Saturday, August 29, 2015

الأحكامُ المسبقة، وتمزيق المجتمع // محمود سهلان






في لقاءٍ سريعٍ مع أحد الأخوة، تبادلنا أطراف الحديث، وانطلقنا في الكلام حول الدّراسة في الحوزات العلميّة، إذ عرَف حديثًا أنّني طالب علوم دينية بإحدى الحوزات المباركة في البلاد، وكان الحديث غالبًا حول هموم الطّلاب ومعاناتهم، وأسدى لي بعض النّصائح، وله جزيل الشكر.
إلا أنّه فاجئني بالحديث حول اختياري للانضمام للحوزة التي أنتسب إليها، ووصفها ببعض الأوصاف موجّهًا النّقد لها، وتحدّث عن بعض الحوزات الأخرى كذلك، ذامًّا لبعضها، ومادحًا للبعض الآخر، وما كان منّي إلا الردّ الهادئ بكلِّ أريحية، موضحًا الأمر له.
الموقف الذي وقفه هذا الأخ أو غيره، تجاه الحوزة أو أيّ جهةٍ أخرى، كان سلبيًّا جدًّا دونَ أيّ وجه حقّ، فالحكم على أيّ جهةٍ ينبغي أنْ يكون خاليًا من الأحكام المسبقة، أو الاتّهام العاري عن الدليل، أو توجيه الكلام المحتاج للحضور والمشاهدة عن قرب دون التّوفر على ذلك!
نعاني حقيقةً من مثل هذا النوع من إطلاق الأحكام، دون اعتبارٍ للخالق تعالى، فليس مباحًا لأيّ أحدٍ الحكم على المؤمنين هكذا دون وجهٍ معتبر، والاكتفاء بالاعتماد على أحكامٍ سابقةٍ مغلفة، أو بانتساب من نريد وصفَه أو نقدَه لجهةٍ معيّنة، أو ارتباط الجهة المقصودة بشخصٍ أو جهةٍ ما.
نحتاج لأن نكون أكثر ورعًا وتقوى في مثل هذه الأمور، فإنّ مجتمعنا يضجّ بهذا النوع من الأحكام، ولك أنْ تتخيّل كم المتاعب التي من الممكن أنْ تحقّقها مثل هذه الأحكام، فلو حملها فردٌ في صدره لكان لها الأثر، ولو نقله لشخصٍ أو شخصين اتّسع أكثر، فماذا لو تمّ تناقل مثل هذه النّظرات بكثرة، والحال هي هذه، فكم من المشاكل والأحقاد ستُخلق وتَظهر بمجتمعاتنا، وكم من التحزّبات ستنضج، وكم شبرًا ستضيف لحالات الانقسام والانشقاق فيما بين المؤمنين؟!
تعالوا لنكون موضوعيين، لا نحكم بشيءٍ حتّى نُحيط بأطرافه جيدًا، فما لم نتمكّن من تشخيص الموضوع فلنبقَ بعيدًا عن إطلاق أيّ حكم، فلا ينبغي للمؤمن أنْ يحكم على أيّ موضوع، وعلى أيّ شخصٍ أو جهة، دون أنْ يحيط بالموضوع بشكلٍ جيّد، حتّى يتمكّن من النسبة والحكم، وينبغي له أنْ يكون أكثر ورعًا عندما ينطلق للحكم على أيّ مؤمن، فإنّ حرمته ليست بالأمر الهيّن الذي يستصغره مؤمنٌ عاقلٌ..
ثمّ أنّه لو كان لك حكمًا معينًا على شخصٍ ما، أو جهةٍ ما، أو أيّ موضوع، لا يعني أنْ يظلّ الرأي كذلك مدى الحياة، فلو تغاضينا عن صحّة رأيك الأوّل من عدمها، فلا يعني ذلك أنّ الطريقَ مغلقٌ أمامك لأن تعيدَ النّظر، فالتغيير جارٍ في الكون في كلّ لحظةٍ بلا هوادة، وتغيير الآراء والأحكام ليس بمستثنى من هذه السنّة الكونيّة الواضحة، لذلك فكلّنا نحتاج لأنْ نسعى للتحقّق مرّة ومرّتين وثلاث، عندما يكون الحكم قد أطلقناه على أحدِ المؤمنين.
إذا أردنا مراعاة الحالة العامة للمجتمع المؤمن، والحفاظ عليه متماسكًا قويًا، ينبغي لنا الابتعاد عن إطلاق هذه الأحكام المقززة والمنفّرة، والبعيدة عن الموضوعية تمامًا.



١٢ ذو القعدة ١٤٣٦ هـ

بوابة الحياة // إيمان الحبيشي




من منا يتوه عن قهرية حقيقة الموت؟
من منا لم يُبتلى بفقد عزيز؟
من منا لم يقرأ آيات الله المحكمات التي تصر وتؤكد وتذكر، بأن لنا جميعًا موعد شئناه أم أبيناه، موعد ستُبلى فيه عظامنا حين تفارق روحنا أجسادنا.

