Friday, February 27, 2015

على ضفاف الذكريات (12) // ز.كاظم

 
 
بسم الله الرحمن الرحيم

فصل الصيف:

وجاء فصل الصيف وإذا بمجاميع الطلبة يحزمون أمتعتهم سفرًا إلى بلدانهم.. غالبية العوائل الخليجية تشدّ الرحال شوقًا لزيارةٍ عِدَّتُها ثلاثة أشهر.. فأثناء بضعة أيام بعد انتهاء الامتحانات تشهد حالة من الترحال كان رجل الساعة فيها حسن أكبري ذلك الإيراني الخمسيني الشهم الذي يقوم بتأجير ناقلة "U-Haul" لشحن أغراض المسافرين من رواد المركز الإسلامي.. لكل فردٍ حقيبتان يحملهما على متن الطائرة، لكن يقوم الطلبة الخليجيون بشحن صناديق من الحجم الكبير عوضًا عن حقيبة السفر.. صندوقان لكل فرد من أفراد العائلة، فإذا كانت العائلة مكونة من أب وزوجته وثلاثة أولاد مثلًا، فتلك عشرة صناديق من الحجم الكبير ممتلئة بالهدايا والأمتعة وغيرها.. ومن دون طلب أو سؤال، يقوم أكبري بنقل الطلبة وعوائلهم وأغراضهم إلى المطار ذهابًا، وإيابًا متى ما عادوا من رحلتهم بعد انتهاء فصل الصيف. كان أكبري يقوم بذلك من تلقاء نفسه وبكل أريحية وسعادة وراحة بال. ولأكبري الكثير من الوقفات في هذه الذكريات أعرضها في وقتها.. 

     

ولا يقتصر السفر على الطلبة العرب، بل حتى الأمريكان يقومون بالسفر في فصل الصيف.. أما الطلبة الأقل حظًا مِن مَن قُدِّر لهم أن يدرسوا فصل الصيف فهم على موعدٍ مع فصل دراسي ضاغط جدًا، فالدراسة على فصلين خلال ثلاثة أشهر تكثر وتضغط فيها الواجبات والامتحانات، إلا أن فائدتها تكمن في إنهاء عدة مواد في فترة قصيرة جدًا. 

وبالرغم من ضغط الدراسة إلا أن فصل الصيف في مدينة بورتلاند رائعٌ جدًا، فالمناخ جنًاوي وأقصى درجة للحرارة تصل حوالي 80 درجة فهرنهايت (27 درجة مئوية).. والشمس تطلع بازغة في فصل الصيف لتطل بأشعتها الذهبية على أرجاء المدينة التي تغطيها الغيوم طوال العام. وترى الناس تنطلق مستمتعة بأشعة الشمس الدافئة إلى الحدائق والأسواق وساحل البحر وغيرها من الأماكن الطبيعية الخلاقة في مدينة الزهور. كنتُ في البداية أستغرب هذا الوله بالشمس وأشعتها عند الأمريكان كوني قادم من بلاد لا تفارقها الشمس، بل تعودّتُ على الهروب صيفًا من شدة حرارتها، لكن بعد مضي عدة سنوات أدركتُ حينها قيمة تلك الأشعة الدافئة التي تنبثق من الشمس لتشق طريقها بين السُحب التي تخيّم على أجواء المدينة لأشهر طويلة خلال السنة. تبعث هذه الأشعة الذهبية الحياة في المدينة بعد أن خيّم عليها الظلام لشهور.. 

يخرج الناس في كل الأماكن، فبعضهم يذهب إلى الحدائق والغابات، والبعض يقضي صيفه عند البحر، وآخرون يتسلقون الجبال.. ومن أروع الأنشطة التي شدّتني في تلك المدينة لفصل الصيف هو قطف الفواكه والخضروات "u pick"، إذ تقوم الكثير من المزارع بوضع لافتات لقطف الفواكه والثمار وبأسعار زهيدة جدًا. وقد تعرفت على هذه الظاهرة الصيفية عن طريق أبي حسين الإحسائي وسلمان القطيفي إذ خرجنا لقطف الفواكه والخضروات في صيف 1988.. كانت المزرعة التي ذهبنا إليها شاسعة جدًا تحوي الكثير من الأشجار والفواكه كالتوت والخوخ والتفاح وغيرها من الخضروات.. فنقوم بجمع ما نريد ثم ندفع قيمته الزهيدة جدًا لصاحب المزرعة بعد أن قضينا وقتًا ممتعًا في قطف الثمار والفواكه. تشدّك الطبيعة الخلابة، فتمشي بين الشجيرات وتمسك بأوراقها لقطف الثمار، ويطرق مسامعك ضحكات الأطفال وهم ينتقلون من شجرة إلى أخرى.



ومع جمال الصيف وروعة مناخه إلا أنه يشعرك بالوحدة أيضًا، فغالبية الأصدقاء والأصحاب والزملاء بعيدون.. فترة الصيف في بداية حياتي الدراسية كانت من أصعب الفترات التي مرّت عليّ، إذ يشتد الحنين إلى البلد والأهل والأحباب.. لكنه ما يفتأ أن ينقضي لتبدأ بعده سنة دراسية جديدة تخفف قليلًا ألم الفراق والغربة..


في السنوات الأولى من دراستي في أمريكا كانت هناك عدة مجموعات تجمعني بهم صلات الصداقة، وتلك كانت بداية لتكوين الكثير من علاقات التعارف والصداقة مع أشخاص من مختلف الجنسيات والهويات.. كما أنه من الملفت أن هذه المجموعات اختلفت في جنسياتها على مدى سنوات مكوثي في تلك المدينة.. المجموعة الأكثر التصاقًا بها كانت مجموعة المركز الإسلامي وينقسمون إلى فئة القطيفيين والإحسائيين وهم الغالبية وأكثرهم عوائل بل لا أكاد أتذكر منهم أعزبًا في أول سنين الدراسة، وكذلك فغالبيتهم مبتعثون من شركة أرامكو.. وكان هناك عدة أفراد قلائل من عراقيين، وإيرانيين، ولبنانيين، وعماني واحد، وإماراتي (فيصل)، وبحراني (أنا).. وغالبية هؤلاء يسكنون في منطقة بيفرتون، ضاحية من ضواحي بورتلاند. أما الفئة الأخرى، وهم زملاء من الإمارات جمعني إياهم معهد اللغة ويشكلون نسبة لا بأس بها يسكنون في منطقة ليك أوسويجو، ضاحية أخرى من ضواحي بورتلاند. مجموعة صغيرة من هؤلاء الإماراتيين كانوا من بحارنة أبو ظبي من عائلة الصائغ والفردان، وكانت لي صداقة قوية مع أحدهم اسمه خالد الصائغ (سأفرد له فصلًا لاحقًا).

بعد رحيل أبي خليل وأبي علي الذَّيْن كنا في رعايتهما الأبوية، تلقانا برعايته السيد علي من الإحساء (جبل القارة).. يكبرنا السيد علي بعدة سنوات وله من الأولاد حينها ثلاثة وابنتين.. تتسم شخصية السيد بالهدوء والأريحية. كان السيد يؤم الصلاة في المركز، ويلقي دروس الفقه، وله شغف بالرياضة ويستمتع بقضاء الوقت معنا في المساء على كأس من الشاي.. كما كان يدعونا (فيصل وأنا) كثيرًا على وجبات العشاء في بيته.. كان للسيد علي الكثير من التأثير الإيجابي على شخصيتي وكان من أبرز المواقف التربوية موقفين تربويْن رسخا في ذهني.

الموقف الأول كان أثناء لعبنا كرة الطائرة إذ مزح السيد بمزحة لم تعجبني بل جعلتني في حالة غضب عارم بالرغم من احترامي الشديد له، حينها ذهبت إليه ووقفتُ وجهًا لوجه أمامه إلا أنه عاجلني بابتسامة عريضة وقال: "أنا آسف"، مع أن الغضب ظل يفور في داخلي إلا أنه بتصرفه هذا حجّمه بصورة ماهرة وكأنما صبَّ عليَّ ماءً باردًا. بعد عدة أيام كلمته على انفراد حول ذلك الموقف، فقال لي: "إننا في علاقاتنا الاجتماعية نتعرف على بعضنا البعض، نتحاور ونمزح ونضحك، ونبدأ برسم حدود تلك العلاقة تبعًا لاختلاف أو تشابه الطبائع والثقافة والسلوك لكل فرد منا. فما يغضبك مثلًا ربما بالنسبة للآخر شيئًا عاديًا، والعكس صحيح. لكن من واجبنا اتجاه بعضنا البعض أن نتحمل الآخر، وأن نخبر الآخر بطريقة حسنة ما لا نقبله من تصرف أو سلوك لكي يكون على علم وبيّنة. لم أعرف أن ما فعلته في الملعب كان يغضبك، ولكني الآن أعرف ذلك وثق أنني لن أمارسه معك مرة أخرى".



هذا الموقف فتح لدي أفق جديد فهو نبّهني لطبيعة الاختلافات بين البشر في سلوكياتهم وتعاملاتهم، فأكثرنا لا يستطيع أن يعرف الخطوط الحمراء في التعامل مع الآخر، وبالعادة نحن لا نسأل عن ذلك بل نتعرف من خلال العِشرة والمخالطة. فإما أن تكون ضريبة تلك المعرفة للخطوط الحمراء على رؤوس الآخرين فنشهدها ونتعلم منها، وإما أن تكون ضريبة المعرفة على رؤوسنا وحينها قد نُحسن التصرف أو ينتابنا الغضب أو العزة بالإثم. من الجميل جدًا أن يتحمل الفرد منا الآخر، ويستخدم الحكمة في إيصال ما لا يقبل به من سلوك وتصرف للآخر سرًا، وكذلك أن نتحمل غضب الآخر إذا ما أخطأنا في حقه ونحجّم غضبه بالأسلوب الحسن والاعتذار.

أما الموقف الثاني فكان في محل للتسوّق.. كان المكان يحوي الكثير من البضائع من ثياب وأمتعة وأدوات ومعدات كهربية، والكثير من السلع. في تلك الأثناء سألته عن سلوك بعض المتدينين الذين يعتمدون فتاوى تجيز لهم أخذ أموال الكافر بعناوين معينة، منها أن أمريكا بلد مُحارب للمسلمين.. يقوم البعض بإخفاء السلع تحت ثيابهم أو إبدال بطاقة السعر من سلعة أقل ثمنًا بوضعها على سلعة أغلى ثمنًا، فيتم شراء السلعة الأغلى بالسعر الأقل، وغيرها الكثير من الطرق والحِيَل.. سألتُ السيد علي عن تلك الفتاوى ربما لرغبة داخل نفسي لممارسة تلك السلوكيات خصوصًا أن الحياة المعيشية صعبة، ولِمَ لا أفعل وهناك مخرج شرعي يجيز تلك السلوكيات، فقال: "نعم، توجد فتاوى تُجيز أخذ أموال الكافر، فإن كان مرجعك يُجيز لك ذلك فلك أن تفعل أو لا تفعل، ولكني أنا لا أفعل ذلك." فسألته عن السبب؟ فقال: "لكي لا أعوّد نفسي على أخذ مال الآخر حتى لو كان ذلك مُجاز شرعًا.. فما ليس لي، لا حق لي فيه". تركت هذه الحادثة أثرًا بليغًا في نفسي، فالأمانة جوهرة وكرامة وعزة للمؤمن من الإجحاف أن يتم سحقها تحت أقدام حفنة دولارات.  


