ترد في العديد من الكتب العلميّة بعض الكلمات المنفّرة، توحي وأنّ الكاتب وصل إلى الحقّ الذي لا يناقش، فيضطر لتسخيف آراء الآخرين أو ضربها، بل ضربِهم وتسخيف آرائهم أحيانًا، سواءٌ كانوا من السابقين أو المعاصرين أو اللاحقين، حيث أنّه وحده من وصل إلى الحق، وربّما من شاركه الرأي، أمّا الآخرون فلم يروا الحقّ ولم يعرفوا من العلم شيئا.
الأسوء من ذلك أنْ تأتي هذه الكلمات في بعض الكتب الدّراسية، وممّن هم من أصحاب الفضل والعلم والخُلق الحسن، فتجد أنّها تأخذ مأخذها من الطّالب، خصوصًا إذا كانت طريقة التّدريس لا تتجاوز الإلقاء والتّلقي، فإنّ هذه العبارات والأوصاف مع تكرارها تركز في ذهن الطّالب، فتصبح عاديّةً عنده ولا إشكال فيها، ممّا يجعله جاهزًا لاستعمال نفس الخطّ والمنهج.
طبعًا الأمرُ ليس متوقّفًا على الكتابة فقط، بل هو يتعدّى ذلك بعد الاعتياد عليه، فيُصبح سلوكًا يمارسه الفرد في حياته بشكلٍ طبيعيّ، فلا يرى الحقّ إلا فيما يقول وما يقرّ به، وأمّا الآخر فلا يملك إلا الباطل ما دام يخالف رأيه. وانعكاسات ذلك واضحةٌ على المجتمع بشكلٍ عام، وبالأخصّ طلبة العلوم اللّذين اعتمدوا تقنيّة التّلقي، وعدم النّقد والتّفكير، فتراهم يجمدون على ما تلقّوه، ومنه ما ذكرناه من عبارات وكلمات تتناثر من هنا وهناك، وأمثلتها كثيرة، لا داعي لذكرها الآن.
أظنّ أنّ هؤلاء لم ينتبهوا لأمرين على أقلّ تقدير، وهما:
الأول: أنّ ما وصلوا إليه لا يتجاوز كونه جهدًا بشريًّا، بذلوه للوصول إلى العلم المطابق للواقع، وما داموا بشرًا فإنّهم قد يخطئون كما يخطئ غيرهم.
الثاني: أنّ مثل هذه العبارات تضع الحواجز بين علومهم وبين طالب العلم الحقيقيّ الواعي، فإنّه على الأغلب لن يقبل بها لبعدها عن الطّرح العلميّ والأخلاقيّ المطلوب منه عادة.
لذلك فإنّ علينا جميعًا عدم إغفال هذه الأمور الدّقيقة، والتي تسبّب الكوارث العلميّة والاجتماعيّة الكبيرة والكثيرة، ومن أمثلة ذلك على المستوى الواسع، هو ما نراه من بعض الحزبيّات الضّيقة، التي ترى الحقّ عندها دون غيرها، وهي مسألة واضحة، وأنا إذ لا أنسب السّبب لهذه العبارات وحدها، إلا أنّني أرى أنّ لها دورًا بارزًا، خصوصًا في واقعنا الإسلامي، ومنطلقاتها ليست مختلفةً كثيرًا إنْ لم تكن واحدة.
إشارةٌ: من أهمّ ما أنتجته هذه المنهجيّة (إنْ صحّ وصفها بالمنهجيّة) هو عدم التّمكن من مناقشة آراء بعض العلماء السّابقين، وليس ذلك إلا لأنّه رأي فلان، وفلان هذا جعله آخرون لاحقون (خطًّا أحمر) لا يمكن المساس به وبآرائه، حتّى وإنْ لم يدّعِ هو نفسه الحق، لكنْ هناك من طوّقه بسياجٍ لا يمكن المساس به.
محمود سهلان
4 شبعان 1436 هـ
No comments:
Post a Comment