للموت حقيقتان لا مجال للشك فيهما، ورغم أن الإنسان مقر مستسلم عاجز أمامهما إلا أنه لا زال يفر من الموت!
يقول رب الأرباب “قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ۖ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
نفر أولًا من حقيقة وحتمية لقاءنا بالموت، فنهز رؤوسنا لنطرد منه فكرة أننا قد نموت بعد هنيئة أو بعد سنة أو بعدهما!
كما نحاول الفرار من حقيقة وحتمية فقدان أحبة لنا، قد يختارهم الله في موعدهم الذي لا يعرفه أحد سواه، لنبتلى بعد ذلك بوجع الفقد.
الفقد..
الوجه الآخر للموت، حقيقة تحدث لا محالة فإما أن تقتنصك تلك الحقيقة ليفقدك محبوك، أو تقتنص تلك الحقيقة حبيبًا لك لتفقده، ثم تتعلم عبر درس الفقدان القاسي ذاك، أن لا أحد على وجه هذه البسيطة باق! وأنّ الموت لا يستأذن الأحياء، فقد يفر من كهل يظنه أحبته يحتضر على فراشه، ليفغر فاهه ويبتلع شابًا سليمًا أثناء لهو أو لعب!
ندرك حقيقة الفقد لكنا تائهون عن حقيقة الموت، ذلك أننا نلمس أثر الفقد على نفوسنا ونفوس من حولنا، بينما يغيب الأموات عن إدراكنا ويصعب على حواسنا تتبع أحوالهم.
هل من الصعب أن يتخيل إنسان أثر فقدانه لمن يحب؟ هو يدرك وجع ذلك التخيل فيسرع رافعًا كفيه لله ويتمتم بكلمات الدعاء ليبعد شبح الفقد عن واقعه وما هو ببعيد!
لكن..
من منا يدرك حقيقة الموت؟
ليجرب أحدنا بأن يتحدث عن موته أمام أحبته، سينهره محبوه حتمًا وسيطردوا كابوس فقده ويعطلوا تفكيره وتفكيرهم عن حتمية وقوعه.
ليخبر أحدكم صاحبه بأنه قد كتب وصيته، سيضع الصاحب يده على قلبه وربما اندفع راكعًا ساجدًا خوفًا من “فال” كتابة صاحبه لوصيته!
يذكر السيد الطباطبائي بحسب نقل سمعته من الشيخ زمان حسناوي في سلسلة محاضرات يتحدث فيها عن المعاد* ، أنّ ذكر الموت وما بعده قد ورد في القرآن الكريم فيما يقارب ألفي آية!!
فيما يبدو أنه إصرار على “العلم” بما ينتظر الإنسان بعد عالم الدنيا، إنها حجة يلقيها الله على عباده، إنها رحمة إلهيه وإعداد رباني للبشر ليكونوا عالمين بحقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة وحقيقة وجودهم على هذه الأرض!
يُخيّل لنا أننا خُلقنا في تاريخ ميلادنا وأنه ينتظرنا يوم ليُختَم فيه وجودنا، إلا أن الواقع القرآني ومن خلال أحاديث العترة عليهم السلام يقول إن الأرواح خلقت قبل الأجساد بألفي عام – ليست سنواتنا البشرية قطعًا – وأن لا فناء لروحك أيها الإنسان!
فعن عبدالله ابن عبدالرحمان، عن الهيثم بن واقد، عن ميمون ابن عبدالله، عن الصادق، عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام، ثم أسكنها الهواء، فما تعارف منها ثم ائتلف ههنا، وما تناكر ثم اختلف ههنا)
إنها رحلة تكاملية ينتقل فيها الإنسان من عالم لآخر، ويعتبر وجودنا على الأرض أدنى مستويات العوالم التي ننتقل بينها ولذلك سميت “الدنيا” ومرجع ذلك بحسب بعض الآراء لكونه العالم الوحيد الذي يمتلك الإنسان فيه القدرة على الطاعة والمعصية فيختار معصية الله!
رحلة تبدأ من عوالم لا نتذكرها، كعالم الأرواح والأصلاب والذر وتنتهي بعوالم لا نستطيع إدراكها كعالم البرزخ والقيامة حتى عالم الخلود في جنة الله أو ناره “الآخرة”! اذ لا فناء لروح الإنسان.
ما أود الإشارة إليه ومناقشته من خلال هذا المقال، هو خطأ نظرتنا القاصرة لوجودنا، إذ أننا نختزله في وجود دنيوي لا نتذكر ما قبله ولا نستطيع بحواسنا أن ندرك ما بعده.
الخطأ في هذه النظرة في اعتقادي لا يقتصر على أننا نعيش هذه الدنيا بطولها وعرضها بحجة “أننا لن نعيش إلا مرة واحدة” فحسب بل يتجاوزها أحيانًا لدرجة أننا لا نقوى على أن نعيش أصلًا فضلًا عن أن نعد العدة لدنيا وآخرة!!
تحت وطأة الغفلة عن حقيقة الموت، كواقع ومرحلة مباغتة نحتاج أن نُعد أنفسنا ومن حولنا لها، قد تنسحب سنوات عمرنا من بين أيدينا دون أن نفكر فيما بعد هذه الدنيا ونحن نعتقد أن الموت بعيد عنا مهما تقدمنا في العمر! وكأنه مس من غرور يصيبنا كلما تمتعنا بالصحة والسعادة.
من آداب النوم المروية عن أهل البيت عليهم السلام أن تتوجه للنوم وكأنك لن تستيقظ منه! حتى أن هناك توصية بأن تبيت في فراشك وقد وضعت وصيتك تحت رأسك!**
من منا لا يعرف القاعدة الذهبية التي رواها الإمام علي عليه السلام: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا)
كلنا نعمل لدنيانا وكأنا نعيش أبدًا، فنفني الأعمار في النضال والكفاح من أجل واقع اقتصادي واجتماعي وسياسي أفضل لكن من منا يقف كل ليلة ليعمل أيضًا لآخرته وكأنه مفارق الدنيا غدًا؟
فيخشى الله حين يتوجه لمعصية، بل يخشى الله مما هو دون ذلك، فيخشى أن يبذّر مواردًا تحت يديه فيما لا يفيد الإنسان والمجتمع، ويخشى أن ينظر شذرًا لمؤمن أغضبه خشية أن تكون تلك النظرة الغاضبة آخر ذكراه، بل لربما غادرت قلبه أمراض الغيرة والحسد والحقد، لتحل محلها حالة من الرضا والقناعة فلا شيء يستحق أن يحيا إنسان وهو يبغض آخرًا وقد يغيب أحدهما فجأة من على أديم هذه الأرض، ولا شيء في الحياة يملكه آخر، يستحق أن يمد الإنسان بصره إليه وهو مغادره بعد حين! وفي ذات الوقت فقد يحث الخطى ليؤمن لعياله قوت أيام قد يغيب عنها سريعًا، وقد يمتلك العزم ليورثهم علمًا نافعًا ودارًا صالحة للسكنى وأوقاتًا جميلة يتذكرونها بعد رحيله.
متى ننظر بعين واسعة لحقيقة الحياة، لندرك أنها رحلة طويلة جدًا لا تبدأ مع صراخ الطفل حديث الولادة ولا تنتهي بسكنى القبر، وأن الموت محطة من محطات تلك الرحلة، حيث نترجل من قطار الدنيا لنركب قطار الآخرة، حيث الموت بوابة لحياة أبدية سرمدية تعتمد بشكل كامل على خطة العمل الدنيوية – الأخروية التي وضعناها واتبعناها ونحن في قطار الدنيا.
لا نحتاج لأن نتعلم كيف من الممكن أن ننظر لوجودنا في أبعاده المترامية الأطراف فحسب، ما أحوجنا لننقل تلك النظرة المتسعة الواعية لمن هم حولنا خصوصًا من التصق وجودهم بوجودنا فنكون مستعدين لملاقاة الموت بصدر رحب وثقة إيمانية وبشعور بالرضا لما خلفناه في هذه الدنيا، ونكون ويكونوا قادرين على مواجهة الحياة رغم فقد الأحبة الموجع واثقين مما ينتظرهم وينتظرنا لنوفر عليهم وعلينا جرعات ألم وصدمة شاء الله توفيرها علينا مما استغرق القرآن مئات الآيات التي تذكر الموت وما بعده ما بين ترغيب وترهيب وتوجيه.
لنعزز حقيقة أن الموت.. بوابة لحياة نأمل أن تكون في غاية اللذة.
همسة: الكثير من الدورات نلتحق بها لنتعلم فنون ومهارات الحياة لا بأس بين فينة وأخرى ان نلتحق بدورات تعلمنا فنون اجتياز مراحل الموت حتى نصل للسعادة الأبدية ***

29 أغسطس 2015

* يمكن متابعة سلسلة محاضرات الشيخ زمان حسناوي والتي ألقاها في شهر رمضان الأخير حول “المعاد” وهي سلسلة في غاية الروعة والأهمية والدقة عبر اليوتيوب .. الحلقة الاولى:
** المصدر كتاب مفاتيح الجنان للشيخ عباس القمي قسم آداب النوم.


*** يقدم الشيخ جعفر الستري الأمجدي دورات في غاية الروعة حول الحياة ما بعد الموت وبأسلوب سلس وممتع ومفيد.. يمكنكم الاطلاع على إعلان الدورات عبر حسابه في الإنستقرام : @alsetry