يتبع في الحلقة القادمة..


28 فبراير 2015

القافلة // ياسر المعلم


 


إنها صحراء الحجاز في عام 61 للهجرة

امعن النظر، سترى تلال الرمال تعصف بها الريح.. دقق النظر في عمق الأجواء الرملية والصحراء القاحلة، سترى شبح قافلة تسير.. اقترب أكثر، إنهم أطفال ونساء ورجال، يطبق عليهم صمت غريب، ما خلا صوت النياق وحاديها.. أجسادهم مرهقة، ولكنهم يحثون الخطى في ثبات مهيب، وأرواحهم  تحلق شوقًا بين السماء والأرض.

حاول الإنصات مرة أخرى لتخترق صوت الريح المحملة بالرمال وتضرب في القافلة، بل تضرب في كل اتجاه، وتهز سكون المكان.. انصت جيدًا، ذلك الصوت الآتي من القافلة، أشبه ما يكون بدوي النحل، إنه صوت الأطفال والنساء والرجال، يتمتمون بذكر الله (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) وتسبّح الله.. إنه ذلك الاتصال واليقين الذي لا ينقطع بالله.. إنه ذلك الخشوع والتسليم بما هو آت.. إنها القناعة بالسير في ذلك الطريق، وياله من طريق طويل، شاق، ومتعب، تسير فيه  وحيدًا ضد كل الظروف القاسية.
 
 

- يا ترى ما هو سر تلك القافلة؟!
- وما هو سر الطمأنينة والتسليم؟! رغم المصير المفجع الذي ينتظرهم!!!
- ما هو سر هذا الثبات؟!
- كيف استطاعت صرخة الحسين أن تخترق صمت الصحراء المطبق وتدوي كلماته ومبادئه عبر العصور؟!.

كثير منا يعرف الإمام الحسين (ع) أو يحاول التعرف عليه من خلال تلك المعركة التي استمرت نصف نهار في تلك الصحراء، محاولًا اختزال الإمام الحسين (ع) في تلك السويعات.

إلى كل من أراد أن يعرف الحسين
إلى كل من أراد أن يمضي على نهج الحسين
إلى كل من أراد أن يركب سفينة الحسين
أدعوه إلى السير مع قافلة الحسين (ع) والقبض من أثرها.

تلك القافلة، التي يخطأ الكثيرون بأنها بدأت في حج ذلك العام، واهم من أراد فهم الحسين (ع) فبدأ خطواته من هناك.

قافلة الحسين ضاربة بجذورها في عمق التاريخ بل في عمق الخليقة، هي كلمة الله وإرادته (إني جاعل في الأرض خليفة).. إنها سر الوجود وسر المصير، سر العذاب وسر النعيم.

إنها رحلة الخلق والكون، وقوافل الرسل التي سارت كلها خلف تلك القافلة، لتقفل القافلة، وتعود إلى البدء، فمنهم البداية وإليهم النهاية.. وفي البدء كانت الكلمة، كلمة الله فيهم وبهم.

إنها حركة القافلة، تتحرك لتحرك الكون من حولها، تصنع المعجزة، تصنع الإنسان، الذي يرقى فوق مصاف الملائكة إذا ارتقى.

وواهم مرة أخرى من يتصور أن تلك القافلة قد توقفت في كربلاء، أو في قصر الطاغية يزيد، بل لا زالت تسير وتتحرك وتحرك الكون من حولها.


28 فبراير 2015

أبناؤنا أمانة // أم حسين


(الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا).
 
أغلى النعم التي يهديها الله جل وعلا إلى عباده هي الأولاد، تزهو وتزدهر الحياة بهم.. تنشأتهم مسئولية عظيمة يجب أن تقوم على أسس سليمة، أولها المعرفة الصحيحة لعلة وجودهم.
 
يفرح الأبوان عند قدوم طفل جديد، فهو ثمرة ذلك الزواج، هو الامتداد والسند والذخر الكبير لأيام الكبر والمشيب، وفي غمار تلك الفرحة والحب الممتدان على مدى خط هذه العلاقة يغيب عن بعضهم الهدف الأكبر لوجودهم فهم أمانة حملتها يا أبن آدم على عاتقك، هدفهم كما هدفك خلافة الله في أرضه.

(خلافة الله في أرضه)، قد نشعر بعظمتها وضخامتها، ولكننا نستشعر عُمقها ودقتها حينما نشدُ أساسياتها  لأبنائنا ليرتفع عليها بنيانهم الصحيح في هذه الحياة..
نحن بكل ما نحمله من أفكار أسسها آباؤنا تحمل جوانب صحيحة وأخرى خاطئة حددت واقعنا الحالي.. اليوم نحن نقف في ذات المكان فالأدوار تتناوب. فمن الطبيعي أن نحاول عدم توريث أبنائنا الجوانب النفسية السلبية التي ورثناها، ورغم الحذر إلا أنها، تتوارث.. فالبداية تكون بتغيير ما في أنفسنا.
 
أبناؤنا أمانة..
 
من أكثر المشكلات التي قد تؤثر على الصحة النفسية للطفل وتلازمه طوال حياته، سلوك التمييز والتفضيل بين الأبناء، تختلف الأسباب المؤدية إلى هذا التمييز وعلى سبيل المثال لا الحصر (عمر الطفل) فيدلل الطفل الأخير ويحظى الأول بنصيب الأسد من الاهتمام والتشجيع فهو الفرحة الأولى ومحط آمال الأبوين، ويضيع بين دلال الأخ الصغير والاهتمام  بالأخ الكبير الابن الأوسط، فتتملك نفسه مشاعر سلبية تفقده الثقة في نفسه، فيشعر بالغربة في ذلك المنزل، وينطوي على نفسه.

آلمتني كلمات قرأتها لطفل هارب من بيته لا ذنب له سوى أنه احتل الترتيب الأوسط بين أخوته يقول:
 
(مذ جئت إلى هذه الدنيا وأنا أجد نفسي شخصًا غير مرغوب فيه داخل المنزل، وعلى النقيض من اخوتي عشت ساعات النهار والليل حبيسًا بين جدران حجرتي، لا أحدٌ يشعر بتعاستي الشديدة، وكلما وقفت أمام والدي يصفني بالكآبة والانطواء ويدلل أخي الأكبر وأختي الصغرى.. أهرب بعدها إلى وسادتي صديقتي الوحيدة التي تشهد دموعي من دون أن تتكلم وتعلم أنني أنتظر اليوم الذي أغادر فيه هذا المنزل الكئيب إلى آخره...)

كثيرة هي الدراسات التي دارت مواضيعها حول أسباب هذه الظاهرة المدمرة لنفسية الأطفال والممتد أثرها على مدى حياة ضحايا التمييز. وقفت على دراسة كندية طويلة قام بها باحثون من جامعة تورنتو وجامعة ماكستر ونشرت في مجلة تنمية الطفل (journal Child Development)، أثبتت بأن منشأ هذا السلوك هو التعرض لضغوظ نفسية كبيرة خلال حياة الأبوين كما وسبب آخر يفسر ذلك منشأ ذلك السلوك وهو افتقار معرفة الاختلاف بين شخصيات ونفسيات وقدرات الأطفال.
 
وأشارت إلى جانب مهم جدًا وهو أن معاملة أحد الأطفال بشكل سلبي وتمييز طفل عن آخر لا ينعكس بالسلب على الطفل الذي يعامل بشكل سيء فقط، ولكن تمتد آثاره حتى بقية الأطفال في العائلة.
 
كيف لا! فالأسرة بنيان واحد يشدد بعضه بعضًا فإن ضعف أحد أعدمتها حتمًا يتأثر الباقي. تحكي لي صديقتي وهي آخر العنقود فتقول:
 
احتوتني أمي بحب كبير طيلة سنوات حياتي، دللتني وميزتني عن باقي اخوتي، ورغم كل ذلك كنت أشعر بالوحدة فضريبة تمييزي كانت كبيرة ومؤلمة فقد فقدت صداقة اختي لأعوام.. ما زلت أتألم كثيرًا عندما يتفوه أحد اخوتي بعبارات إنني المميزة والدلوعة معتقدين بأنها هبة من الله غافلين عن الجانب السيء منها، كبرت وأمي كما هي معي.. حاولت كثيرًا أن أقنعها بأنني (لست أفضل منهم) وأنهم يستحقون كما استحق بل هم في أمسّ الحاجة لها ولكنها لا تريد أن تفهم، فعندما تميزني أمامهم أكره نفسي.. فلم أجد حلًا للتخلص من تلك المشاعر سوى الابتعاد قليلًا عنها علني بذلك أفسح المجال لاخوتي، فحبي لهم أكبر من حبي لنفسي بكثير.
 
لم يغفل الثقل الثاني من ديننا هذا السلوك فهناك أحاديث للنبي (ص) وآل بيته الكرام تحذرنا من التفريق في إظهار المحبّة بين الأبناء، داعية إلى المساواة بينهم.
 
ورد أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نظر إلى رجل له ابنان، فقبَّل أحدهما، وترك الآخر، فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "فهلا ساوَيْتَ بينهما".
 
يبرر أحد الآباء موقفه ويقول:
لديه خمسة أولاد أميز أصغرهم على بقية اخوته، رغماً عني؛  لا أستطيع أن أتخلص من إحساسي بأن هذا الطفل لن يحظى مني بالحنان والرعاية التي تمتع بها اخوته الأكبر منه. في بعض الأحيان أشعر أنني قد أفسدته بتدليلي، لكن هناك شيئًا بداخلي يدفعني إلى ذلك دون أن أقصد، وأتمنى أن يتفهم أولادي الدافع إلى هذه التصرفات.
 
كأبناء هل بإمكاننا تفهم  ذلك!!؟ هل بإمكاننا أن نُأطر كل تلك النتائج الممتدة لسنوات بهكذا تبرير!!!
 
تقول السيدة نهى بدر (متخصصة في علم الاجتماع):
رغم أن الابن الأوسط قد يعاني من الإهمال إلا أنه يستفيد من هذا الأمر على المدى البعيد، فهو يتمتع بشخصية أكثر استقلالًا ويستطيع أن يفكر ويبدع "خارج الصندوق" لأنّ نصيبه من الضغوط والأوامر الأبوية يكون أقل من سواه، وهو يمتلك مشاعر ودّ جميلة إذ يستطيع أن يصبح أكثر تعاطفًا و يتمتع بمهارات كبيرة في العمل الوظيفي كما يمتلك قيمًا إنسانية وغالبًا ما تُحركه أسباب اجتماعية ليبدأ مشروعه الخاص، وقد يصبح من أعظم المبتكرين والقادة العظماء.
 
