، ولن يتولد صراعٌ إلَّا من رحِمِ صِراعٍ غيره، ولن يكون هذا الغير إلى رحمًا لآخر، وهكذا يستمرُّ طحنُ الإنسان للإنسان باسم الحرية والسلام وإشاعة الأمن والأمان.
ثمَّ إنَّني لم أجد في النظرية الشيوعيَّة توجيهًا للتغيير بغير القوَّة ونشر ثقافتها، ومعها الترويج لاتهام من لا يتَّفق معها إمَّا بالعمالة أو التخاذل، فهي تحصر الحقَّ في رؤاها، وتوجه لتجاوز المخالف بالسحقِّ المعنوي تارة والمادي أخرى، وللقارئ الكريم مراجعة الحلقات السابقة للوقوف على ما أُلخِّصه هنا.
ملكَ الحِراكُ الشيوعيُّ شريحة من المجتمع العالمي من خلال فتح أبواب العلم والمعرفة أمامها في الدولة السوفيتيَّة السابقة، ودخل من خلالها ومن خلال التركيز على المطبوعات والتأسيسات الحزبية إلى العمق في المجتمعي في كثير من الدول، وخصوصًا دول الشرق، وعندما ظهر له الخطر الذي يواجهه على يد الديموقراطية الرأسمالية، وذلك منذ خمسينيات القرن المنصرم وحتى سبعينياته، فإنَّه اتَّخذ –في ما يبدو لي- قرارًا بالتراجع تراجعًا تكتيكيًا، يقترن بتقديم قوى شعبية أخرى بعد تغذيتها بثقافة القوة والانتزاع، ولم يكن ذلك التثقيف اقتحاميًّا أرعنًا، ولكِنَّه كان استراتيجيًّا مدروسًا، عمِل على اختزال الرؤى والنظريات الفكرية لتلك القوى الشعبية المجتمعية في نظرية القوة والانتزاع.
لا شكَّ ولا زيادة كلامٍ في أهمِّية القوة وضرورة التسلُّح، ولهذه المسألة البنائية مُصَدِّقات كثيرة في النص الشرعي، ولكِنَّه ليس من المقوِّمات للثَّقافة الإسلامية.
نعم، في الإسلام قِوامة للقوة على مستوى المفهوم الكلِّي (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ)، ثُمَّ يذكر الداخل على الأصل، فيقول (وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ)، وأمَّا الغاية فهي (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ)، ولكِنَّ هذه الغاية متوقِّفة على تحقُّق الكلمة التوافقية بين المؤمنين، وإلَّا فالقوة ورباط الخيل لا معنى له، وهذا ما يُفهم من قوله تعالى (وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)، فالتنازع وتراجع الصفاء الداخلي متبوعة بالفشل وذهاب الريح لا محالة، وهذا الأخير يعني خِفَّة الوزن والاعتبار في أعين الآخرين.
ما أراه، هو أنَّ آية (وَلاَ تَنَازَعُواْ) لها الحاكميَّة العلميَّة على (وَأَعِدُّواْ) ومثيلاتها، ثمَّ إنَّ التحقُّق يعني قيام الحِكمة في عقل المجتمع المؤمن (تُرْهِبُونَ)، وليس كما في النظرية الشيوعيَّة، فتأمَّل جيِّدًا.
أجِدُني مدفوعًا مضطرًا للتصريح بأنَّني لا أنفي ضرورة التوفُّر على قوةٍ رادعةٍ قادرةٍ، فهذا عامل من عوامل القيام لأيِّ حضارة مدنيَّة عاقلة، وأُلفِتُ إلى أنَّ منشأ هذا الدفع والاضطرار هو تراجع القدرة على مخاطبة الكثير من العقليات المبنية على نظريات القبضة والضرب وكسر العظم وطحنه وسحق الجماجم والانتزاع وما نحوها، فهي –كما أرى- تخشى كثيرًا من أيِّ دعوة للهدوء والدفع بالَّتي هي أحسن؛ والسبب أنَّ مبتنياتها أصبحت هويَّة عقائديَّة، ترى المساس بها مساسًا بالإسلام من رأس!
تُحمِّل النظريَّةُ الشيوعيَّة الإنسانَ فردًا ومجتمعًا كامل مسؤولية التغيير، وتجيز له كافة الوسائل مُبرَّرةً بالغاية، ولذلك فالعقلية القائمة على أسسها لا تتمكن من الخروج عن دائرة المعادلات الواضحة، ولا تجد لنفسها مفرًّا من إنكار كل مقدَّمة تفضي للنظر في معادلات خارجية، والمؤمنون وإن قامت عقيدتهم على حقيقة المعادلات الكامنة وراء الظهور الملحوظ، إلَّا أنَّ المتأثرين منهم بالنظرية الشيوعية يتعبَّدون بتأويل تلك المعادلات لمصلحة تحمُّل كامل مسؤولية التغيير، وهنا مكمنٌ من مكامن التعقيد في مشكلة البحث.
أعتقد بأنَّ رؤى الكثير من المتصدِّين للتنظير من المسلمين وبمختلف مستوياتهم متأثِّرة في العمق بالطرحة الشيوعية، وأعتقد بأنَّ المزج الذي تمارسه تلك العقليات بين مسائل النظرية الشيوعية من جهة والنص الشرعي من جهة أخرى قد وصل إلى النخاع الثقافي والفكري، وقد كان نتاج ذلك انعطافة تاريخية في البعد عن معنويات الإسلام وعلميَّته التي كان من المنتظر أن تكون راية الدعوة الأوحدية إلى الحركة التغييرية الإلهية على يد الإمام القائد المهدي المنتظر (أرواحنا فداه).
أدعو في ختام هذه السلسلة إلى وقفة مراجعة واعية، ولست أنتظر موافقة أو معارضة، ففي نهاية المطاف (بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)، ووظيفة كل واحد منَّا التقدم بطرح ما يحمل من فكر مع تجنُّب الإساءة للآخر، وهذا ما تحرَّيتُ إصابته على مدى ثلاثين حلقة، وهي حلقات قصدتُّها مفاتيح يستفيدها القارئ في مشوار بحثه، فمقام المقالات لا يناسبه الإسهاب والتفصيل، وإن وفقني المولى تبارك ذكره لجمعها في كتاب، فمن المفروغ منه أنَّني سوف أقوم بإعادة صياغتها بما يناسب موازين البحث العلمي.
وكيف كان، فهذه عناوين موزَّعة بين يدي القارئ، ورجائي أن أكون قد وفِّقت لإثارة شيء من دفائن العقول ولمعات النظر، ويبقى أنَّ:
نَقْدُ الثقَافَةِ أكْثَرُ مشَقَّةً مِنْ نَحْتِ الجِبالِ قُصُورًا للسَلَاطِين..
السيد محمد علي العلوي
23/5/2015
No comments:
Post a Comment