الرياضة.. كهرباء العقل البشري // حسين علي


العادة رهن الممارسة والقدرة رهن التكرار من بعد التعليم، فالشيء الذي لم تعتد على ممارسته يقينا ستلقى صعوبة في التمكين فيه حتى وإن كنت قد تعلمت وحشوت عقلك بالمعلومات عنه، فمعرفة الشيء أمر وممارسة الشيء أمر مختلف تمامًا.
ربما يتعلم الإنسان النحو والصرف ويعرف أصول البلاغة والسجع ويخوض في بحر الإعراب والإملاء ويلتهم مئات الكتب قراءة ومطالعة وبحثًا، ولكنه يقف عاجزًا عن كتابة أربعة أسطر متتالية، فمعرفة مكونات وعناصر الكتابة لا تعني التمكين وإجادة ملكة الكتابة، وحدها الكتابة ثم الكتابة ثم الكتابة، معادلة بسيطة جدًا مفادها تكرار يتبع تعود.
الاهتداء إلى قدرة الكتابة من بعد مشوار التعلم والتكرار أمر طبيعي ولا يدعو للغرابة ولكن هذا ليس مبلغ حلمنا ولا غاية أمرنا، ما نصبو إليه في حديثنا هو عنصر توليد الأفكار، هذا الأمر الذي أنهك الكتّاب وأوصد أمام أحرفهم الباب، فمن دونه تفر الكلمة ويجف القلم.
في حقيقة الأمر ما دعاني لتوظيف عنصر الكتابة وتوليد الأفكار وإبرازها كنموذج للتعود والتكرار على أمر ما هو تشريفي من قبل أخت عزيزة بالإنضواء تحت راية مجموعة ارتقاء، ولا أخفي بادئ الأمر هزني الخجل وخالجني شيء من التردد، فهذه مسؤولية لا أستطيع عليها صبرًا ولا أحتمل فيها وزرًا، لذت بالتفكير فأرجعني نحو التردد مرة أخرى، هممت بالرفض وهمَّ بي نحو الموافقة.
وافقت أولًا احترامًا ومعزة لتلك الأخت التي أكن له عظيم الامتنان منذ عرفتها وثانيًا رغبة في التجربة وخوض غمار تحدي نفسي التي جبلت على الخجل الشديد والتردد في كثير من الأمور، قمعت نفسي الأمارة بالتردد وربطتها بمقولة اعقلها وتوكل.
بعد التوكل وتوطين النفس وبعد مرور ثلاثة أيام تقريبًا عاودني الشك وطاردني شبح التردد مرة أخرى، ماذا فعلت يا رجل؟ هل تعتقد بأن المهمة سهلة لهذه الدرجة؟ هل لك عهدًا بالكتابة أم هي محاولات يتيمة بائسة؟ أليست قدرتك على كتابة مقال أسبوعي هي ضرب من الخيال وصنف من صنوف العجز والمحال؟ هب أنك تمتلك مخزون مفردات بحكم القراءات السابقة وهب أنك تستطيع تعلم بعض مكونات الكتابة من نحو وصرف وإعراب ولكن ما الحيلة أمام توليد الأفكار وهي التي تشكل عصب الكتابة وأساسها الأول؟ وهل هناك تعليم نظري بحت تتمكن من خلاله أن تنتج الأفكار؟
قذفت كل تلك التساؤلات وراء عقلي وأمسكت بزمام الأفكار وإنتاجها، يوجد في المجموعة أكثر من مصحح لغوي ونحوي ولذا مسألة تعلم هذه العناصر مؤجلة الآن، أمتلك كم هائل من المفردات بحكم قراءاتي السابقة للكتب وهذه جنبة أخرى أزيحت من طريقي، بقيت معضلة الأفكار.
شكّل إنتاج الأفكار هاجسي الأول، حاولت مخادعة نفسي بالتخيّل فلم أجد سوى شرود الذهن أكثر فاكثر، تسمرت في غرفتي لعل الهدوء يقودني لفكرة ما فلم يكن هناك سوى خيبة متبوعة بملل، فتحت برنامج الكتابة لعل رؤية البرنامج تحفز عقلي ويذر أفكار فلم يذر ربع فكرة ولا حتى  كلمة واحدة، أيقنت حينها بأن الأمر ليس هينًا وعذرت من لا يكتب، فالكتابة فكرة وليست أحرفًا.
وبينما كنت مع زملائي نمارس رياضة المشي اليومية ولأن الموضوع أشغل بالي وأتعب حالي غصت في عقلي وفتشت فيه عن فكرة لموضوع ما، فكانت المفاجأة وحدث ما لم يكن في الحسبان، ازدحمت وتقاذفت الأفكار في رأسي بدون سابق إنذار، تعاركت وتصارعت مع بعضها لنيل سبق البروز وأكثر من ذلك أيضًا جاءت تلك الأفكار بعناوينها وشواهدها وباكتمال أمثلتها.
لم أستطع تحمل إغراء المشهد فمسكت هاتفي ودونت ثم دونت ثم دونت ولا أبالغ ولا أجافي الحقيقة حين أقول بأني استطعت أن ادون أكثر من عشرة مواضيع، مكتملة الأفكار، مملوءة بالشواهد، غنية بالأمثلة.
وبقدر ما كنت مختالًا فرحًا وأنا أدون العناوين تلو العناوين بقدر ما هزني غرابة المشهد، أيعقل من كان يقضي الساعات والايام في البحث عن خيال لموضوع يجد الآن الأفكار والفقرات منبسطة في عقله وتتسابق للقفز ونيل شرف التدوين؟ أيعقل أن تأتي كمية الأفكار تلك وهي مشبعة بإنهاك الجسد والعضلات؟ فلطالما قضيت الساعات تلو الساعات وأنا مرتاح الجسد وممسك بكوب الشاي الساخن ولكن يا حيف لم يطرق باب عقلي حتى ربع فكرة؟ هل هناك سر في الموضوع؟ وهل هناك علاقة طردية أو عكسية بين أعضاء الجسد؟
أسالت تلك التساؤلات لعاب الفضول في عقلي؟ يقينًا بأن الأمر ليس محض صدفة، يقينًا بأنها لم تكن سحابة صيف عابرة، لا بد من وجود جنبة علمية في الموضوع، لا بد من وجود قانون ورابط بين تنشيط الجسد وبين انفتاح الذهن وتوالد الأفكار، حقيقة لست متبحرًا في الفيزياء ولا أملك خبايا جسد الإنسان ولكن الشيء الذي أعلمه وأملكه ومتيقن منه بأن تعارك الأفكار في ذهني أثناء ممارسة الرياضة لم يكن بالأمر العابر.
شغلتني تفسير تلك الحالة حتى لذت للتنقيب لعلي أبلغ الأسباب فأطلع لمعرفة الجواب، وبعد عناء ومشقة القراءة ما بين دراسات وأبحاث وتجارب شخصية وضحت الصورة لي بالكامل وصدقت جميع تلك التوقعات، لم يكن الأمر صدفة ولم تكن ضربة أعمى بعصاه كما يقول المثل الدارج، بل هي حسابات دقيقة وروابط وثيقة بين أعضاء الجسد.
يقول علماء الأعصاب بأن ممارسة الرياضة تساعد على تنشيط الإنسان جسديًا واجتماعيًا وبيولوجيًا والأهم من ذلك ذهنيًا، فالقدرة على التركيز والتفكير تبلغ مستويات عالية، حيث يزداد تدفق الدم للمخ مما يؤدي لوصول نسبة كبيرة من الأكسجين.
كما تؤدي التمارين الرياضية دور المحفز على إنتاج الدماغ لبروتينات مهمتها الحفاظ على صحة وحيوية الخلايا العصبية وتشكيل خلايا جديدة داخل الدماغ، وأيضًا من شأن التمارين أن تحسن من مستوى هرمون النمو الذي تكمن مهمته في تعليم الربط بين الأشياء واستنتاجها داخل الدماغ.
ويجمع العلماء وبعد دراسات وافية وعن طريق استخدام أحدث الأجهزة في اختبار الخلايا العصبية بأن ممارسة الرياضة تساعد على منع انكماش الدماغ وضموره وتساعد بدرجة كبيرة في تحسين مرونة الإدراك.
ويشير المتخصصون كذالك بأن العقل وكحال أي عضو في جسد الإنسان يصاب بالترهل والضعف في حال قلة استعماله والأمر الملفت هو تأكيدهم بأن تحسين تفكير العقل عن طريقة الرياضة ينشط الدماغ أكثر من التفكير نفسه.
ومن المفارقات العجيبة والخاصة برياضة المشي تأكيد الباحثين بأن المشاعر الإيجابية تتوالد أثناء وبعد الممارسة بعكس الرياضات الأخرى التي تأتي مشاعرها بعد الانتهاء.
أما باحثو جامعة ستان فورد فأكدوا بأن المشي يعزز الإلهام  الإبداعي وذلك حينما فحصوا مستويات الإبداع بين أشخاص تمشي مقارنة بآخرين جالسين، فتوصلت دراستهم إلى نتيجة أن الإبداع يرتفع لدى الشخص بمعدل 60 في المئة عند المشي.
ومن جانب آخر توصل باحثون يابانيون إلى نتيجة مفادها بأن الهرولة تنشط التفكير والإدراك وتزيد من وظائف الدماغ الحيوية وذلك بعد اختبار مجموعة من الأشخاص واظبوا على الهرولة ثم خضعوا لفحص في الذاكرة والإدراك والذكاء، ووجد الباحثون بأن الأشخاص الذين مارسوا الهرولة كانت درجاتهم عالية جدًا في اختبارات الذكاء.
الأبحاث بالمئات أو تزيد والدراسات بمثلها أم التجارب فهي لا تعد ولا تحصى وكلها تصب في خانة أن التمارين الرياضية تؤدي إلى تفجير ينابيع الإبداع وتفريخ الأفكار بصورة غير اعتيادية، ولكن ليست الرياضة وحدها من يستطيع فعل ذالك، فهناك العشرات من الاستراتيجيات والطرق التي تؤدي نفس المهام وتوصل إلى نفس النتيجة وربما يحالفنا الحظ إلى الوقوف أمام بعضها في مقال آخر.

29 أغسطس 2015

أقوال :
سيليا ريتشاردسون مديرة الصحة العقلية: الرياضة لا تفيد الجسد فحسب بل تساعد بشكل  فعال في تنشيط  قدرة الإنسان على التركيز والتفكير.
جون راتي مؤلف كتاب Spark: إن تأثير التمرين على أدمغتنا أكثر فعالية من تأثير الأدوية وحتى الطعام.
دان هيرلي في مقال حول (كيف نصبح أكثر ذكاء؟): هناك طريقة سهلة التحقيق ومثبتة علميًا لكي تصبح أكثر ذكاءً، اذهب لممارسة رياضة المشي أو السباحة.
أوبيزو خريج جامعة ستان فورد وحاصل على الدكتوراه في علم النفس التربوي: أن تفكير الشخص الماشي خارجًا من شأنه أن يفجر كل شيء من الينابيع.