قارئي العزيز ..
 
رسمت كلماتي ملامح لصورة تعرفها جيدًا.. صاحبها يحتاجك كثيرًا.. ينتظرك فلا تتأخر عليه وإلا سيرحل عنك حاملًا قطعة منك..


28 فبراير 2015

 

لون الفُستان.. أزرق؟ أم ذهبي؟ // أبو مقداد

 
 
انتشرت مؤخرًا صورٌ لفستانٍ أثار ضجةً وجدلاً كبيرًا بسبب لونه الغريب، تناقلته الكثير من الشبكات الإخبارية (1) ومواقع التواصل الاجتماعية، وحسب إحصائية عملها أحد مواقع الإنترنيت، كان 167 ألف شخص قد رأى الفستان باللون الأبيض والذهبي، بينما 55 ألف شخص قد رأى ذات الفستان باللون الأسود والأزرق.
 
صورة هذا الفستان انتشرت بسرعة البرق ويكاد لا يخلو هاتف أحد من هذه الصورة والجميع يسأل.. أزرق وأسود؟ أم ذهبي وأبيض؟
 
 
 البعض كان يتناقل من أجل التسلية، والبعض الآخر اهتمّ بالتحليل العلمي أو العقلي لهذه الظاهرة، فبعضهم أجرى اختبارًا عبر برنامج الفوتوشوب ليتأكد بأن اللون الحقيقي هو الأزرق والأسود، والبعض الآخر حللها علميًا أن اختلاف رؤية لون الفستان لاختلاف تشابك المخ وهو ما يحدث أثناء محاولة المخ لفصل الألوان عن الإضاءة الخلفية، والبعض علل هذه الحادثة لأن البعض يستخدم الجانب الأيمن من مخه أكثر من الأيسر أو العكس، وتوالت التحليلات والتفسيرات والاندهاشات حول فستانٍ اختلف لونه بين أعين الناس.. ماذا نلاحظ؟
 
لا يهمني فعليًا ما هو لون الفستان الحقيقي، بالرغم من أنني لم أفهم واقعًا لِمَ رأيته أزرق، وغيري رآهُ ذهبيًا.. بل لم أفهم كيف له أن يراه بشكلٍ مغايرٍ تمامًا لما رأيته، وكل التفسيرات العلمية والعقلية لم تجذبني نحو تصديقها، بينما الأمر الذي شدَّني جدًا هو تفاعل الناس على مختلف طبقاتهم وأنواعهم معه.. والسبب حسب ملاحظتي، أن الناس ومن خلال الفستان أدركت بأن اختلاف وجهات النظر أمرٌ وارد، ولا بدّ لنا من أن نقبله وإن لم نجد له أي تفسير، فأنا لا أعلم كيف يرى فلان هذا الفستان ذهبيٌ، ولكني متيقن أنه يراه كذلك، فأعود لأسأل الآخرين.. كيف ترونَ الفستان؟ فإما يتفقون معي.. أو فهم يزيدون حيرتي.. ونحمد الله بأن لون الفستان لا يمثل حزبًا أو فصيلًا معينًا.. حتى لا تنشب حربٌ بين من يرونهُ أزرقًا.. ومن يرونه ذهبيًا.
 
انتشرَت صورة الفستان بشكلٍ ضخمٍ جدًا، وربما كانت علة الانتشار هذه أنها مرة من المرات النادرة والقليلة التي يختلف فيها الناس، الرجل وزوجته، الصديق وصديقه، والمعلم وتلميذه، وغيرهم في وجهات نظرهم من دون أن يفسد الخلاف في الود قضيةً بشكلٍ حقيقي، لا كشعارٍ يُرفعُ فقط، ولا أعلم إن كان الفستان دليلًا كافيًا للبعض على أن ما يرونه ليس هو الحق والصواب دائمًا أم لا!
 
في حياتنا عشرات، بل آلاف الفساتين التي نعيش معها، نراها سوداء، ويراها الآخرونَ بيضاء، والعكس، نتمسكُ بما نراهُ فيها وندافع عنه، والمشكلة أننا لا نتمكن من أن نفهم أن للآخرين نظرةٌ أخرى. لو أمعنّا البحث سنجدُ الكثير من الأمثلة التي نتعاملُ معها كالفستان، فمثلًا ليست الأذواق واحدة، وأنا لا أحب فاكهة المنجا التي يعشقها الكثيرون، بينما الكثير لا يحبُّ الطماطم التي أعشقها! وهكذا الأمثلة أمامنا معتادون عليها، إلا أن في الكثير من الأحايين لا ننتبهُ لها كمثالٍ لإمكانية حدوثها في الأمور الحساسة، بما معناه أنا نتقبلُ أن يُختلفَ معنا في أمورٍ تافهةٍ كلونِ الفستان هذا، أو في بعض المسائل الذوقية والنسبية، ولكن لو اختُلِفَ معنا في أمرٍ حساسٍ فكري مثلًا، لربما تنشبُ حربٌ لا نعرفُ كيف من الممكن أن تهدأ، ويكون كِلا الطرفين فيها يرى من زاويته الخاصة لونًا مختلفًا عما يراه الآخر، وكلاهما يعطي نفيه الحق أن يرى الفستانَ أزرقًا ويسلبُ الحقَّ من الآخر أن يراهُ ذهبيًا.
 
الأشياء ليست كما تبدو عليه، ليست دائمًا على أقل التقديرات، والكثير من الأفلام التوعوية، والكاريكاتيرات، والمقالات تم نشرها والتي تدعوا لاحترام وجهات نظر الآخرين، وتقبل اختلافها، وربما هذا المنشورات تقنع الكثيرين، ولكن حين تكون القضية حقيقية، لا يتمكن هؤلاء من تذكّر هذه الأمثلة حين نحتاجها حقًا، لذلك أنا هنا لا أدعو أبدًا لاحترام وجهات النظر المختلفة، ولا أدعو لتقبل فكرة أن للآخرين حق الاقتناع بآراء مختلفة عن ما أراه، إنما أدعو لأن يدرّب الإنسان نفسهُ بأن يعملَ ويجتهد ويُأقلِمَ نفسهُ للحياة بينَ من يختلفونَ معهُ، وأن يستثمر هذهِ الاختلافات لصالح الرؤية التي يتمسك بها بدل أن تُشعلَ فتيلَ الحربِ بينهُ وبينَ نفسهِ.. وبينَ الآخرين.
 
ما أعتقدهُ جدًا، أن النجاحَ يعني أن يكونَ يومي أفضلَ من أمسي، لا أن أكونَ أفضلَ من الآخرين، لذلك أن يتفق معي الآخرون أو يختلفون، هذا أمرٌ لا يشكلُ هاجسًا لدي، كذلك لن أعتبر نفسي ناجحًا، ولن أعتبر فكرتي حقةً ومنتصرةً إن اعتمدت على إثبات أن فكرة الآخرين خاطئة، ففشل الآخر لا يعني بالضرورة نجاحي.
 
القناعات تتكون في أذهاننا من طريقين، إمّا طريقٍ ذاتيٍ، وإمّا مكتسبٍ.. فأمّا الطريق الذاتي فهو ما يكون نتاج التفكير والبحث والتأمل والتفكيك والتحليل والخبرات والتجارب وغيرها، وأما المكتسب فهو ما نحصل عليه كقناعات جاهزة بواسطة أحدهم أو عن طريق الكتب أو البرامج التلفزيونية مثلًا أو غيرها، وبطبيعة الحال فإن ما نحصل عليه ذاتيًا تكون علاقتنا به أوثق وتمسكنا به أكبر من قناعاتنا المكتسبة. ما نحتاجُ إليه هو أن نفهم أن للآخرين قناعاتٌ تكونت بذاتِ الطريقين، ونحن لا نملك الحقُّ أن نتدخل في الطريق الذاتي ونتحكم فيه أولًا، وعلاقتنا بالطريق الثاني إن كنّا ننوي أن نكون مصادرَ اكتسابٍ لقناعات الآخرين لا تتجاوز الحد الذي رسمه الله سبحانه وتعالى للنبي محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله أجمعين، وهو نبي الأمة الذي لا ينطق عن الهوى حين خاطبه قائلًا: (فَذَّكِّر إنَّمَا أَنتَ مُذَكِّر، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِر) ثم يقول: (إنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ، ثُمَّ إنَّ عَليْنَا حِسَابَهُمْ) (2)، وهذا ما يوضح لنا بأن وظيفتنا إن أردنا، هي التذكير والبيان، ولا نملك السيطرة على اتجاه تفكير وقناعات الآخرين، بل حتى النبي لم يكن يملكُ هذا الحق تجاه الكفار، فوظيفته هي التبشيرُ والتنذير، وإن استعصى الأمر فـ (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينْ) (3).
 
لم يكن وجود الكفار في زمن النبي محمد (ص) عائقًا يجعله يوقف دعوته لدين الحق، ولم يكن وجود النواصبِ وأعداء أهل البيت يوقفَ المعصومينَ (ع) من أن يستمروا في عملهم الرسالي، ولم يكن سبُّ عليٍّ في منابر المساجد يشكل مغريًا لينشغل الأئمة وشيعتهم به عن وظيفتهم الحقيقية، إنما كان الجميع يعي بأن حال الدنيا أن يكون حقًا وباطلًا في كل مكان، ونورًا وظلامًا في كل زاوية، والله وابليس في كل شيء، ووظيفة الإنسان هي الاختيار، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَةٍ خَيرًا يَرَه، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه) (4).
 
ختامًا، أقول بأنه من الممكن جدًا أن نتقبل فكرة أن يختلفَ معنا الآخرون، ومن المهم جدًا أن لا يعيقنا، ولا يوقفنا، ولا يفقدنا هدوءنا وحكمتنا.. أن يختلف معنا الآخرون، فقط لا بدّ أن نعي ونستوعب هذا، وأن نفهم أن الانشغال باختلافات الآخرين، سيعطِّلَ فكرتنا التي نؤمن بها ونتمسك بها، فمن أجل هذه الفكرة، لا بدّ أن نجد طريقة نتعايش بها مع الاختلافات دائمًا، ولتكن دائمًا اختلافاتنا رحمة، لا داعي أبدًا لأن تكون حربًا.. وبذات الدهشة والإبتسامة التي رأينا فيها الفستان أزرقًا أو ذهبيًا، نستقبلُ اختلافاتنا، بابتسامةٍ ودهشةٍ، ونمضي فيما نؤمن به، فـ 167 شخصٌ قالوا بأن الفستان ذهبيٌ.. وهذا لم يغير قناعتي في أن الفستان أزرق، بل دفعني لأن أبحث عن الدافع الذي جعلهم يقولون أنه ذهبيٌ، ثم دفعني ذلك للاستفادة من موقفهم تجاهي حين رأيته أزرقًا، وموقفي تجاههم، فكانت النتيجة أن كُتب هذا المقال.
 
