Saturday, June 25, 2016

تراجع // إيمان الحبيشي






تحدثتُ في مقال سابق عن أن التغيير سنة كونية لا مناص منها، وأن مقاومة التغيير أيضا طبيعة بشرية واجتماعية تخف حدتها مع ارتفاع شعور الفرد والمجتمع بضرورة إحداث "تغيير" ما في جانب من جوانب الحياة. وكذلك ذكرتُ أن مقاومة التغيير ليست دائمًا وفي كل مراحلها وبكل أوجهها عملية "سلبية" بل أن لها جوانبها وأوجهها الإيجابية والضرورية أيضًا. "¹"

في كل مرحلة من مراحل المجتمع، هناك أفراد يطمحون للتغيير، مدركين أو غير مدركين لأهميته، إذ يبادر البعض للمطالبة بالتغيير من منطلق شخصي أو عقائدي أو اجتماعي أو إنساني، وليس بالضرورة أن تكون تلك المطالبة من الوعي الكامل بها، أحيانا يكون الدافع شخصيًا إنطلاقا من أذىً لحق بفرد وظنَّ أو تمنى أنَّ إحداث تغيير ما بطريقة ما، أمرٌ قد يحمي آخرين من الأذى الذي لحق به، وقد يكون محقًا كما أنه قد يكون مخطئًا.

وبغض النظر عن الدوافع التي دعت البعض ليس فقط لأن يطمح للتغيير في مجتمعه، أو ليطالب بحدوث ذلك التغيير بل ليبادر لإحداثه حقا، فإن هناك ثمارًا يرجوا أن يقطفها من خلال تلك المبادرة، قد تكون تلك الثمار هي خلق عوامل قوة في المجتمع أو التخلص من عوامل ضعف فيه.

وهو ما يجعل الحاجة لهؤلاء الطامحين للتغيير، والمبادرين إليه حاجة ملحة لكل مجتمع، إذ أن حالة الشد والجذب لإقناع الأفراد والمجتمع بفكرة جديدة، أو بقراءة جديدة لفكرة موجودة أصلا في المجتمع، هو عامل تغيير حتمي بغض النظر إن قَبَلَ ذلك المجتمع بتلك الفكرة وقرائتها المستحدثة، أو حتى إن رفض ذلك مستشعرا بعض جوانب الضعف ليعيد تموضع تلك الفكرة في قيمه وعاداته وسلوكه ووجدانه مما قد يدفع نحو المزيد من التقدم الإجتماعي لجانب من جوانب الحياة ربما عبر التمسك بتلك الفكرة لا عبر تغييرها.

إلا أن الكثير من الطامحين للتغيير والمبادرين اليه قد يصطدمون بحجر عثرة "جديد" لم تعهده المجتمعات سابقا أو ربما كان له وجود هادئ محدود، لم يكن يُستشعَر بحجم ما استُشعِر ويُستشعر حجر العثرة المعروف جدا، والذي طال ويطول الحديث عنه والمتمثل بالفئة الرافضة لأي تغيير بغض النظر عن إيجابيته وسلبيته، إما بسبب تجمد تفكيرها أو بسبب مصالح تراها وتريد الحفاظ عليها أو ربما لأسباب أخرى.

أعتقد أن الكثير من الطامحين للتغيير، وحين يقفون مهاجمين لمظاهر  أو أفكار أو قيم سلبية للعمل على تغيير ما يحيطها من قداسة أو استسلام، فإنهم يضطرون للتراجع ليس لمواقع إنطلاقهم فحسب بل لمواقع الدفاع!!

وذلك ليس لأن فئة من يرفض التغيير المطلق قد شمَّرت عن ساعديها ووقفت بوجوههم، بل لبروز حجر العثرة الجديد والذي يحرِف بجبروت طريق التغيير الإيجابي الذي طمح له هؤلاء المبادرون، متجاوزا حدوده الضرورية والمطلوبة، صادمًا المجتمع بمطالبته بتغيير كامل جذري وربما تغيير مستنسِخ لتجارب آخرين، لا يكون الا عبر انتزاع كل شئ وإلباس المجتمع والأفراد حلة فكرية وعقائدية وإجتماعية وووو غريبة عليه ولا تحترم هويته.


فجأة قد يجد أولئك الطامحون أنفسهم يقفون عند مفترق طرق، فلا هم راضون ببعض السلوكيات والقيم والظواهر والقراءات التي إعتادها المجتمع مدركين ضرورة إحداث تغيير جزئي في جانب ما لدفع المجتمع بإتجاه الأمام دون أن يفلت طريقه من الخلف!
ولا هم قانعون بمطالبة آخرين بإنتزاع مجتمعهم من تاريخه وهويته وعاداته وعقائده "رغم وجود أخطاء لا بد من علاجها" ليُقذَف في هوية فضفاضة على أمل أن تحمله للضفة الأخرى منقطعا عن تاريخه وحضارته وهويته!