تأملات في دعاء الندبة ٢ // منصور علي الجمري







فتح الكتاب ثانيةً، مؤمنًا بأنَّ الحمد لله على كُل حال حمدًا كما يستَحِقهُ كثيرًا طيبًا دائمًا أبدًا، في السرّاءِ والضرّاءِ والنعماءِ واللأواء والشِدةِ والرّخاء، متيقنًا بأنَّ كُلَّ حالٍ هو خيرٌ و صلاح.
أرجح رأسهُ، وبصوتٍ رفيع قالَ ”رَحِمكَ اللهُ يا ولدي”..
وأكمل الدُعاء مُرتِّلاً: وصلى الله على سيدنا محمد نبيه وآله وسلَّم تسليمًا.
تَوَقَّفَ عِندها، يُقَلِبُها في عقلِه.. محمدٌ.. وآل محمد.. هما مترابطان لأنهما في الوُجودِ متلازمان، كماليان وكُلُ المذكورِ معصوم، وفعله وقوله حجة بالغة علينا، وسيرة كل منهم إنما ننظر إليها بعين اليقين على أنها تبليغات الله عز وجل منذ الوحي الأول بأمره [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ - العلق 1] وحتى تنزيل الآية المدنية [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ – المائدة 76] وصُولًا لبيعةِ الغدير و الدعوة الإلهية للمؤمنين بطاعتهِ عز وجل، ورسوله، وأولي الأمر منا، فتسائلهُ قائلًا:
ومن هم يا رسول الله؟
فأجاب: “هم خلفائي يا جابر وأئمة المسلمين بعدي، وأولهم علي ابن أبي طالب“..
حيثُ من حربِ صِفين إلى الهدنٓةِ الكٓمين، وحتى حج الحسين المَكِين، والسّاجد زين العابدين الذي خط رسالةَ الحقوق للصالِحين، وإلى باقر العِلم الدفين، فَمُشيِد الحوزةِ عند جامِع الأمويين، وابنه المطمور المكبل بالقيد المتين، فحتى ولي عهد المأمون قاتل الأمين، وجواد مَن بينهِ وبين الله حبل متين، ثم إمام المتقين من كان على العسكريِ أمين، لِيُنَصِبَ إمامَ الممهدين، مجددًا فينا آيةَ الصَرحِ المُبين [بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُـم مُؤْمِنِينَ - هود 86]..
فهم إثنا عشر خليفة للرسالة المحمدية قد مضوا فيما أراد الله لهم وما يصح وتحتاجه أمة محمد عبر تبليغات كانت كلها على شاكلة؛ يا أخي – الحسين عليه السلام لأخيه محمد ابن الحنفية – شاء الله أن يراني قتيلًا، وشاء الله أن يراهن سبايا.
السيرة: وهي حوادث حياة المعصوم وتاريخه ومجموعة من الوقائع الحاصلة في عهده وعرض لشمائله الخٓلقِيّة والخُلقية، ويندرج فيها حديث المعصوم، فِعلُه وتقريره.
فأما الحديث فهو ما حَدَّثٓ به المعصوم نُطقًا فكان حجةً، وفعله هو تحريك جوارِحِهِ لشأن ما فإن وقع بيانًا كان تابعًا للمُبيّن في الوجود والندب والإباحة، وأما تقريره عليه السلام فهو ما أقره للقائل والفاعل في حضرته أو ما نهاهما عنه.
للحديث خصائصُه، فتبيان نص الحديث من السيرة وحدٓه لا يعني بالضرورة حُجٓتٓهُ على الخلق، فبعد عرض الحديث وتحديده متواترًا أو آحاديًا يدخلُ بعدها لدراسة المتن والسند على أن يحدد بعدها كونهُ؛ نص، محمل، ظاهر، مؤول فتنتقل حينها ألفاظ المعصوم في الحديث في إحدى الخانات على أنه حقيقي أو مجاز، مطلق أو مقيد فناسِخٌ أو منسوخ، لأخُذ الحديث بعدها تصنيفه حسنًا أو صحيحًا أو موثوقًا أو ضعيفًا، بعدها يحِق لمُحققٍ خاضٓ هذه العملية  أن يستدلٓ بالحديث ليُشرعِن حقيقة استدلاله دون أن يتجرأ في إعلان تلك الحقيقة تكليفًا شرعيًا.
فالتحقيق وصولًا للحكم الشرعي والتكليف على الأغلب الأعم يصعب علينا نحن العامة، وهو يسيرٌ صعْب على أهل الاختصاص في الحوزة كما هو صعبٌ يسير على المهندسين في التعمير وللأطباء في التشخيص والعلاج داخل الخستخانات.
فللاستنباط  أهلُ اختصاصه وخصائصهِ على أن يراعي الحال العام والزمان والمكان وما يقتضي للأمة وما فيهِ مصلحةٌ لها دون اكتراث بشعارات المبادئ الركيكة.
فلظرف الزمان والمكان طبعةٌ في التكليف الشرعي من أجل الإفتاء به من المعصوم والفقيه على حد سواء في هذا المقام، يقول كاتب أسرة (ارتقاء) السيد محمد علي العلوي “إنَّ الآن الذي يقعُ فيه الحدث (أ) ليس هو الآن الذي يقع فيه الحدث (ب)، ‏وإن اتَّفق الوقوع في ساعة ولحظة واحدة بحسب القياس الزمني المعروف، ‏ولنقل أنَّ حدثين وقعا عند الساعة الواحدة ظهرًا وفي لحظة واحدة تمامًا، ‏ففي الحقيقة أنَّ آن الوقع مختلف تمامًا، وهذا واضح لكونِ آن الحدث داخلًا في ماهيَّتِه كما كُلِّ الظروف الموضوعية.[١]
فإن توافق الحدث عٓينهُ ما جرى مع المعصوم دون تطابق الحال العام؛ لا شكَ في كون إسناد تقرير أو فعل  أو حديث الإمام المعصوم في سبيل <خلق التكليف الغير أصيل> باطلاً. وبيانُ ما سلف فيما سيُوردُ إن شاء الله.
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ياعلي أنا وأنت أبوا هذه الأمة.
‏• في عهد نبي الرحمة، ذاق المؤمنون ويلات إيمانهم، فكانت لآل ياسر حِصة منها، حيث عذِبوا جميعًا واكتفى رسول الله بتبشيرهم “صبرًا آل ياسر ‏فإن موعدكم الجنة” فهلا من متجرئ آخر يقول “إنه ليهجر” وإنه أعرض عن الأمر الإلهي {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} ۚ ومع أخذ الاعتبار بالسيدة سمية التي عُذِبت على ‏يد أبو جهل حتى طعنها فكانت الشهيدة الأولى في الإسلام.
• في عهد أمير المؤمنين تُعصَرُ زوجَته ‏فاطمة عليها السلام بضعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتحرق دارها مع وجود حكم إلهي أعظم من الوصيّة {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ}  علمًا باقتياد علي ابن أبي طالب عليه السلام سِلمًا من داره.
– لا دعوة هنا لعدم النهوض للأعراض ولكنها لفتة لمحاولة وقف تجريح هذه الرسالات وشخوصها في سَكر خِطابات الجهاد الغير مسؤولة المضمون.
نحن إثنا عشر، هكذا حول عرش ربنا جل وعز في مبتدأ خلقنا، أولنا محمد وأوسطنا محمد وآخرنا محمد” “وكلنا محمد فلا تفرقوا بيننا – بحار الأنوار ج ٢٥ ص ٣٦٣ ”