 
28 فبراير 2015
___________________________________________________
(2)سورة الغاشية
(3)سورة الكافرون
(4)سورة الزلزلة 

الشُيُوعِيَّةُ، وإنْ غَابَ أو (غُيِّبَ) رَسْمُها (18) - "مناقشات وردود (9) / استراتيجيَّة العمل البرمجي السرِّي" // محمد علي العلوي

 
 
عريضةٌ مِنَ المجلس المركزي إلى عصبة الشيوعيين، كتبها كارل ماركس وفريدريك إنجلز، جاء في فقرتها الأولى:
 
"وفي الوقتِ نفسِه، فإنَّ الشكلَ القديم والمتين لتنظيم العصبَة قد تراخى كثيرًا، والعديدَ مِنَ الأعضاءِ الذين انخرطوا مباشرةً في الحركةِ الثوريَّة، تصوَّرُوا إنَّ عهدَ الجمعيات السرية قد ولَّى، وإنَّ العمل العلني وحده كاف. وقد ترك عددٌ معيَّن مِنَ الحلقاتِ ومِنَ العِمِّيَّات صِلاته بالمجلس المركزي تتراخى وتضعف شيئًا فشيئًا. وبينما كان الحِزْبُ الديموقراطي، حزب البرجوازية الصغيرة، يُنَظِّمُ نفسه أكثر فأكثر في ألمانيا، كان الحزب العمَّالي يفقد رابطه الوحيد الصلب".
 
وفي بعض أُسُسِ وأصول التنظيمات السريَّة (الإسلامية)، وجدتُ التالي:
 
"فالتنظيم يتكامَل بَعْدَ:
 
1- زرع رؤى وأفكار الحركة في الفرد.
2- إلزامه ببرنامج الحركة العملي.. منطلقًا، ووسيلةً، وهدفًا".
 
وفي موضع آخر تحت عنوان (مرحلة الاختيار) جاء:
 
لا بُدَّ في هذه المرحلَة مِنْ معرِفَةِ:
 
1- مُحصِّلة القوى الضاغطة على الفرد، والتي تتمثَّلُ في: الأب، والعائلة، والأصدقاء.. فكلَّما كان ضغطُ القوى الأخرى أقل، كان تأثيرك فيه أكثر، وكانت صلاحيته للتنظيم أكثر.
 
أمَّا الفرد الذي يخضعُ للضغوط الأخرى، فإنَّ الكلمات التي تتحدَّثها معه تذهب هباءً، فأنت إذا كُنْتَ تراه في الأسبوع مرَّتين، وتتكلم معه عن العمل الحركي لمدَّة ساعتين، فإنَّ الآخرين يرونه كلَّ يومٍ عشر مرات، ويتحدَّثون معه كلَّ يوم أكثر من عشر ساعات.. وهكذا يتبخَّر تأثيرُك في زَحَام الضغوط الأخرى.
ولمواجهة القوى الضاغطة يُوجَدُ طريقان:
 
الطريق الأول: نَسْفُ القوى المؤثِّرة عليه.. فإذا رأيتَ الصديق الذي يمشي معه يؤثِّر فيه بشكل سلبي، أو أنَّ الخطيب الذي يستمع إليه ينقل إليه أفكارًا كسولةً متخاذِلَةً، فحاول أن تَنسِفَ علاقته مع ذلك الصديق، وأن تقطع علاقته بذلك المنبر، وذلك يتمُّ عن طريق التكلُّمِ معه، أو جعل برامج جديدة مكان الفراغات التي تحدث في حياته.. فعِوَض الصديق الأول تجعل له صديقًا آخر، وعِوَض هذا الخطيب، تجعله يذهب إلى محاضرة أخرى.
إنَّ الوقاية خيرٌ من العلاج، وقَطْعُكُ العلاقة بمنابع التخلُّف في حياتِه لهو أفضل بِكَثير مِنْ أنْ تُعالج الأمراض المعنوية التي يُصَابُ بِها مِن جَرَّاء اتِّصاله بهذه المنابع، بل قد لا يُمكِنُ العلاج إذا انتَّقلت إليه عدوى التخلُّف – في بعض الحالات-.
 
الطريق الثاني: تزريق الفرد بقدرات صموديَّة هائلة يستطيع بها مواجهة الضغوط التي تنصبُّ عليه، وتحاول تحريفه عن الطريق (التنظيمي)..
والأسلوب الأول هو أفضل بالطبع، إلا أنَّ الأسلوب الأخير يمكن أن يُستعان به في ما إذا لم تكن الظروف تسمح باستخدام الأسلوب الأول".
 
ثُمَّ يتحدَّث عن طريقة تحصيل المعلومات عن الأفراد المُنَظَّمين، فيقول:
 
1- مراقبته والسؤال عنه من أصدقائه ومعارفه.
2- مطالبة أصدقائه (المُنَظَّمين) بكتابة تقارير مفصَّله عنه.
3- مراقبته في النشاطات الاجتماعية العامَّة لمعرفة مواهبه وقدراته القياديَّة والتوجيهيَّة.
4- مناقشته في بعض القضايا والأفكار لمعرفة اتِّجاهاته وآرائه، ومدى مواهبه الذهنية.".
 
لو إنَّنا نبتعد قليلًا عن العمق المادي الذي زرعته الرؤية الماركسيَّة في ثقافات المجتمعات قبل تقاطعاتها مع التوجهات الرأسمالية وبعدها، وقد تناولناها بشيء من التفصيل في حلقات سابقة، وانصرفنا لمراقبة البُعد التنظيمي للحركة الشيوعية، لوجدناه متقاطعًا مع مختلف التنظيمات الأخرى، دينية وغير دينية، في أمرين رئيسيين:
 
الأول: توجيه عقلية الفرد المُنَظَّم في اتجاه واحد فقط، هو الاتجاه الذي يؤمن به التنظيم ثقافة وفكرًا ورؤى.
 
الثاني: المحافظة على إبقاء الفرد المُنَظَّم تحت السيطرة التامَّة للقيادة التنظيميَّة، أو (الحزبيَّة).
 
قد لا يكونُ كثيِرُ نِقاشٍ في الأمرِ الثاني؛ فالالتزام بالقيادة بالنسبة للمنتمي أخلاقيَّة انتمائية تُحَدِّدُ سعتَها ثقافة التيار وفكره التنظيمي.
 
الكلام في النقطة الأولى، فهي في الواقع: حبْسُ الفرد في توجُّهٍ فكريٍّ واحِدٍ، وهذا السلوك التنظيمي يؤدي بالفكر الأوحدي في الإنسان إلى أن يتحوَّلَ هويَّةً، يصعُب القبول بِمَا يمسها، فضلًا عن ما يُهَدِّدُ وجودَها، وهذا الارتكاز الثقافي ينتهي بشكل تلقائي - غالبًا - إلى ثقافة الضدِّ مع الآخر الذي لا يمكن إلَّا أن يكون في موقع المُهَدِّد بالنسبة له، وإن لم يكن كذلك واقعًا، إذ إنَّ القضية تنتهي إلى هذه المرحلة لمجموعة مقتضيات مُرَكَّبَةٍ ذِهنيَّةٍ ثقافيَّةٍ ونفسيَّةٍ، وهي مرحلة تدفع الفردَ المُنَظَّم في اتِّجاه تحصيل مفرادات محدَّدة من الجدليات والمغالطات كأدوات ينتَّصر بها لما هو عليه، ولا يفكر في غير ذلك، لا لعدم إرادَةٍ، ولكن لضعف القدرة عن الخروج من دائرة التسلط الثقافي الذي فرضته التنشئة الحزبيَّة التنظيميَّة.
 
في عريضة المجلس المركزي المُوَجَّهة لعصبة الشيوعيين، يتحدَّث ماركس وإنجلز عن خطورة التهاون في العمل التنظيمي السرِّي، وكيف إنَّه أدى إلى تباعد الخطوط التنظيميَّة وغلبة الأحزاب المنافسة الأخرى، وهذا النَفَسُ الحزبيُّ التحزُّبيُّ التنظيميُّ نجِدُه من خلال آثاره متفشيًّا في مختلف المجتمعات التي لا زالت تعيش تلك الفكرة الشيوعية، وأمَّا الأحزاب في الدول الغربيَّة فقد تجاوزتها وحقَّقت عناوين عملٍ جديدة أفرزتها التحوُّلاتُ السياسية في اتِّجاه الديموقراطية والبرلمانيَّة.
 
وينبغي الالتفات هنا إلى إنَّ ذاك الذي تبنَّاه الحزب الشيوعي وغيره، لم يبقى على حاله، فالتنظيم اليوم يتَّخِذُ - كما أرى -، شكلين، أو فلنقل مستويين:
 
المستوى الأول:
التنظيم في العمق، وهو الدائرة القياديَّة العليا والقيادات المُتَّصِلة بها، إضافة إلى الكوادر الرئيسية في العمل الحزبي التنظيمي.
 
المستوى الثاني:
التنظيم الجماهيري، ويعتمِدُ السيطرة على الجماهير عن طريق استغلال الوجود السيكلوجي باحترافيَّة ترتكز على التثقيف الداخلي بآليات وأدوات متعدِّدة، ثم التثقيف الخطابي الخارجي.
 
أمَّا الداخلي فجوهره البناء العقائدي، ولا يُحصَرُ في العقيدة الدينية فقط، فهو بناء يجعل من الفكرة الحزبيَّة عقيدة، والقائم عليها ربًّا، والراعي لها إلهًا، ومن خلال هذا التركيب تُنَظَّم مجاميع الشباب بغير عنوان التنظيم، وتتوسع الفكرة، لا بمسمى الانتماء الحزبي، وتقوم هذه الجماهير بتنظيم غيرها والتوسع من خلالها توسُّعًا ذاتيًّا متعاقب التوالد.
 
ولذلك فإنَّ أحدًا من الجماهير المُنَظَّمة فعلًا لا يشعر بانتمائه التنظيمي للجهة التي يؤمن بفكرها، ولكنَّ الواقع خلاف ذلك، فهو ومن خلال الآثار يظهر كونه مُنَظَّمًا كما كان أولئك في السابِق منظَّمين تنظيمًا سرِّيًّا.
 
بملاحظة الثقافة السائدة بين الأحزاب والتيارات، تنكشف هذه الأبعاد التي أطرحها في هذا المقال، فإنَّه لو برز ما في الصدور، لما خفي تكفير هذا لذاك، وتفسيق ذاك لهذا، وفي تصوري، إنَّ أقلَّ تَدَبُّرٍ يُمكِنُ أن يُوصِلَنَا لهذِه النَتِيجَة وأكثر.
 
إنَّنا نرى بوضوح كيف تتمُّ عمليَّة التنفير من الآخر، وبعناوين القربة من الله تعالى، بل وأكثر من ذلك إنَّ الثقافة التنظيميَّة البرمجيَّة الموجَّهة، قد تجاوزت التيارات بالمفهوم المعروف، ووصلت إلى مفاهيم جديدة مثل منظمات حقوق الإنسان والجمعيات الخيريَّة والهيئات الإعلاميَّة وما شابه!
 