فحين يطالب إنسان ما بتغيير جزئي ما، يتحين آخرين الفرصة لنزع كل جمال موجود ملحوقا بجوانب القبح! فيقف مشدوها ليُذكِّر الجميع بجانب الجمال وجوانب القوة وضرورة تعزيزها لا التخلي عنها بحجة وجود جوانب الضعف والقبح، فالأمر لا يتعدى تقليم بعض الشطحات ورفع بعض الجدران!!

فجأة سيجد هذا الإنسان الطامح للتغيير نفسه مجرد "رجعي" متخلف لا يريد لمجتمعه التقدم، مدفون تحت أطنان التقديس مقيد بقيود الدين والعادات والأعراف البالية!!
حقا .. نحن نعيش في زمن العجائب!

فكيف يمكن للطامحين بالتغيير، المدركين لأهميته، الحاملين لفكرة ذات أصالة ربما أصابها شئ من الجمود أو تساقطت عليها أطنان من الغبار على مدى الأزمنة بأن يرفعوا تلك الأطنان ويعيدوا لتلك الفكرة حيويتها! حين يجدون أنفسهم مسجونين بين قضبان الشرح والتوضيح والتمسك بها خائفين من فكرة تهذيبها وغسلها وتدويرها خوفا من المطالبين بقذفها بعيدا واستنساخ بديل عنها غريب يختلف عن عقيدة وقيم وحضارة وتاريخ هذا المجتمع!

أجدني محتارة اليوم وعند كل رغبة لي بطرق باب قديم أعيانا حمله، ذلك أنني أرى جيدا أولئك المتربصين بذلك الباب، والذين قد يحملوا بعضٌ من كلمات الحق ليُسقطوا ذلك الباب على رؤوسنا ويضعوا مكانه بابا آخر بمقاييس أخرى يضطرون معها إما لتشييد جدران أخرى أو بهدم جدران أخرى كاشفين عورات لا يهمهم سترها!!

اليوم لسنا فقراء في الشعور بأهمية التغيير، كما أننا لسنا فقراء بوجود المبادرين والطامحين للتغيير، ولسنا عاجزين عن التعامل مع تلك الفئة المتحجرة التي ترفض كل عملية تغيير. لكننا ابتلينا بفئة تمد بصرها بعيدا جدا، لتُصاب بحالة إنبهار-ربما مبررة-بمجتمعات لها حضارتها وتاريخها ونضالاتها، أوصلتها بحسب هويتها لما وصلت إليه، ثم تعيد البصر مجددا نحونا لترمقنا بتلك النظرة الحادة التي كرهت كل ما نحن عليه، ولم تعد تجد ما يمكن القبول به، فنهضت مزمجرة لتطالبنا بأن ننزع أنفسنا وعقولنا وقلوبنا لنسلِّمها لعملية غسيل بل لعملية زرع مجتمع جديد لا يمكن أن يكون القبول به أمرا إيجابيا ذلك أن التغيير الإيجابي الحقيقي إنما هو التغيير النابع عن حاجة لا ذلك التغيير النابع عن رغبة!

إن المبادرين لإحداث التغيير اليوم، مطالبين بالحفاظ على جوانب القوة، وبالتحلي بالقوة لإبراز تلك الجوانب دون خوف أو وجل، كما أنه يقع على عاتقهم ضرورة إستحداث موقع جديد يدافع ويهاجم في ذات الوقت ممسكا بزمام الأمور، دون خجل من صفة قد يلحقها به المطالبون بالاستنساخ من قبيل الرجعية والتخلف.

ان المسؤولية الواقعة على عاتقهم صارت مضاعفة جدا، فهؤلاء لن يقبلهم السابقون لأنهم يطمحون لتغيير لا يريدونه، كما أنهم لن يقبلهم اللاحقون لأنهم يرفضون التخلي تماما عن مجتمعهم وإنما كل ما يطمحون إليه هو أن يكونوا "هم" لكن على نحو "أفضل" لا أن يكونوا "هم بعلاتهم" ولا "هم" كما لم يعرفوا أنفسهم يوما.
ويبدو لي أن طريقهم طويل لكنه في خاتمته يطلّ على النور ..
---------
1) مقالي الأخير بعنوان "التغيير; عملية مشروعة"


No comments:

Post a Comment