من هنا نقول أن لا مقام للمفاضلة بين معصوم وآخر على أن خلفاء الرسول بالحق هم تحت رايته ونهجه الأصيل متعددينٓ في خياراتهم الربانية، فلا عقيدة (للزيدية) في الهوية (الإنثي عشرية) ولا يصح – في رأيي – تجريح رسالات المعصومين من ولد الحسين خاصة في طور (خلق التكليف الغير أصيل) فعليه السلام في منأى عن ذلك حيث لم يستسقِ العظمة من خٓياره بل أورثه عظمةً بشهادته.
‏• قبل وفي الطف:
بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عملت بنو أمية على تجهيل الأمة وساعد ذلك تقمص الخلاقة عمن هو محل القطب من الرحى لها فكانت تُشترى الذمم والضمائر بل حتى الدين وتقام المذابح وتعتلي الشتائم من على المنابر فلا عجب من متسائلين صاحوا مذهولين بعد خبر طبرة أمير المؤمنين في محراب الصلاة “أوعليٌ كان يصلي؟!”
فٓظرفُ الزمان والمكان والحال العام آل بِحسين ذاك الأوان أن يعقد الهدنة مع يزيد ذاك الآن، كان مفاد ما نقصِدٓهُ من شروط الهدنة أن يأخذ الإمام الحسن الأمر والخلافة بعد معاوية فإن حدث به حدث فلأخيه الحسين عليه السلام وكان ذلك في العام ٤١ هجرية، وبعد تسعِ سنين استشهد الإمام الحسن عليه السلام فكان وحسب الشرط فإن الخلافة لأبي عبدالله عند فناء ابن هند فحينما كانوا يقصدونه عليه السلام رغبةً في صك الخروج على شخص معاومة والجهاد في سبيل الله كان يرد عليهم “كونوا أحلاس بيوتكم – أي الزموها” وحتى العام ستون للهجرة كان هذا هو الحال الساد إلا بعد إعلان بيعة من معاومة لولده يزيد وتوجهه بعدها لمكة وهٓلكٓ حين عودتِه في إحدى خربات دمشق مع هلال شهر رجب.
بدت نية يزيد بارزةً في التمسك بالسلطة وعليه انتفى الشرط والمشروط، حتى نهض أبو عبدالله عليه السلام وصارت الواقعة العظمى في الطف العظيمة بعد أن أعلن الهدف واضحًا وصريحًا «إني لم أخرج أشراً، ولا بطراً ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنما *خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر* فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين» فلم يكن النهوض هدفه على الظالم الفاسد وإنما <يزيد رجلٌ فاسق> مصطلح شرعي يدلل الخروج عن الشرع <شاربٌ للخمر > فهو مرتكبٌ للمعاصي <قاتل النفس المرتحة>  وهي أكبر الكبائر بعد الشرك بالله.
– لادعوة هنا لتقنين مساحة الخروج على الحاكم في دائرة المحرمات فقط، ولكنها محاولة لفك التراكيب غير الأصيلة من رسالة الحسين عليه السلام، فالأئمة جميعهم عاصروا قاتلي للنفس المحترمة وشاربي خمور فمرتكبي معاصي وعباسيين فسقة ولكن للنهوض أحكامه وكان سبب هذا النهوض كما أسلفنا <شاء الله أن يراني قتيلا>
||| مِنّا تساؤلات بديهية بعد الواقعة الأزلية:
• من دون التطرق للتعليقات عن صحة الهدنة التي عقدها إمام الحسين الثاني وما إذا كانت رُضوخًا سياسيًا وكيف كان الحسين عليه السلام ضمن هذه الهدنة التي وُقِعت مع الطاغية معاوية وأمر بلزم المنازل لمدة عشر سنين في عهده حتى ساعة النهوض في أواخر رجب مع بقاء المراسلات بينهم وحتى ليلة العاشر كان قد التقى عمرٓ ابن سعد.
‏• أين غيرة علي ابن الحسين زين العابدين إمام ذاك العصر عن بقية البيت العلوي سيدتنا زينب عليها السلام؟
كيف لزين العابدين عليه السلام الاعتكاف الطويل في السجود والدعاء دون القيام للثار بدم الأطهار؟
ألم يفهم المعصوم وخليفة الشهيد الأعظم تلك الرسالة التي أراد الحسين توصيلها لنا بترك النحيب في المآتم والنهوض؟
كيف لنا أن نستذكر سيرة إمامة السجاد التي دامت خمسة وثلاثون عامًا وفي قبالتها دولة المختار ذات الثلاث شهور.. علٓ استنباطه كان أحكم من المعصوم؟
ما حال الإمام الباقر في العلم والمدينة تستباح بعد ثورة الحرة؟
ألم يؤرخ لها الكتّاب استباحات أعراض وأبناء سِفاح.. ما عساه كان ينتظر أيضًا؟ أكان جُبنًا من الإمام الصادق بقاؤه داخل الحوزة التي أسسها وهناك مائة ألف من الفرس أعلنوا استعدادهم للشهادة؟ كيف للمقاوم الضرغام زيد الشهيد أن يسبق الصادق المعصوم في النهوض والثورة؟
أكان عليه السلام منشغلًا في مجلس الجزّار أبو جعفر الدوانيقي؟
أي مشروعٍ للإمام جعفر ابن محمد عليه السلام داخل الحوزة هل في لف العمائم؟
تسعمائة مدرس في الحوزة وهو معهم أكانوا كوفيي ثورة زيد؟
اليس الأوجب أن يعلن الإمام الكاظم قيام الأمةِ على يزيد العصر هارون الرشيد؟
فبعد موقعة الفخ وعدد الشهداء العلويين الكثر الذين سقطوا شهداء.. باع دمهم علمًا بوجوده خارج السجن؟ ألا يجب الشك في العلماء الواقفون على أبواب السلاطين؟
كيف وإذا بالمعصوم ضامن الجنان في داخلها؟ كيف للجواد عليه السلام أن لا يثور علمًا باكتمال نصاب الثلاث وسبعون نفر في عهده؟
أيتخذ الإمام الهادي عزلة عن الأمة ويضع بينهم وبينه حجاب إذا قصدوه للحديث خوفًا من عصا العباسيين؟ أو يعتبر ضحية ركون آبائه وأجداده؟
أيعقل أن من نسلِ الحسين من يتم إستدعاؤه من المدينة فيلبي طلب النظام الفاسد ويتجه بابنه العسكري لسامراء؟
هل نفعت الإمام العسكري تقيتهُ؟ هو كذلك مات شهيدًا، أو كان سياسيًا ليس ثوري؟
– اذا سلمنا بعصمتهم ورسخت فينا العقيدة الإثنا عشرية فأول ما سنعلمه بأنهم ليسوا أهل مبدأ، فلو كانوا كذلك لتطابقت أفعالهم مع النظام الطاغي والقبيلة الأموية والعباسية، فالسيف لم يُرفع على نظامُ حكمٍ سوى من الحسين عليه السلام وكان من أجل الدين، فهم إثنا عشر كلهم محمد وأهل دين وحكم شرعي وليسو أئمة ” النضال” منهجهم واحد وهو الحق فعلينا استقراء قيمهم لا استنساخ مواقفهم.
.. أحٓسٓ بثقلٍ في صدره، بيقينٍ مؤجج بداخِله استشعر بأن إعادة الدعاء لهم ستُذهبُ ألمه، أعادها؛ اللهم صل على محمدٍ وآل محمد فكأنه قرأ سورة الشرح تنهد وأكمل في النُدبةِ مُرتِلاً.