في ختام المقال، ألفت نظرَ القارئ الكريم إلى إنَّني لا أناقش الحراكات السِرِّيَّة التي قد تقتضيها، بل تستوجبها الظروف الأمنيَّة وما شابه، ولكِنَّني أشير إلى البعد البرمجي الذي يُمارَسُ على الأفراد المستهدفين تنظيميًّا، والذين يتحوَّلُون عند التيار المُنَظِّم أدوات لتحقيق الغاياتِ والأهدافِ. غاياتُ وأهدافُ حَقٍّ كانت، أو غير ذلك، فإنَّ المثير في الأمر هو تسويغ هذا النوع من السيطرة على العقول، وهو ما يُحارِبُه المُنَظِّمُونَ نفسُهم في الآخرين، ولكِنَّهم يُشرعنونه لأنفسهم ويبرِّرونه بموازين الحق ومعايير الإنسانية، فتضيع البوصلة ويتحول الحقُّ إلى قضية نسبيَّة!

ويبقى سؤالان أطرحهُما الآن وفي خاتِمَة كل حلقة من حلقات هذه السلسلة:
 
بأيِّ عينٍ وثقافةٍ ونَفْسِيَّةٍ ورُوحيَّةٍ نقرأ كتابَ الله المجيد وأحاديثَ المعصومين (عليهم السلام)؟
 
هل نحن على الطريق الصحيح أو أنَّنا في حاجة إلى مراجعات عاجلة وجادَّة جِدًّا؟
نلتقي في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى..
 
28 فبراير 2015

فلها!! وربك يحلها // أم علي

 
 
يقول أحدُ أمثال الحواري ((فلها!! وربك يحلها))
 
هذه المقولة عبارة عن (one way ticket) إلى التواكل، فاليأس، ثم معيشة الضيق والضنك، لا هدف فيها ولا غاية.
 
قد يقال: (ويش نسوي.. مافي يدنا شي، فخلنا نماشي الدنيا)!
 
هذا كلام (يودي في داهية)، فتمشية الأمور بحجة المسايسة، ثقافة أسميها بثقافة الموت، فارحم نفسك من موت لا تدري من أين يأتيك، ومتى.
 
نعم، سِسْ الأمور، ولكن بمنطق البحث عن الحل وليس الانزواء على رصيف الحارة، وانتظار مائدة يُنزلها الله عليك من السماء!
لن تنزل المائدة، وسوف تكون من أولئك الذين ليس لهم في الآخرة من خلاق، فانتبه قبل أن يُطلِق القطار زعقةَ الرحيل.
 
بين أيدينا آية قرآنية نحتاجها قانونًا في حياتنا:
 
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)
 
المشاكل والمصائب والكوارث، كلها من سنن الله عز وجل التي لم تغادر نبيًا ولا رسولًا ولا وصيًا إلا واشتغلت فيهم حتى استيأس الرسل!
 
كم هي صعبة هذه الحياة، ولكن حلاوتها في صعوبتها، وليس في (فلها، وربك يحلها)..
تعالوا لنسطر على صفحة السماء خيالاتنا.. أفكارنا.. آلامنا وآمالنا وأحلامنا..
تعالوا لو نؤمن بها ونبني لها..
صدقوني لو فعلنا، لحقَّقنا ما أسموه مستحيلًا، ولذللنا أشدَّ الصِعاب، ولمحونا الفشل باليقين.
 
اعلموا يا أهلي وناسي.. اعلموا يا أحبتي، بأنَّه لا أحد يستطيع منعنا من أن نحلم..
فلنحلم، ثمَّ فلنشدَّ حيازيم الهمم ونبحث عن:
 
كيف نحقق أحلامنا؟
 
نعم، هذا هو السؤال الذي تحمله العقول الكبيرة.
لو رأينا مفكرًا يتحدث في أمر لم نألفه لقلنا عنه: مجنون.
نعم، هو جنون بمنطقنا، ولكنَّه عاقل حكيم بمنطق أصحاب الهمم الذين رفضوا واقعهم الكئيب، وقرروا النهوض من سبات الكسل وأرصفة الحواري..
 
تعالوا لنحلم..
تعالوا لنأمل..
تعالوا لنتعلم..
تعالوا لنحقق أحلامنا..
 
 
28 فبراير 2015

القوة.. ليست عضلات // إيمان الحبيشي

 
 
تحدثت في مقال سابق عن نظرة الإنسان العربي للقوة(1)، واختزاله إياها في القوة البدنية والعسكرية، منذ ما قبل الإسلام حتى اليوم، وهو ما قد يفسر حالة القمع المزمن الذي تعيشه المجتمعات العربية والإسلامية بقوة السلاح والنار.
 
على مدى العقود الفائته، يتضح للمتتبع لحال الأوطان العربية والإسلامية، أنَّ الحكم فيها دائمًا كان بقوة السلاح، ومتى ما ثار على الحكم آخرون، فإنهم غالبًا يثورون بقوة السلاح أيضًا، فيستبدلون سلطة حكمتهم بالنار، بسلطة أخرى لتحكمهم بالنار كذلك.. وغالبًا ما وقعت هذه السلطة بذات الظلم الذي وقعت به سابقتها.
 
وهكذا كانت ولا زالت الشعوب العربية، تعيش في دوامة الظلم والقوة والنار والبطش، لا تنتهي من ظلم إلا وقعت في ظلم آخر. واليوم نحن المجتمعات التي أنتجها التاريخ العربي الدامي، مجتمعات خاضعة لقوى لا تمتلك أمامها رأيًا ولا كرامة، وحتى امتلاك القوة العسكرية صار متعذرًا عليها، فصار السؤال الذي يراود كثيرون: حتى متى سنبقى شعوبًا مضطهدة مسلوبة الإرادة والكرامة؟ والإجابة في اعتقادي لا يملكها السلاح.
 
يقال أنه لا يفل الحديد إلا الحديد، وهو بحسب ما أرى ليس سوى قول ساذج صار كثيرون يتداولونه ويرددونه مسلَّمين بما فيه، على اعتبار أن هزيمة الشيء لا تأتي إلا من جنسه، إلا أن الطبيعة تكشف لنا خطأ مثل هذا المثل، فالصخرة الصماء تتفتت حتى تستحيل لرمل تذروه الرياح بفعل قطرات الماء الناعمة، إذا ما بقت تنخر فيها مدة. وكم من مباني ضخمة أضعفها تغلغل الرطوبة في هيكلها. كما أن العالِم بالكون ومن فيه يقول في كتابه الكريم (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)(2) في إشارة واضحة على أن السيئة تدفعها حسنة لا سيئة من جنسها.
 
نعم إن القوة البدنية والعسكرية، عامل من العوامل المهمة في كل المجتمعات، وقد ذكرت في المقال السابق بعض الإشارات الواضحة في حث الإسلام على امتلاك الفرد والمجتمع المسلم لوسائل القوة البدنية والعسكرية، لكن السؤال: إذا تعذرت القوة العسكرية على مجتمعات تعاني القهر والظلم فهل يعني ذلك أن تتوقف عندها وتستسلم لها؟ وإن حصلت تلك المجتمعات على تلك القوة فهل يعني أن تتوقف عندها؟
 
منذ حوالي سبعين سنة وبالتحديد في عام 1945م ألقت الولايات المتحدة الأمريكية قنبلتين ذريتين على مدينتي هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين، أدت لمقتل 140 ألف إنسان في المدينة الأولى وحوالي 70 ألف إنسان في المدينة الثانية، إذ قضت القنبلتان على كل أشكال الحياة في تلك المدينتين، بل استمر أثر القنبلتين حتى يومنا هذا، إذ أن الإشعاعات المنبعثة منهما تسببت بحالات سرطان عديدة بين أبناء تلك المدن. وقد توقع العلماء آنذاك بأن تتوقف الحياة النباتية لمدة سبعين سنة على الأقل. أدى الانفجار النووي في اليابان لاستسلام حكومتها وبالتالي احتلالها لمدة ستة أعوام من قبل الأمريكان، ونتج عن هذا الاحتلال كوارث إنسانية أخرى منها ارتفاع عدد الولادات الغير شرعية التي تسبب بها الجنود الأمريكيين.(3)





هيروشيما قبل وقوع القنبلة

هيروشيما بعد وقوع القنبلة
مدينة ناكازاكي قبل وبعد وقع القنبلة
لقد نهضت مدينتا هيروشيما وناكازاكي مرة أخرى وبشكل لا يمكن توقعه، والحياة النباتية التي توقع العلماء أن تغادرهما لمدة سبعين سنة على الأقل، عادت قبل ذلك بكثير إذ وبسبب إصرار أهلها تحول موقع الانفجار في هيروشيما إلى حديقة عامة ونصب تذكاري، إضافة لوجود عدد من أفضل الحدائق فيها. إن الكثير من ضحايا القنبلة النووية في اليابان أو أهلهم صاروا يعملون ضد امتلاك الدول لأسلحة الدمار الشامل، ساعين للسلام على الأرض وهو الاسم الذي صارت تعرف به هيروشيما "مدينة السلام". ما أود أن أشير إليه بهذا المثل، كيف أن اليابان كدولة منكوبة - وهي صاحبة حضارة وتفوق قبل كارثة القنبلة الذرية - سعت لتعود دولة قوية ليس عبر امتلاكها للسلاح النووي الذي يعارض أهل البلد نفسها امتلاكه، وليس عبر محاولة الرد بمثل ما حوربت به، بل عبر التنمية الاقتصادية والزراعية والاجتماعية والثقافية التي عملت على اكتسابها، لتكون بعد أقل من سبعين سنة من تلك الكارثة، في مصاف الدول الأكثر تطورًا!
 
في أحد المقالات المثيرة التي قرأتها حول نهضة اليابان بعد كارثة القنبلة النووية (4)، أشار كاتبها إلى أن اليابان بدأت نهضتها الحقيقية مع ثورة الميجي عام 1886م (5) وكانت القيم الأساسية لتلك الثورة تتمثل في ثلاثة أهداف:

- محو الأمية الأبجدية
- الحفاظ على اللغة الأم مع برنامج علمي ضخم قائم على الترجمة
- تشجيع البحث العلمي
 
وهذه القيم هي التي نهضت باليابان مجددًا بعد الكارثة، إذ يذكر نفس الكاتب أن اليابان وبعد استسلامها المذل قررت إرسال مبتعثين لكل العالم يحملون تساؤلات علمية، عادوا لها محملين باكتشافات مذهلة، كما أنها قضت على الأمية بين أبنائها، وصارت تملك خططًا تنموية واقتصادية! كل ذلك عبر امتلاكها لقوة من نوع آخر هي "قوة العلم" بما يحويه من قوة البحث وقوة التفكير الحر وقوة العقل البشري إذا ما وُظف بالطريقة الصحيحة ولأهداف بعيدة المدى، حتى تتحقق قوة ثانية تكون وسيلة هي قوة الثروة، لتمتلك بعد ذلك قوة في غاية الأهمية هي القوة العسكرية.
 
