قد تكون الاطلالة في الصورة أدناه، هي الاطلالة الأجمل-رغم تواضعها-بعد جمال وروعة النظر لبيت الله الحرام في مكة المكرمة.
أما ما عدا ذلك، فمكة مؤخرا ليست سوى "موقع عمل في غاية الضخامة" يمتلأ بالآلات والحجارة ومواد البناء والعمّال الذين يدوسون أرض الحرم الطاهر بأحذيتهم!
في أرض مكة، أقدس البقاع على الاطلاق، حيث نزل الوحي على قلب محمد صلى الله عليه وآله، سيسلبك هدير الآلات وحركة العمال وزعيق سدنة الكعبة، كل سكينة كنت تحلم بأن تحياها هناك، لو لا أن الرحمة الإلهية تغمرك عميقا جدا جدا، أمام ذلك البيت المهيب المكلل بالسواد.
ستقف لتصلي ليدفعك عمال النظافة، حين ينقّض العشرات منهم في هبّة رجل واحد، وهم يزعقون "هيا هيا يا حاج.. تنظيف" وسترى التمييز في أبشع صوره هناك، رغم أنّ الله شاء لأن تكون الكعبة "مكان" لأبهى صور المساواة بين المسلمين، بين الأبيض والأسود، والعربي والأعجمي، والفقير والغني، والحاكم والمحكوم، عبر رداء أبيض يلتحف به جميع الحجاج، ومناسك واحدة يمر عبرها كل المسلمين المتوجهين لحرمه، المشتاقين لقربه.
ستجد أن العمّال الذين انتُخبوا لرعاية نظافة بيت الله، لا يُجيدون الابتسام الا من رحم ربي، بل الأدهى والأمّر أنّ كثيرا منهم لا يُجيد حتى الكلام!! وبدل أن ينبّه الحاج للابتعاد عن طريقه أثناء التنظيف عبر محادثته، ستجده يركل الرجل الآسيوي الفقير-دونا عن الخليجي مثلا-الذي اتخذ من بيت الله مكانا آمنا يأوي اليه!
سينتصب رجل ذا لحية برتقالية، وثوب مُقصّر وبشت، تماما في منتصف طريق طواف المسلمين اللاهجين بذكر الله، ليقتنص أي مسلم منهم وضع يده على الكعبة خاشعا، ليُذكّره أنّ ربت الكعبة على يده "شرك ما أنزل الله به من سلطان" وليدعو الله القريب منه، الماسك بباب رحمته هو دونا عن غيره، بالهداية لك بينما ينظر لوجهك شَزرًا، في حالة من الوصاية الكاملة على نوايا المسلمين، ودينهم وحبهم واخلاصهم!
في تلك البقاع الروحانية، لا يبحث الانسان فيها عن الله، لكنه يبحث عن نفسه قريبا من خالقه، فيود لو أن الساعات تطاولت وهو واقف ينظر لبيت الله، ويود لو أن الليل ما له فجر وهو ساجد في محراب العبادة، ويود لو أنه يرى الدين الذي آمن به متجسدا كلما حانت منه التفاتة، الا أنّ الواقع المر سينبؤك أن بيننا بشرا، يظنون أنهم حُجّاب أبواب الله، المكلّفين بفتحها في ساعات محددة وغلقها في ساعات أخرى، بل هم حجّاب أبواب الله التي لا تُفتح الا لمن وافق مقاييسهم البغيضة، فلبس كما شاءوا له أن يلبس، وصلى كما شاؤوا له أن يصلي، وذكر الله كما شاؤوا له أن يذكر الله، فالدّين عندهم ساحة حرب مع النّفس وان صلُحت، ومع الآخرين وان نطقوا بالشهادتين، هم الموكّلون بقبول ورفض اسلامك وانتمائك، وهم الموكّلون بقبول ورفض ايمانك وخشوعك، لذلك فبدل أن تكون الكعبة مكانا يدعو للحب والألفة والسلام، تستحيل الكعبة وعبر مكبرات صوت الصلاة عمود الدين، لمكان يدعو لقتل الآخر وسحقه ولعنه والدعاء عليه، وان كان الآخر عابدا لله مخلصا لدينه!
لا يقتصر وجود أولئك الحجّاب، على أبواب الله عند الكعبة المشرفة، بل سيلحقون بك لمدينة رسول الله صلى الله عليه وآله، حيث تُهان مساواة الله لعباده، حين تُصفّ النساء وفق البلد الذي جئن منه بحجة التنظيم، فيكون للآسيويات وقت، وللعربيات والخليجيات وقت آخر، لتدخلن عند روضة الرسول صلى الله عليه وآله، ولتدعين الله بخشوع تحدده أولئك النساء-سدنة قبر رسول الله-اللاتي لا يُعرف أنّ لهن ابتسامة الا من رحم ربي! ولو تمعنت قليلا، لوجدت أولئك الحجّاب هنا! على أرضك وفي مجتمعك وبين بيوتات حيك! يقتنصون نواياك ويحكمون على ظاهر أفعالك بالقفز نحو باطنها! وكأن الله قد منحهم الاطلاع على خائنة الأعين وما تخفي الصدور، حتى أنهم يعلنون جزما أن فلان بقوله ذاك، وعلان بفعله ذاك انما يريد وينوي ومع سبق الإصرار والترصد أن يهين مرجعا، أو أن يشيع فاحشة، أو أن يدفن في التراب معروفا!!
أتذكر أن صفحات الفيس بوك يوما، مُلئت قذفا وشتما لأحد خدام الحسين "ع" لأنه اختار أسلوبا يخصه في رثاء امامه! ولعمري أن رقم هاتف هذا الانسان معروف ومتوفر، وكان الاحرى بمن اتخذ من الفيس بوك وسيلة للقذف والتشهير أن يدير رقم هاتفه ليناقشه فيما وجده أمرا منكرا!
ان بيننا بشرا، يعتقدون أنهم معصومون من الخطأ، منزّهون عن الزلل، كاملون لا يمكن أن تنقص أفعالهم ولا أن تختلط نواياهم، واجبهم في الحياة أن يكونوا الأوصياء على كل شاردة وواردة للآخرين، وحين تتملكك الجرأة لتعلن أمامهم كم أنهم مخطئون، فسينالك ما ينالك من تشهير.
من منا معصوم من الخطأ؟ ومن منا يمتلك الفهم الكامل للدين والحياة؟ كلنا معرضون لنخطأ بنية أن نصيب، وكلنا نمتلك فهما ناقصا لجانب من جوانب الحياة، انما نحتاج لبعضنا بعضا لتكتمل الصورة أمامنا، فنفهم الفهم الأشمل بقدر الإمكان، ونمارس العمل الأصلح بقدر الإمكان، ما منا غني عن التشاور والتناصح، مهما بلغ به الفهم والعلم، فهو محتاج ليستمع لنقد ونصح ومشورة الآخر، كما أن الآخر محتاج ليسمع نقده ونصحه ومشورته، والطريق الأفضل لذلك هو أن يمتلك كل واحد منا القدرة على الاصغاء، والقدرة على أن يظن بصاحبه خيرا وهو ينصحه، والتواضع ليعي كل واحد منا أن بابا من أبواب الفهم والوعي قد تُفتح له على يد هذا الصاحب، لنعي عميقا جدا أن أبواب الله لا حجّاب عليها..!
30 مايو 2015
No comments:
Post a Comment