‏منصور علي الجمري
٢٢ أغسطس ٢٠١٥

[١] ‏الشُيُوعِيَّةُ، وإنْ غَابَ أو (غُيِّبَ) رَسْمُها (23) – “رُؤى من القرآن والعترة (4) / رُؤيَةٌ في الماهيَّات” // محمد علي العلوي
http://www.ertiqabh.com/?p=474 29

على صفاف الذكريات (29) // ز.كاظم

بسم الله الرحمن الرحيم 
في نفس العام 1993 تناولت التلفزيونات ووسائل الإعلام صورة لطفلة إفريقية وهي في حالة من الضعف الشديد، عريانة أهلكتها المجاعة حتى كادت عظامها تخرج من جلدها الرقيق، ملقية برأسها على الأرض، تجر جسدها المرهق بالضعف والجوع جرًا إلى أقرب مركز للأغذية، وبالقرب منها نسرٌ ينظر إليها وينتظر لحظة موتها بترقب ليقوم بأكلها.. صورة هزت ضمير العالم، وعرّت وجهه على ما يحدث في البلدان التي تحاصرها الحروب والمجاعة.. حروب لا ترحم ولا تذر.. ضج العالم، مَن هي هذه الطفلة؟ ومن أي بلد؟ وماذا حدث لها؟ هل لا تزال على قيد الحياة؟ أم …!!! وكيف أُخِذت هذه الصورة؟ وقد تم صب الغضب على من قام بتصوير هذا الحدث، المصور كيفن كارتر، والذي فاز بجائزة بوليترز من هذه الصورة.. أثيرت الضجة على المصوّر إذ أنه لم يساعد الطفلة بل تركها لحتفها ليفوز بالقبس الصحفي.. أي قلب امتلكه هذا المصور! يصوّرها لأنه كان يقوم بواجبه! ولم يقم بتقديم المساعدة لها خوفًا من العدوى، والتزامًا بالتعليمات! لم يهنأ المصوّر بالجائزة وانتحر بعدها بثلاثة أشهر..
ربما وجد العالم ضالته ليوصم عار وجهه على جسد المصوّر.. لم تكن الضجة إلا زوبعة كاذبة، ككذبنا على أنفسنا حينما نتجاهل وبإصرار وتعمد عن ما يحدث لغيرنا..
مِن أرض جنوب السودان الذي مزقته الحروب وانهكت أرضه وحرثه المجاعة والجوع جاءت هذه الطفلة السوداء، لتعبّر عن محنة الأطفال وتَعبر القارات لذلك الطفل الأسود.. استيقظنا ذات يوم على خبر خطف أحد الطلبة الخليجيين لابن صديقته –الجيرلفرند- الصغير، وزوجته من السود عليها مسحة من الجمال، ووالداها أبيضان بالتبني.. كانت الجيرلفرند تدرس معنا في كلية كلارك، وتعرف عليها صديقنا وتطورت العلاقة بينهما وسكنا مع بعض في مدينة فانكوفر.. كانت العلاقة بينهما هادئة جدًا لطبيعة هدوء صديقنا وكذلك هدوء صديقته.. إلا أنه يبدو أن حدث بينهما خلاف مما دفعها بالتهديد بتركه، الذي جعله يغضب ويأخذ الطفل معه ليركب سيارته وليختفي عن الأنظار..
نزل الخبر علينا كالصاعقة، ما العمل؟ كيف نصل إليه؟ كيف نقنعه بأن ما قام به قد يودي به إلى السجن! في ذلك العام لم تكن هناك وسائل للاتصال غير الهواتف المنزلية والعمومية..
جاء والد الخليجي بسرعة لإنقاذ ابنه من هذه المصيبة، وبينما هو في الجو على متن الطائرة وصلنا خبر أن صديقنا مع الطفل في كاليفورنيا!!! بعد منتصف الليل من يوم الحادثة، طرق باب شقتنا الإف بي آي وقاموا باستجوابنا ليعرفوا إن كانت لدينا أية وسيلة اتصال بصاحبنا.. كان الإف بي آي يريد أن يحل الموضوع قبل أن يصبح خارج اليد، خصوصًا أنه بخطف الطفل إلى ولاية أخرى فإن تلك القضية تحولت من قضية محلية إلى قضية فيدرالية مما استدعى تدخل الإف بي آي.. لم يدّخر الإعلام المحلي القضية، بل حوّلها لقضية إسلام! استئنا من التقرير التلفزيوني كثيرًا حيث أنه لم يكن دقيقًا وفيه تشويه لصورة الإسلام، والقضية لا علاقة لها بإسلام.. الكثير من عمليات الخطف بل والقتل تحدث في المجتمع الأمريكي ولا تتم عملية جر الدين فيها.. بالرغم من خطأ ما قام به صديقنا، إلا أن الزج بالإسلام في القضية لم يكن نزيهًا، ولكنه الإعلام..
أخيرًا تم التواصل مع صاحبنا الخليجي لنتفاجأ بقوله أنه ذهب بالطفل إلى مدينة ديزني لاند للنزهة!!! وهو في طريق عودته إلى الديار، ولكن بين حدود كاليفورنيا وأوريغون حين المساء تعرض لحادث فضيع جدًا نقل هو والطفل إلى المستشفى..
على عجل ذهب أبو الخليجي إلى مكان الحدث والذي يبعد عن منطقتنا حوالي الست ساعات.. قبلها بيوم أوكل الوالد إحدى المحاميات للترافع عن قضية ابنه، ولم يصل الوالد للمستشفى إلا والمحامية هناك قبله.
توفى الطفل من جراء الحادث.. ذلك الطفل الصغير الذي جاء أجله وهو لا يعلم ما يحدث حوله..
تمكنت المحامية أن تُخرج الخليجي من القضية كالشعرة من العجين ذلك لأن الولاية التي يسكن فيها اعتبرته زوجًا للأم – بما أنه ساكن مع أم الولد ولمدة أكثر من ستة أشهر –، ولا يُعد أخذه للطفل اختطافًا..
مع ذلك، لا يتساهل القانون الأمريكي مع أية إساءة أو امتهان للطفل، إذ يستطيع أي طفل أن يرفع سماعة الهاتف ويتصل برقم 911 لتأتي الشرطة وتلقي القبض على الأب أو الأم إذا ما ادعى الابن عليهما بأنهما اعتديا عليه.. يُربى الطفل الأمريكي على أنه كيان له كرامته واحترامه، ولا يحق لأحد أن يعتدي عليه حتى لو كان أقرب الأقربين له.. في بداية الأمر كنتُ أستغرب من هذا الأمر، لكني استوعبته بعد اطلاعي على الكثير من القصص والأحداث وخصوصًا تلك القصص التي تقرأ أو تسمع أحداثها عن أم أصيبت بإحباط فقامت بقتل أولادها الخمسة الواحد تلو الآخر، أو تلك الأم التي تركت ولديها في السيارة وألقت بها في النهر لأن صديقها لا يحب الأطفال، أو ذلك الأب الذي يعتدي على أطفاله بالضرب المبرح وغيرها الكثير من القصص التي تحدث حتى في ظل صرامة القانون من قساوة تُمارس على الطفل..
واحدة من الخليجيات – والتي كانت مع زوجها المبتعث – ضربت ابنتها في إحدى المجمعات التجارية، فقامت إحدى الأمريكيات بالاتصال بالشرطة ليأتوا بسرعة وتم إلقاء القبض على الأم وأخذ الفتاة منها.. كادت هذه العائلة على وشك فقد ابنتها.. في الحال قام الزوج بتوكيل محامي، وبعد عدة محاولات وكتابة تعهد إلزامي بعدم ضرب الفتاة تم تسريح الزوجة وإرجاع البنت لها. في الحال وعند رجوع العائلة للمنزل قرر الأب أن يرجع إلى بلده حالًا.
الجالية العراقية التي جاءت من رفحاء بعد حرب الخليج الأولى اصطدمت مع القانون الأمريكي في خصوص رعاية الأطفال وأسلوب التعامل معهم.. من العادي جدًا أن يقوم العراقي بـ “بسط” ولده أمام مرأى الناس في قناعة منه أنه يؤدب ولده ويُربيه، لكن ذلك الأسلوب في العُرف الأمريكي يُعتبر مخالفة للقانون ويستدعي إلقاء القبض على الأب وأخذ الولد منه، وقد يقوم القانون بإعطاء ولده لدور الحضانة والرعاية أو لأبوين يرغبان في التبني، وقد لا يتمكن الأب من رؤية ولده أو ابنته بتاتًا.. لا يقتصر الأمر على مجرد إساءة التعامل مع الطفل بل حتى الإهمال قد يوقع الأبوين في مشكلة مع القانون..
والمرأة أيضًا تمتلك مساحة كبيرة جدًا في اهتمام القانون الأمريكي الذي يُحاول أن يُعوّض عن القسوة التي لاقتها المرأة في ظل التاريخ الأمريكي.. جاء أحد العراقيين المهجرين إلى منزله ليلًا وهو ثملٌ سكران، وقام بضرب زوجته ضربًا قاسيًا.. ولم يكتفِ بذلك بل أراد طردها من المنزل، فتشبثت المرأة بالبيت ولم تخرج.. اتصل بالبوليس ليخرجها من المنزل.. جاء البوليس على أثر بلاغه، وكانا اثنان: شرطي وشرطية.. ما إن دخلا المنزل حتى لقيا الزوجة وفي وجهها بقع سوداء من أثر الضرب الذي أنزله عليها زوجها.. وعلى الفور قامت الشرطية بتقييده وإلقاء القبض عليه، وقضى ليلته في السجن ربما متفكرًا في السبب الذي دفع الشرطة بسجنه عوضًا عن طرد زوجته من البيت!!!
لذلك كانت الحياة عند بعض العراقيين المهجرين صعبة جدًا، فالكبار منهم لم يتأقلموا مع الوضع نظرًا لاختلاف طبيعة الحياة من قوانين وأعراف، وكذلك لصعوبة المعيشة في ظل افتقاد المؤهلات من لغة ودراسة وخبرة، وقد كان البعض منهم يمتلك شهادات جامعية لكن لم يستطيعوا أن يعادلوها فكان عليهم أن يعيدوا سنوات الدراسة، وكذلك صعوبة التوفيق بين الدراسة والعمل.. أما الصغار فقد أندمج الكثير منهم بسرعة مخيفة.. فكانت العائلة العراقية بين نارين، نار تسعرها صعوبة الانخراط في المجتمع للكبار ونار يصهرها فقدان الصغار حد الذوبان في المجتمع الأمريكي.