فأين نحن من صناعة مجتمع قوي، أهدافه بعيدة المدى، واضحة لكل الأجيال؟


28 فبراير 2015
___________________________________________________ 
(1) المقال السابق بعنوان :المؤمن القوي خير.. حقًا
http://ertiqabh.blogspot.com/2015/02/blog-post_20.html

(2) سورة فصلت الآية 34
(3) للاطلاع على بعض آثار القنبلتين الذريتين: http://ertiqabh.blogspot.com/2015/02/blog-post_20.html
(4) مقال مفيد بعنوان: قصة تفوق أمريكا واليابان : http://www.4nahda.com/article/424
(5) نسبة إلى الإمبراطور الشاب ميتسوهيتو (ميجي) الذي اعتلى عرش اليابان عام 1868م، وقد مثل حكمه بدء عهد النهضة الحديثة "نهضة عهد الميجي" والتي سميت بثورة الميجي نظرًا لما حققته من إنجازات وإصلاحات.

دقَّةُ اللَّفظ (مسؤولية) // محمود سهلان

 
 
"الدَّلالة: هيَ ما يوجبُ ادراكَ شيءٍ بسبب ادراكِ شيءٍ ملازم له". [خلاصة المنطق: ١٦].
 
وبما أنَّ كلامي ـ على الأغلب ـ سيدور حولَ الألفاظ، لذلكَ أورد تعريفَ الدَّلالة الوضعيَّة اللَّفظية، وهو: "دلالة الألفاظِ على معانيها، كدلالةِ لفظِ قلمٍ على معناه". [خلاصة المنطق: ١٧].
 
وكذلك عرَّف الشَّيخُ المظفَّر الدَّلالة اللَّفظية على أنَّها: "هي كونُ اللفظ بحالةِ ينشأ من العلم بصدوره من المتكلِّم العلم بالمعنى المقصودِ به". [المنطق: ٣٩].
 
لتعذُّر إيصال كلِّ المعاني للمخاطب لأسبابٍ مختلفة، من أهمِّها عدمُ تيسُّر إحضار كلِّ شيءٍ بعينه، كأنْ تريدَ معنى الأسد، فيصعب بشكلٍ شاقٍّ جدًا إحضارُه، وكذلك بعض الأحاسيسِ والمشاعر التي لا تُدرك بالحواسِّ الخمس، مثل: الحبِّ، والبغض، وغيرها. احتاجَ الإنسانُ لطريق آخر لإيصال هذه المعاني، واستعمالها في التَّواصل بينَه وبينَ أخيه الإنسان، وإنْ كانت بعضُ المعاني يمكنُ إيصالُها عن طرقٍ مختلفة، إلا أنَّ بعضَها لا يمكنُ إيصالُه بغير التَّلفظِ به، وأحيانًا أخرى يكونُ من بابِ الأفضليَّة بينَ طرقِ إيصال المعاني.
 
تحصل بينَ اللَّفظ والمعنى عُلقةٌ راسخةٌ بالذِّهن، بسببِ الملازمةِ الوضعيِّةِ بينهما، لدرجةٍ يكون الإنسانُ لا يستحضر الفارقَ بينهما إذا لمْ يلتفت، فيكونانِ كشيءٍ واحد، بل أنَّ الإنسانَ يكادُ لا يتمكَّن من التفَّكير إلا باستحضار الألفاظ وتداولِها في ذهنه، فكيفَ به وهو يتحدَّث مع غيره ويستقبل منه؟
 
عندما ندخلُ في نقاشٍ اليومَ، أيِّ نقاش، نجدُ الكثيرَ إنْ لمْ نقلِ الأغلب لا يهتمُّ بالألفاظ والمصطلحات كما يجب، بل يشيرُ البعضُ لعدم أهميَّة ذلك، ولكونه ترفًا ومبالغةً وما إلى ذلك، فهلْ ما يذهبون إليه صحيحٌ يا ترى؟
 
ببساطةٍ أقولُ: عندما نتداول أيَّ موضوع بالنِّقاش والحوار، فإنَّنا نحتاج لتحديده، ذلك لأنَّ عدم حدِّه، وحصرِ أفراده، وطردِ أغياره، يؤدِّي للخلط فيه لا محالة، بل أنَّ الأطراف التي تتناوله، قد تكونُ تتناولُ مواضيعَ مختلفةً تحتَ نفسِ العنوان، دونَ انتباه ومراعاة، لأنَّها تخلَّت عن أمرٍ أساسيٍّ ومهمٍّ للغاية.
 
فتترتَّبُ على هذا الإهمالِ وعدمِ الاهتمام، عدَّةُ أمور، منها:
- عدمُ الوصول لنتيجةٍ من الحوار القائم لعدمِ تحديدِ موضوعِهِ ومفهومِهِ في الأذهان، وعدمِ تعريفه.
- تحوُّلُ الحواراتِ القائمة لساحة معارك، للمغالبة بينَ بعض أو كلِّ الأطراف.
- (استغلالُ) بعضِ المغالطين والمشاغبين للوضعِ القائم، والسَّعةِ المتاحة لبثِّ مغالطاتِهِم ومشاغباتِهِم وثقافاتِهِم الهدَّامَة.
 
وغيرها من المحذورات..
 
لذلكَ ينبغي علينا محاولةُ التَّأسيسِ لحواراتِنا القائمة، والقادمة، على أسسٍ سليمة، ملائمةٍ لما عليه العقلاء، ومن أهمِّها مراعاةُ الألفاظِ والمفاهيم، والبدء بحدّ ِالمواضيع قدرَ الإمكان، ومحاولة الوصولِ لمرحلةٍ عاليةٍ من الدِّقة، فالبناءُ الذي سنبنيهِ لا بدَّ أنْ يكونَ أساسُهُ قويًا بما يكفي، كي لا ينحرفَ أو ينهدمَ على رؤوسِنا، ولا بدَّ من عدمِ الاستعجالِ بالانتقالِ للمصاديق قبلَ الانتهاءِ من المفهوم، والتوافقِ عليه، ليكونَ المنطلقُ واحدًا، كي لا أتحدَّثَ في موضوعٍ، وتتحدَّث في آخر، ويتحدَّثَ غيرُنا في ثالث، فلا ننتهي لنتيجةٍ أبدًا.
 
إنَّ مسؤوليةَ الكلمةِ والفكرِ تستدعي منَّا مراعاة هذه الأمورِ جيدًا، حتَّى لو أخذتْ منّا وقتًا طويلًا، وإلا فإنَّنا نهدمُ ولا نبني، ونتعاركُ ولا نتفاهم، ونَقتلُ ولا نُحيي، وبالتَّالي فإنَّ هذه المسؤوليةَ ـ تجاه الكلمة والفكر ـ تعكسُ حسَّ المسؤوليةِ لدينا تجاهَ المجتمعِ والإنسانيَّة، وإنْ لمْ نتحمَّلْ هذه المسؤوليةَ فالسُكوتُ أفضلُ بكثيرٍ من الخوضِ مع الخائضين..
 
 
٨ جمادى الأولى ١٤٣٦ هـ

Tuesday, February 24, 2015

صالون ارتقاء الثقافي (السادس)

الجمعة/ ٢٠ فبراير ٢٠١٥م
 
 
 
 

((الوعي))

 
مفردةٌ كثُر استعمالُها في مجتمعاتنا وبشكل يومي، حتى صار باديًا أمر وضوحها والتمكن من مفهومها، غير إنَّ حقيقة الأمر، وعند التتبع بشيء من العلمية والتدقيق والنقاش تظهر على خلاف ما كُنَّا نظن!
 
كانت المناقشة في صالون ارتقاء الثقافي (السادس)، حول مفردة (الوعي)، وقد ظهرت سعة المفهوم وتَعَقُّدِه بما لم يكن ليخطر على بال الكثيرين.
 
اشتغل الكثيرُ من العلماء وذوي الاختصاص من أهل العرفان، والفلاسفة، وعلماء الاجتماع، وعلماء النفس، وغيرهم، في بحث (الوعي) مفردة ودلالة وحقيقة، وقد كان لِكُلٍّ اسهاماته العلمية والمعرفية في هذا المجال، لذلك اختلفت التعريفات، وتحديد المفاهيم، ولكن ثمة جامع مشترك اتفق عليه الجميع - تقريبًا -، وهو إنَّ الوعي:
 
كلمةٌ تُعَبِّرُ عن حالة عقلية يكون فيها العقل بحالة إدراكٍ وعلى تواصلٍ مباشرٍ مع المحيط الخارجي، وذلك عن طريق منافذ الوعي، وهي - أوَّليًّا - الحواس الخمس.
 
اتَّفَقَ أغلبُ الحاضرين على إنَّ الوعيَ عند الإنسان موجود من خِلْقَتِه (بالقوة)، وتوصَّلوا لضرورة التحذير من الخلط في المفاهيم، سواء عن قصدٍ أو عن غير قصدٍ:
 
فالوعي ليس مرادفًا للعلم.. ولا للحكمة.. ولا للفهم.. ولا (للثقافة)..
 
ولكنَّ الصحيح هو إنَّ هذه كلها أدوات للوعي، وليست هي الوعي.
 
يُقَسِّمُ بعضُ العلماء الوعي إلى وعي باطن (اللاوعي)، ووعي الذات، ثُمَّ إنَّهم يروونه في أربع مستويات:
 
1) الوعي العفوي التلقائي:
وهو ذلك النوع من الوعي الذي يكون أساس قيامنا بنشاط معين دون أن يتطلب مجهودًا ذهنيًا كبيرًا، فلا يمنعنا من مزاولة أيِّ نشاط آخر.
 
2) الوعي التأملي:
وهو وعيٌ يتطلب حضورًا ذهنيًا كبيرًا، غير مانع من مزاولة أيِّ نشاط آخر.
 
3) الوعي الحدسي:
وهو الوعي المباشر والفجائي  الذي يجعلنا ندرك الأشياء أو العلاقات أو المعرفة دون أن نكون قادرين على الإدلاء بدليل أو استدلال.
 
4) الوعي المعياري الأخلاقي:
وهو الذي يسمح لنا بإصدار أحكام قيمة على الأشياء والسلوك، فنرفضها أو نقبلها بناءً على قناعات أخلاقية، وغالبًا ما يرتبط هذا الوعي بمدى شعورنا بالمسؤولية تجاه أنفسنا وتجاه الآخرين.
 
إذًا الوعي موجود بالفطرة لدى كُلِّ إنسان، ولكن يختلف مستواه من واحد لآخر، نتيجة العملية المعقدة للوعي من استلام الصور والرموز من المحيط الخارجي عن طريق الحواس، وبالتالي فك وتركيب تلك الرموز بناءً على المستوى العلمي والثقافي والتجارب الشخصية للفرد.
 
ثمَّ دار الحديث حول الاتفاق مع علماء الغرب في جذور المفهوم وموضوعه، ولكن الاختلاف في البناء الفكري ومخرجاته، حيث إن المخرجات لدى هؤلاء العلماء خاضعة للمدارس التي ينتمون إليها.
 