يتبع في الحلقة القادمة..


29 أغسطس 2015

أنين الجذور // ياسر المعلم




مشهد: كان الحفيد جالسًا في سكون غريب، يُطيل النظر إلى جده النائم على ذلك السرير (المرقد) في غرفته الحجرية البسيطة، لا يتخلل السكون إلا صوت سعف النخلة، التي تتوسط المنزل، مع هبات الهواء الخفيفة..كان الحفيد يتأمل في خشوع كل تفاصيل وتقاسيم ذلك الجسد النحيف، الذي بدى عليه الإجهاد والتعب والمرض، كان الجد يُفيق ويغفو، ولا زالت عين الحفيد ترقب تقاسيم الوجه الذي حفرته الأيام والسنون، بحلوها ومرها، (مزيج لا يعرف طعمه الكثير)، يتأمل السمرة التي صبغتها أشعة الشمس، وتلك اللحية البيضاء التي كان  الحفيد يمسح الدموع عنها في مجالس الحسين عندما كان طفلًا يجلس في أحضان جده، ولا زالت عيون الحفيد ترقب تلك الضلوع التي برزت من تحت الملابس تعلو وتنخفض مع كل نفس، يتأمل اليد التي طالما حفرت وغرست وحصدت في ذلك البستان الصغير، وتلك الأقدام التي خالطت التراب والماء المتدفق في الجداول.
وبينما لا زال في رحلته التي أشبه ما تكون رحلة عرفانية في جسدٍ أراد ملامسة روحه.. عله يصل إلى سر ذلك الجسد النحيف رغم قوته.. سر التفاني والذوبان في هذه الأرض.. وسر العطاء رغم الحاجة.. وسر أن يزرع لتأكل الأجيال المقبلة رغم جوعه.
وإذا به يسمع أنيين خافتًا، وياللعجب ليس مصدره الجد، كان مصدره النخلة، لا تستغرب من أنيني ياولدي.. إنه أنين الجذور.. إنه أنين من أفنى عمره في العطاء.. إنه أنين الاغتراب.. فلم تعد الجذور تعرفكم.. ولم تعودوا تعرفون جذوركم.
كنا يا ولدي مع أجدادكم روحًا واحده، إذا تألمنا يتألمون، إذا عطشنا يستشعرون، ذابوا حبًا فينا، فلم تبخل عليهم هذه الأرض رغم قساوة الظروف، أنيننا على هذا الرجل، فهو آخر الرجال، وكم نخشى أن يطول الأنين، قبل أن يعود أبناء هذه الأرض إلى جذورهم، لتعود روح أجدادهم فيهم، يشقون الأرض فتنبع المياه العذبة، يزرعون الأرض فتثمر من نخيلهم الحياة، هم من مشى على الأرض هونًا، هم الأوتاد، هم القابض على الجمر، ولو كنا لفزنا.

مقولةُ: الإسلام السياسي // محمد علي العلوي




مقدَّمتان:
الأولى: ليست الألفاظ إلَّا مجموعة حروفٍ تواضَعَ الناس على تراكيب معيَّنةٍ لها، ثُمَّ يُستعمل كلّ مركَّبٍ حرفي للدلالة على معنى ينتَّقِلُ إليه الذهن بمجرد سماع اللفظ (الكلمة).
من هنا نفهم أنَّ قيمة الكلمة إنَّما هي ببركة إضافتها للمعنى الذي وضعت للدلالة عليه، وإلَّا فهي بما هي تركيب حرفي، لا تتجاوز كونها أنغامًّا صوتية تصدر عن الإنسان.
هذا بحسب بعض النظريات، ولا أختلف معها في النتيجة، بالرغم من أنَّ العلاقة التي أراها هي علاقة عضوية بين الألفاظ ومعانيها، وأعتقد بأنَّ لكُلِّ معنى مجموعة من الدوالِّ اللفظية، لا يتمكن الإنسانُ من الخروج عنها إلى غيرها، وعندي على هذه النظرية استدلالات خاصَّة ليس المقام مقامها.
تريد هذه المقدَّمة التأسيس إلى أنَّ الكلمة ليست مجرَّد صوتٍ يُحدِثه اللسان للدلالة على معنى يريد إخطاره في ذهن السامع، وبالتالي لو أنَّ هذا الأخير فهِم المعنى بغير هذه الكلمة، كان المطلوب قد تحقَّق..!
هذا خطير جِدًّا، فقد نتمكن من مناقشة إمكان القبول بتبرير الغاية للوسيلة في بعض المواطن، ولكنَّني أرفض بشدَّة التنازل عن الدال اللفظي؛ وذلك لاعتقادي الكبير بالعضويَّةِ بين الألفاظ ومعانيها، وقد تُفتَحُ الأذهان على هذا البحث المهم من خلال تأمل (الأسماء) في قوله تعالى (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)؛ ما أراه هو أنَّ كلَّ الأسماء ترجع إلى تلك الأسماء التي عُلمها آدمُ (عليه السلام).
قد يقال:
إذا كنتَ رافضًا لإمكان استعمال اللفظ للدلالة على معنى لا يرتبط به ارتباطًا عضويًا، فما هو المبرر لاعتراضك على استعمال الألفاظ في غير المعاني التي وضعت لها؟
أوليس هذا غير ممكن بحسب الدعوى؟
الجواب:
عندما نستعمل لفظًا في غير محلِّه، فالاستعمال بما هو استعمال ممكن، ولكنَّه ولفقدان الرابطة العضوية يعمل مباشرة على إحداث انحرافات ثقافية خطيرة، والمحل الأبرز لخطورتها هو خفاء الخطر وعدم الالتفات إلى الانحراف مهما كان عظيمًا، وأكثر من ذلك أن المجتمع يتحوَّل للدفاع عن انحرافه الثقافي ومناشئه، وباستماتة غريبة، ولذلك أتجنَّب ذكر الشواهد؛ حفاظًا على موضوعية المقال من الحرفِ عن مساره (بفعل فاعل).
من هنا، وانطلاقًا من هذه الرؤية، أعتقد بضرورة التركيز على المفاهيم وما يدل عليها من تراكيب لغوية، والنظر في مصادرها وأصولها وما يقع في طريق إرجاعها، ولذلك أجدني مهتمًّا بمناقشة الكلمات والنظر في أبعادها الدلالية.
الثانية: قامت النظرية الرأسمالية على فكرة (اقتصاد السوق)، وهو النظام الاقتصادي لليبرالية الكلاسيكية التي تكون الليبرالية الاقتصادية مكوِّنًا عضويًا فيها، ومعنى ذلك أن تُترك إدارة السوق للسوق، ولا يُسمح للدولة بالتَّدخل للحدِّ أو لتأطير الحركة التجارية فيه.
لم يتمكَّن ساسة البلاد من تحمُّل الفرز الحادِّ الذي يُحدِثُه السوقُ في المجتمع، والأمر راجع إلى عجزهم عن إيقاف الجشع والطمع الملازم لعملية دوران المال ونموه، وهذا هو المُنتِّجُ إلى واقع السيد والعبد في ثوب جديد تُفصِّله الرأسمالية بمِقصِّ (اقتصاد السوق).
للحدِّ من هذه المشكلة التي يراها ساسةُ البلاد مُدَمِّرة، تدخَّلَ عِلمُ الاجتماع ببحثٍ قدَّمه حلًّا لمشكلة (اقتصاد السوق)، أسماه (الاقتصاد السياسي)، ومُلخَّصه تحكيم المصلحة السياسية العليا، والأداة لتحقيق ذلك هي ترك السوق (حرًّا) بما يتوافق مع المصلحة السياسية العليا، ومن جهة أخرى (توجيه) السوق بِحسَبِها.
من هنا نُدرِكُ أنَّ (الاقتصاد السياسي) جاء في قبال (اقتصاد السوق)، وهذا مُمكِنٌ بحسب طبيعة المفهومين؛ حيثُ إنَّ الاقتصادَ شيءٌ والسياسةَ شيءٌ آخر، ويمكن دمجُهُما في عنوان أكبر، كما يمكن الفصل بينهما تمامًا.
مقولة: الإسلام السياسي:
لاحظنا هناك تدخُّل السياسة للسيطرة على العناوين (الاقتصادية)، وهذا ما هو معروف من معنى (الاقتصاد السياسي)، ولكِنَّ الحديث اليوم عن (الإسلام السياسي)، ولسنا في حاجة إلى جهد كبير حتى ندرك حقيقة الانتقال الذهني عندما يُسمع هذا اللفظ، وهو الانتقال إلى تدخل (الإسلام) للسيطرة على العناوين (السياسية)، وهم يذكرون هذا الدال اعتراضًا على أن تكون السياسة تحت تدخُّلات (الإسلام).
نعم، قد يقبلون بأيِّ تدخُّل في (السياسة)، ولكِنَّهم لا يتمكَّنون من تحقيق أدنى تجاوب مع عنوان (الإسلام) في المعادلة السياسية، وذلك بدعوى أنَّ الإسلام عاجز عن الفهم السياسي، أو عن أن يكون عامِلَ تقدُّم في الحركة السياسية!
هنا أتساءل:
أين هو النجاح السياسي الذي تبحثون عنه بعيدًا عن الإسلام؟
هل حقَّقت السياسة العالمية بسلطتِها (هنا) ما حقَّقته وبمقاسات معيَّنة في بعض دولها (هناك)؟
من أشاع الديموقراطية (التي تطالبون بها) هناك، لماذا يعمل (بخلافها تمامًا) هنا؟
بل كيف يتعامل في عقر داره مع المعارضة السياسيَّة إذا زادت عن الحدِّ الذي رسمها (هو) لها؟
فلنبحث عن نسبة المحللين السياسيين الذين يرون ظلمَ وجورَ الإدارة السياسية العالمية وازدواجية معاييرها وما نحو ذلك من سيِّءِ الأمور وأسوَئِها.
وحتى لو تجاوزنا الانتهاكات العظيمة من رواد (الديموقراطية) في تعاملاتهم مع دول العالم، كما كان مع جواتيمالا عام (1952) عندما اصطنع ودعم الأمريكيون فيها، وبإدارة كارتر انقلابًا عسكريًا قوَّض كلَّ جميلٍ جاء به التغيير السياسي المحلِّي منذ (1944)، والحجَّة في ذلك: إنَّ ما يحدث في جواتيمالا يخالف المصالح الأمريكية!
وكما صنع كندي في (1964) مع البرازيليين عندما أحدث انقلابًا عسكريًا هناك قضى به التجربة الديموقراطية.
وأمَّا طاغية نيكاراجوا (اناستاسيو سوموزا) فهو تحت العناية الأمريكية؛ لأنَّه يخدم مصانعها!
لو تجاوزنا كلَّ ذلك، وأخذنا نظرة سريعة في تاريخ الرقي الديموقراطي لتمثال الحرية، فهناك مزرعة قد غطَّتها ألسنة اللهب التي أضرم نارها أمرٌ من مكتب التحقيقات الفيدرالي..
إنَّها مزرعة الفرع الداوودي التي شهدت مقتل قرابة الثمانين (إنسانًا) رُبعهم من الأطفال!
لماذا؟
هناك شخص يحمل عقائد فاسدة ويدَّعي النبوة، كان على رأس مجموعة آمنت كما آمن بأفكار دينية قد طلَّت برأسها في العام (1935) تقريبًا، وعندما حمل هو الراية أُحرق في مزرعة الجماعة عام (1993)!
لا تهمُّني ظروف القضية الآن، ولكِنَّني أذكر حجم الإنسانية التي يعيشها أكابر دعاة الديموقراطية، وخصوصًا إذا ما تعلق الأمر بوجودهم السياسي، ويبدو أنَّ (ديفيد كوريش) قد مسَّ هذا الخطَّ (الأحمر)!
وهذا مع الإغماض عن حجم صناعة المخدِّرات وتصدير الدعارة ثقافةً ومادةً، وغيرها من مُدَمِّرات للإنسانية بكلِّ ما تحمل الكلمة من معنى..
كل هذا مقبول، وكلُّه جميل، وكلُّه ديموقراطية، وكلُّه رُقِي وتقدم وعدالة، ولكِنَّ الحديث إذا جاء عن الإسلام، فإنَّهم لا يذكرون غير التطرف والطائفية!!
باتت كلمة (الطائفية) ملتصقة تمامًا بـ(الدين)، هذا وهي لم توضع لخصوص هذه الدائرة، فالطائفية هي العمل بحسب الانتماء للطائفة، دينية كانت أو اجتماعية أو فكرية، وقد يقال عن (الحقوقي) أنَّه طائفي إذا ما صادر الآخرين لمصلحة ما يؤمن به، فالطائفية قائمة عند بعض السياسيين والحقوقيين والاقتصاديين وغيرهم، أكثر مما هي عليه في دائرة (المتديِّنين)، بل أنَّ الأكثر يمارسون أقسى درجات الطائفية عندما يتَّهِمون المتدينين بالطائفية!
إنَّهم يرفضون ما يرونه تدخُّلًا من (الإسلام) في (السياسة)، ولكِنَّهم يسوِّغون لأنفسهم اقتحام وانتهاك ما يشاؤون من (الإسلام) بعقلياتهم (السياسية)، وهذا من أكثر الازدواجيات وضوحًا.
عن ماذا يبحث الناس، نُخَبًا ودون النخب؟
أهي مسألة تدوير نيابي على طريق تحقيق العدالة الاجتماعية؟
وهل تحتاج العدالة الاجتماعية إلى مطالبة في دولة (مدنيَّة) وربَّما (ليبراليَّة).. (علمانيَّة)؟
راجعوا (الإسلام) وانظروا في قواعده السياسية من ألفها إلى يائها، وقابلوا مقابلة علمية بينها وبين دساتير وأنظمة العالم من ألفها إلى يائها، ثمَّ بيِّنوا رفضكم للإسلام حاكِمًا، ولكِن لا يليق بأمثالكم من السياسيين الواعين الفاهمين استيراد مُصطَلَحٍ ملؤه مخالفات علمية، وإسقاطه على (الإسلام) لتعلنوا بعد ذلك رفضكم لما أسميتموه (الإسلام السياسي)!
تعالوا إلى نهاية المطاف وارفضوا (الإسلام) حاكمًا، وهذا شأنكم، ولكِنَّه من المعيب أن تتحسَّس قاماتُ مثل قاماتكم من أيِّ طرح سياسي يعلوه اسم (الإسلام)، وفي نفس الوقت تحملون كامل الاستعداد لتبرير أيِّ تراجع قيمي بتبريرات (الحِنكة السياسية) و(فنِّ الممكن).
قد يكون السياسي على دراية كبرى بمختلف الدساتير وأنظِمة الحكم العالمية، كما وأنَّه يمتلك القدرة الكافية لمناقشتها وتحليلها وما نحو ذلك، ولكِنَّه لا يرى أهميَّة لمطالعة كتابٍ وازن في (سياسة الإسلام)، ومع ذلك، يرفضه ويذم ما لقِّم لفظه، وهو (الإسلام السياسي)!
قد يرى البعض بساطة الأمر، فأحيله إلى المقدمتين، قبل وبعد التحذير من قبول التعاطي مع مثل هذه المفردات الخارجة تخصُّصًا عن أدنى موازين النظر العلمي.
قد تصلون إلى نتيجة مضحكة، وهي أنَّ القضيَّة كل القضية، لن تخرج عن كون الإسلام نظامًا ينادي بالقيم وحدودها، وهناك من لا يرى في التعرِّي – مثلًا – انتِّهاكًا للقيم الإنسانية، ولذلك رفض (الإسلام)، ثمَّ توغَّل في عمق مجتمع المتديِّنين وحصرهم في ثقافة واحدة، هي ثقافة رفض ما أسماه (الإسلام السياسي)، وجعل هذا الرفض في نظرهم تديُّنًا (إسلاميًّا)..
ولا ينقضي العجبُ!



29 أغسطس 2015