وأُثيرت نقطة إنَّ الوعي موجود في الإنسان بالقوة (بالفطرة)، وكُلُّ إنسان واعي، إذ إنَّ عملية الوعي هي جمع وإدراك الصور والرموز وانطباعها في الوعي.
 
وأمَّا الوعي بالفعل، فهو الفعل والسلوك الخارجي للوعي، أو فلنقل: خارج حدود (النفس)، وهذا الفعل أو السلوك خاضع في مستواه وشكله للمستوى الثقافي ومدى صفاء أو تشوه تلك الثقافة التي تشكلت عبر عوامل كثيرة منذ ولادة الإنسان، ومن خلال ذلك السلوك نستطيع قياس مدى مستوى الوعي لدى الإنسان.
 
أسئلة للمناقشة في الصالون القادم إن شاء الله تعالى:
 
1) إذا سلمنا بما قيل، فهل التأثير الثقافي يلحق بالوعي بالقوة فقط، أو الوعي بالفعل فقط، أو بكليهما؟
 
2) أين موقع اللاوعي من هذه الأطروحة أو التفسير؟
 
3) هل فعلًا يمكن قياس الوعي بالقوة لدى الفرد من خلال الوعي بالفعل؟
 
هناك إشكالان:
 
1) كُلُّ قياس يحتاج إلى أدوات قياس محددة ومعايير واضحه وواحدة، ومن أكبر أزمات العلوم الإنسانية أنَّ مثل هذه الأدوات غير متحققه لاختلاف الأفعال وردات الأفعال والسمات الشخصية لكلِّ فرد ومجتمع بحسب الثقافات وما نحوها.
 
فهل نتمكن من إيجاد معايير خاصة لقياس مستوى الوعي في الفرد وفي المجتمع؟
 
2) إذا كانت عملية قياس الوعي تشخيصية، فمن يقيس وعي الآخر سوف يحتكم لثقافته الذاتية التي في حاجة لقياس وعيها، وبذلك لن تنتهي السلسلة.

Friday, February 20, 2015

نختلف.. لنرتقي // أم حسين



 
يقول: (لم أفهم ماذا تقصد!!)، (ماذا تريد؟)، (أحرجتني)، (كلِمتك آلمتني)

فيرد عليه: (لم أقصد ذلك)، (دعني أوضح الأمر)، (لماذا لا يفهمني أحد!؟)

الذي قال، بعد حين يقال له، ومن قيل له، يقول..
 
وهكذا تختلف الأفهام بحسب مجموعة هائلة من الظروف، فالهادئ قد يكون عصبيًا في لحظة، والعصبي يتحول هادئًا..

وتدور العلاقات الإنسانية في رحى تلك الأفهام، قد تعززها وقد تسلبها الحياة لتنتهي وتفنى، الثقة، المداراة، الطيبة، الصراحة، النقد، الكرم وغيرها الكثير الكثير.

ينفرد الإنسان بصفات فسيولوجية  تميزه، كبصمة الإبهام، العين  والبصمة الوراثية وغيرها الكثير.

العوامل الجينية، التربية والأشخاص المحيطين، تجارب الطفولة ونمط الحياة، المجتمع واختلافاته، القيم والمعتقدات، الكفاءة والقدرات الذكاء، الوقت، النمو، الإدراك والوعي الشعور والعاطفة، امتزاجها كل ذلك يخلق شخصية فريدة من نوعها لا مثيل لها على هذه الأرض تسمى (الأنا) أعتقد أنها بصمة أخرى ينفرد بها الإنسان، قد نستطيع الإطلاق عليها بالبصمة الذاتية.

اختلاف كل تلك العوامل بين فرد وأخر  يحدد واقع لا يراه سواك، نظرتك وفهمك للأمور، وقع كلمات الآخرين عليك، تفاعلك مع الحدث، حُزنك، فرحك متعتك جميعها تهبك معايير خاصة فيك فريدة لا مثيل لها تولد ردة فعلك وسلوكك، فما تعتبره أنت صغيرًا قد يراه الآخر عظيمًا، وما يؤلمك يراه الآخر طبيعيًا جدا، وما يلامس روحك ليدب الحياة فيها، ويفتح الآفاق لتحلق فيها لا يحرك فيه ساكنًا.

ونختلف..

 الاختلاف حالة طبيعية وسنختلف ما بقي الليل والنهار كما يقول جل وعلا:

 ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)

أنا وأنت لا نمتلك خيار سوى خوض معترك الحياة أما اعتزالها استحالة.

فكيف نخوضها!؟

 قال الإمام علي ( عليه السلام ): ( اِعْلَمُوا أنَّ اللهَ سُبحانَه لمْ يمْدَح مِنَ القلوبِ إلاَّ أوْعَاها للحِكْمة ، ومن الناس إلاَّ أسْرَعهم إلى الحَقِّ إجَابَةً )

 ميزان الحكمة 8 / 220 .

القلب كالوعاء كلما أفرغته عن كل ما يبعده عن الحق كلما أوجدت قابلية أكبر لاستيعاب اختلاف الآخر وإنتاج فكرة التقاء جديدة توظفها كسلوك يجعل واقعك أقرب إلى الصواب.
 
 
21 فبراير 2015

الشُيُوعِيَّةُ، وإنْ غَابَ أو (غُيِّبَ) رَسْمُها (17) "مناقشات وردود (8)/ دكتاتورية البروليتاريا، والدكتاتورية الاستبدادية" // محمد علي العلوي



قد يكون الجامع لِمَا عرَّفوا بِه الدكتاتورية، هو إرادة وممارسة الإملاءات دون مراجعة ولا اعتبار لأحد، وقد تكون الدكتاتورية في شخص، وقد تكون في حكومة أو حزب أو مجموعة مُتَسَلِّطَة، والدكتاتورية ترى الآراء الأخرى، ولكنَّها لا تعترف بها، ولا تعيرها اهتمامًا.

أمَّا الاستبداد، فهو طلب (اللابديَّة)، أي: لا رأي ينفع إلَّا هذا، فالمستبد يعتقد تمامًا بأنَّه صاحب الحق المطلق، وبالتالي فهو لا يرى ما يستحق الاحترام والتنفيذ غير رأيه.

تشترك الدكتاتوريَّة والاستبداد في التفرُّد الإداري والأحادية الفكرية، وهذا مع الاختلاف النوعي بينهما؛ فالاستبداد إن لم يكن استبدادَ الحقِّ كما في الأحكام الشرعية بعد التحقُّقِ التام للشروط، وفي تشخيصات المعصوم (عليه السلام) أو من يمتلك الحقَّ في التشخيص والحكم وإنفاذ الحكم، فهو في الغالب من قبيل الجهل المركب، وأمَّا الدكتاتورية فقد تكون جهلًا بسيطًا، وهذا لا يشفع لها، ولكنَّني في مقام توضيح الفرق لا أكثر.

يقول بيان الحزب الشيوعيِّ: 

"فالبروليتاريا ستستخدم سلطتها السياسية لتَنتَزع من البرجوازية تدريجيا, رأس المال كله, و لِـتُمركز أدوات الإنتاج كلّها في أيدي الدولة, أي في أيدي البروليتاريا المنظَّمة في طبقة سائدة, و لتزيد حجم القوى المنتجة بأقصى سرعة ممكنة.

و في البداية, لا يمكن حدوث ذلك طبعا, إلاّ بالانتهاك الاستبدادي لحقّ الملكية و لعلاقات الإنتاج البرجوازية, أي بتدابير تبدو, اقتصاديا ناقصة و غير مأمونة البقاء, لكنّها تتجاوز نفسها في مجرى الحركة, و هي لا غنى عنها كوسيلة لقلب نمط الإنتاج بأسره".

ومن أدبيات الفكر الماركسي في دكتاتورية البروليتاريا:

"الحالة التي تسود فيها سلطة البروليتاريا، والتي تُقَامُ في أعقاب إزالة النظام الرأسمالي وتدمير أداة الدولة البورجوازية.

ودكتاتورية البروليتاريا هي المُحتَوى الأساسي للثَّورة الاشتراكيَّة وشرطٌ لازِمٌ لها، والنتيجةُ الرئيسيَّةُ لانتِّصارِها.

ولهذا السبب، فإنَّ دكتاتورية البروليتاريا هي القِسم الأساسيُّ في النظرية الماركسية اللينينية، إذ تستخدِمُ البروليتاريا سُلطتَها السياسية لقمع مقاومة المستغلِين، ولِدَعم انتصار الثَّورة، ولإحباط أيَّة محاولات لإعادة الحكم البورجوازي، ولضرب الأفعال العدوانية للرجعية الدولية. 

ومع ذلك فليست دكتاتورية البروليتاريا عُنفًا فحسب، وليست عُنفًا في الأساس، فمُهمَّتِها الأساسية مهمَّةُ خلَّاقة وبنَّاءة؛ إذ تُساعِدُ الدكتاتورية طبقة البروليتاريا على كسب جماهير الشعب العامل، وعلى جذبِهم إلى داخل البِناء الاشتراكي، بهدف القيام بعملية إعادة البناء الثوريِّ في جميع مجالات الحياة الاجتماعية – الاقتصاد والثقافة والحياة اليومية والتربية الشيوعية للشعب العامل وبناء المجتمع اللاطبقي الجديد. 

ودكتاتورية البروليتاريا هي الأداة الرئيسية في بناء الاشتراكية والشرط اللازم لانتصارها. 

والمبدأ الأساسي والأعلى لدكتاتورية البروليتاريا هو تحالف الطبقة العاملة والفلاحيَّة تحت قيادة الأولى، ويتَّسِع الأساس الاجتماعي لدكتاتورية البروليتاريا، ويكتسب استمراره، خلال عملية البناء الاشتراكي، مما يُفضي إلى تكوُّنِ الوحدة السياسية الاجتماعية والأيديولوجية للأمة.

والحزب الشيوعي – باعتباره طليعة الطبقة العاملة – هو القوَّة الأساسيَّة القائدة والموجِّهة في نظام دكتاتورية البروليتاريا.

ويضم نظام دكتاتورية البروليتاريا منظمات جماهيرية عديدة: هيئات الشعب التمثيلية، ونقابات العمال، والتعاونيات، وروابط الشباب، وغيرها، وهي تقوم بدور الرابط بين الدولة الاشتراكية والجماهير. 

وقد كانت كومونة باريس (1871) أوَّل دكتاتورية للبروليتاريا في التاريخ، وأسهمت بخبرة بالغة القيمة للماركسية، ومكَّنت ماركس من أن يحدس شكل الدولة في المجتمع الاشتراكي المقبل، والسوفييتات شكل جديد من دكتاتورية البروليتاريا، اكتشفه لينين عن طريق دراسته للثَّورتين الديمقراطيتين البورجوازيتين في روسيا، ثورة أعوام 1905-1907 وثورة فبراير عام 1917. وفي النهاية أدَّتْ التجربة الثورية الأخيرة إلى شكل آخر لدكتاتورية البروليتاريا، هو الديمقراطية الشعبية. 

ودكتاتورية البروليتاريا ليست هدفًا في ذاتها، إنَّما هي الأسلوب الوحيد الممكن والذي تُحّتِّمُه الضرورة التاريخيَّة للتحول إلى مجتمع بدون دكتاتورية وبدون طبقات".
المصدر: إرشيف الماركسيين على الإنترنت:

 
يبدو لي إنَّ فكرة (دكتاتورية البروليتاريا) فكرة استبدادية في المنشأ والتنظير والتطبيق، وهذا ما يتضح من المقولة اللينينية: "إنَّهم يخافون من الاعتراف بأنَّ ديكتاتورية البروليتاريا، هي أيضًا مرحلةٌ مِنْ مراحِل النِضَال الطبقيِّ المحتوم، طالما لم تُمْحَ الطبقات".

المصدر: الحوار المتمدن:
 http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=256770

ولنلاحظ بعض التعبيرات الواردة في النصوص السابقة:
انتزاع.. انتهاك استبدادي.. تدمير.. قمع..
تظهر لي طبيعة الفلسفة الشيوعيَّة عنفيّةً، لا تكترث بغير السير على الطريق المرسوم في نظرياتها، وتُبَرِّر الاستبداد وسيلةً لإصابة الغاية، وكأنَّها تقول: أرى ما لا ترون!

ولذلك نلاحظ البروز المُلفِت لنظرية الوصاية التي يحكم بها الحزب الشيوعي لنفسه، وفي فلكها يَفْرُضُ على غيرِه الدوران في فلكها.

ومن المهم الالتفات إلى إنَّ الأصل في تنفيذ الاستبداد هو ما أسميتُه (القيادة المعكوسة)، فالحزب الشيوعي يعطي القيادة للبروليتاريا ويؤكد عليها ويروج لمفهومها، وفي الواقع هي واقعة تحت التوجيه الثقافي للفكر الشيوعي الذي لا يعتني بشيوعيَّته في الجمهور، بقدر ما يعتني ويُرَكِّزُ على (الثورة) من خلال استبداد البروليتاريا.

• الإغراق المُغالطي:

المغالطة: هي تعمُّدُ تغليط الطرف الآخر بالإيهام الصِوري بما يُظِهرُ الاستدلال في ثوب الاستدلال البرهاني، فالمغالط يعتمد السيطرة على الآخر بما يبدو في ظاهره علميًّا يقينيًّا، ولكنَّه في الواقع "تضليلًا" كما يعبِّرُ الشيخ المظفر في كتاب المنطق (الفصل الخامس، صناعة المغالطة ص420).

تصعُبُ -في الواقع- محاورة المُغالِط والوصول معه إلى نتيجة مثمرة، خصوصًا إذا كانت ثقافته قائمة على المغالطات دون وعي منه..

يُقال: لا يفِلُّ الحديد إلَّا الحديد، ويُقال: يجب تسمية الأشياء بأسمائها، ويُقال: الثورة، يُشعِلُها الفقراءُ، ويَجني ثمارَها الجُبنَاءُ، ويستغلُّها الأغنياءُ..

وغيرها من الأقوال التي تبدو نتائج مسلَّمة!

أمَّا الحديد فإنَّه لا يُفلُّ بغير الحديد، لأنَّه من جنسه، ولا يُقال بأنَّ الأمثال لا تُعارض، فهذه مغالطة ثانيَة هنا؛ حيثُ إنَّ الغاية من هذا المثال هي التكريس لثقافة المواجهة بالمثل، في حين إنَّ الله تعالى يقول (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)، والردُّ على هذه المقولة سهل، لا أطيل الكلام فيه، مع الأخذ في الاعتبار دور القوة في قيام الأمر، وهذا أمر لا ننكره، ولكنَّ الكلام فيه لم يحن دوره بعد.

وأمَّا تسمية الأشياء بأسمائِها، فالأسماء متعدِّدة للشيء الواحد، ولا يمكن حصرها في خيار المغالِط فقط، فنحن نسمي المقابِلَ للنجاح، غيرَ توفيق، أو ما يشابه من تسميات وتعبيرات تؤدي نفس الغرض دون تعريض المحاورة لمنزلق الاستفزاز والردِّ وردِّ الردِّ، وهذا الأخير يُبَرَّرُ بمغالطات أخرى، مثل: 

حتى لا يحسبك.. 
لِمَ أُمنَعُ من الردِّ؟

وما نحو ذلك من توجيهات ناظرة إلى الآخر، وهي مطبَّات مغالطيَّة تحتاج لسلسة مقالات مستقلة!

ولا بُدَّ مِنَ الإشارة هنا إلى أنَّ تجريد الإنسان من عاطفته ومشاعره وأحاسيسه، أمر محال؛ فهو مركب منها ومن العقل، ولا يُراد له التنكر لشيء منها، كما ومن المهم الانتباه إلى التركيب الشخصي للإنسان في بعد الزماني، حيث البيئة والظروف وما نحو ذلك مما لا يُحصى، وهو ما يُوجِبُ على الإنسان أن يعمل بالاحتياط كثيرًا في تعامله مع الآخرين، وخصوصًا المؤمنين الصادقين، وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " يَا طَالِبَ الْعِلْمِ، إِنَّ الْعِلْمَ ذُو فَضَائِلَ كَثِيرَةٍ: فَرَأْسُهُ التَّوَاضُعُ، وَعَيْنُهُ الْبَرَاءَةُ مِنَ الْحَسَدِ، وَأُذُنُهُ الْفَهْمُ، وَلِسَانُهُ الصِّدْقُ، وَحِفْظُهُ الْفَحْصُ، وَقَلْبُهُ حُسْنُ النِّيَّةِ، وَعَقْلُهُ مَعْرِفَةُ الأَشْيَاءِ وَالأُمُورُ الْوَاجِبَةُ، وَيَدُهُ الرَّحْمَةُ، وَرِجْلُهُ زِيَادَةُ الْعُلَمَاءِ، وَهِمَّتُهُ السَّلامَةُ، وَحِكْمَتُهُ الْوَرَعُ، وَمُسَتَقَرُّهُ النَّجَاةُ، وَقَائِدُهُ الْعَافِيَةُ، وَمَرْكَبُهُ الْوَفَاءُ، وَسِلاحُهُ لِينُ الْكَلِمَةِ، وَسَيْفُهُ الرِّضَا، وَفَرَسُهُ الْمُدَارَاةِ، وَجَيْشُهُ مُحَاوَرَةُ الْعُلَمَاءِ، وَمَالُهُ الأَدَبُ، وَذَخِيرَتُهُ اجْتِنَابُ الذُّنُوبِ، وَزَادُهُ الْمَعْرُوفُ، وَمَاؤُهُ الْمُوَادَعَةُ، وَدَلِيلُهُ الْهُدَى، وَرَفِيقُهُ صُحْبَةُ الأَخْيَارِ".

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): "ثلاث من لم يكُنَّ فيه، لم يتُمَّ له عمل: ورعٌ يحجزه عن معاصي الله، وخُلُقٌ يداري به الناس، وحلمٌ يردُّ به جهل الجاهل"

أمَّا المطالبة بتغليب العقل، والانتباه للمعنى، فهذه مغالطة أكثر عمقًا وخطورة، إذ إنَّ التأثر العاطفي، ليس ضِدَّ العقل والتعقل، فتأمل جيِّدًا.

وبالنسبة للثورة ومن يُشعِلها، ومن يجني ثمارها، ومن يستغلّها، فهذا أمر لا يسعني الحديث فيه؛ فكمُّ المغالطات التي تقوم عليها هذه المقولة يحتاج لحديث حول المفاهيم ومقدِّماتها قبل أيِّ شيء، ولكن في الجملة أقول: فلنراجع صنيع الثائر فلاديمير لينين والثار جيفارا والثائر كاسترو والثائر معمَّر القذافي والثائر صدَّام، لنقف على حجم المغالطات في هذه المقولة!

  بعضٌ ممَّا مرَّ شبيه بالبرهان، وهو المغالطة بحسب الاصطلاح المنطقي، ولكنَّه ليس كذلك، فأمر آخر قد يرد الآن، وهو الحكم على هذه المقالات (الشُيُوعِيَّةُ، وإنْ غَابَ أو (غُيِّبَ) رَسْمُها) بأنَّها تعارض القيام على الظالم، وهذه ليست مغالطة على الإطلاق، بل هي وبحسب المصطلح المنطقي (مشاغبة)؛ إذ إنَّ تَشَبُّهَهَا بالجدل أقرب، بل أوضح من تشبُّهِها بالبرهان، ولتجاوز هذه (المشاغبة) أقول: لا.

هذه المقالات لا تُعارِض القيام على الظالم، ولكنَّ المشكل المعضل الذي تراه، هو التشابه الكبير بين بعض المفاهيم الإسلامية والإنسانية العالية وبين بعض من عنواين الطرح الشيوعيِّ، مثل: التضحية، وردِّ الظلم، والانتصار للمظلوم، وما نحو ذلك، وقد تطوَّرت اليوم إلى مفاهيم الجهاد والشهادة وغيرها مما أوقع التداخل فوقعتْ المغالطات والمشاغبات.

ولذلك، قلتُ بأنَّ التركيب آتٍ إن شاء الله تعالى في المرحلة الثالثة من مراحل هذه السلسلة.

• صناعة الدوران:

عندما يقَعُ الصِدام، تنحسر الحلول، وتزداد انحسارًا كلَّمَا اشتدَّ الردُّ وردُّ الردِّ، وفي المقابل تتسع دائرة التبريرات من أطراف الصدام، حتى يعود الأمر لمقولة الدجاجة والبيضة (مع إنِّي لا أراها مشكلة أصلًا، بل هي لا ترقى حتى لمستوى مشاغبة، فالدجاجة قبل البيضة ولا يحتاج الأمر إلى نباهة، فهي والديك كما كان أوَّل الخلق البشري).

وعلى أيَّة حال، تشتغل رسائل الإدانة وإدانة الإدانة، ونرجع إلى أنَّ الحديد لا يُفلُّ بغير الحديد، ثم تأتي ضرورة تسمية الأشياء بأسمائها، ويضيع عقرب البوصلة الذي يراه كلُّ طرف ثابتًا (بوضوح) في اتجاه خياراته!

 
تنطلق الكلمات كما بان قبل قليل:

واصلوا المسير نحو الحرِّيَّة ولا يشغلنَّكم المحبطون المثبِّطون، فأنتُّم أصحاب القرار، وأنتُّم قادة التغيير، ومن المقابل ترتفع شعارات مضادة، ولكِنَّ السِنْخِيَّةَ واحدة!

ويبقى سؤالان أطرحهُما الآن وفي خاتِمَة كل حلقة من حلقات هذه السلسلة:

بأيِّ عينٍ وثقافةٍ ونَفْسِيَّةٍ ورُوحيَّةٍ نقرأ كتابَ الله المجيد وأحاديثَ المعصومين (عليهم السلام)؟

هل نحن على الطريق الصحيح أو أنَّنا في حاجة إلى مراجعات عاجلة وجادَّة جِدًّا؟

نلتقي في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى..
 
 
21 فبراير 2015