Monday, December 19, 2016

اخترنا لكم: السطحيّة الإيمانيّة /السيد جعفر فضل الله








نقصد بالسطحيّة الإيمانيّة في العنوان أعلاه، عدم بناء الإيمان على قواعد التّفكير النقديّ، بما يعنيه ـ التفكير النقدي ـ من انفتاحٍ على الاحتمال المخالف، وتقبّل الدّخول في حوار متفاعل منتج، وبالتالي إمكانيّة التعديل أو التغيير للأفكار التي هي مورد قناعة سابقة عبر اختبار معطيات جديدة.

وما نحاول أن نعالجه في هذه المقالة، هو قضيّة العلاقة بين الإيمان من جهة، والعقل والتفكير النقدي من جهة أخرى، كما نثير بعض التأمّلات في آثار سطحيّة الإيمان في الواقع العملي.

العقل وبناء العقيدة

من الواضح إسلاميًّا، أنّ العقيدة تُبنى على قاعدة العقل، فما استطاع العقل أن يثبت وجوده أو نفيه بالدَّليل المقنع، أمكن إدخاله إلى مجموعة الاعتقادات، أمّا ما لم يستطع العقل أن يثبت وجوده أو نفيه، سواء لم يقم عليه دليلٌ أصلًا، أو كان الدَّليل غير تامٍّ بنظر العقل، فيُبقيه في دائرة الاحتمال، وجودًا أو نفيًا، وبالتّالي، لم يمكن إدخاله في مجموعة اعتقادات الإنسان. ولعلّ قوله تعالى: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}[1] يؤسّس لذلك، حيث إنّ ثمّة تلازمًا - في ميزان العقل - بين صدق أيّ قضيّة وبين إقامة البُرهان عليها، بحيث لا يكون ثمّة مبرّر للإذعان لأيّ فكرة إذا لم يمكن إقامة البرهان عليها، بحيث تكون مفردات هذا البرهان مقنعة للعقل، ومحقّقة لسكونه واطمئنانه؛ إذ ليس لدينا من وسيلة للتأكّد من صحّة أيّ فكرة سوى العقل، وما لم نحقِّق له قناعته انطلاقًا من القواعد الّتي يعمل وفقها، فإنّه لا سبيل للتأكّد من أنّ تلك الفكرة هي فكرة موهومة أو خياليّة، أو هي فكرة حقيقيّة لها مجال وتحقّق في حيّز الواقع.

ليس بالضّرورة أن يكون الدّليل معقّدًا، فقد قيل لأعرابيّ: كيف تستدلُّ على وجودِ الله؟ فقال: "البعرةُ تدلُّ على البعير، وأثرُ الأقدام يدلّ على المسير، أفسماواتٌ ذاتُ أبراجٍ، وأرضٌ ذاتُ ارتتاج، لا تدلُّ على اللّطيف الخبير؟!". وسئلت امرأة تغزلُ الصّوف السّؤال نفسه، فأجابت: "بهذا المغزل؛ إن حرّكتُهُ تحرّك، وإن سكَّنتُهُ سكَن"... فإنّ العقل بمدركاته الأوّلية، يستطيع أن يقارب الأمور الفطريّة بهذا اللّون من الأدلّة، لكنّها في كلّ الأحوال أدلّة يقتنع بها العقل؛ بل هي تشكّل المادّة المحوريّة للدّليل الفلسفي المعمّق، والذي يراد من خلاله إثبات حدوث العالم، وفرضيّات نشأة الكون والخلق والخالق وما إلى ذلك؛ فإنَّ المقاربة الفلسفيّة سوف تنطلق من المحسوس لتثبت حدوث العالم، لكن بالإحاطة بمفردات أكثر، ومن خلال معالجة بعض الأسئلة الإشكاليّة الّتي لا يهتمُّ بها أو لا يلتفت إليها عموم النّاس، حتّى إذا انتهى لإثبات الحدوث، وضع أمامَه فرضيّات النشأة، وبدأ بمعالجتها من خلال التّحليل المعمّق الذي يطرح الإشكاليّات ويعمل على الإجابة عليها، ليصل في النَّتيجة إلى أنَّ الكون حادث، ولكلّ حادث محدثٌ، وكلّ الفرضيّات لا تصلح لتفسير هذا الحدوث، سوى أن يكون قد صدر عن خالق عالم قادر حكيم... وهذا الّذي قصدناه من إشارتنا إلى أنَّ لبَّ العلم البسيط والمعمّق واحدٌ، ولكنَّ الاختلاف في الأسئلة المتخصِّصة وأجوبتها؛ والله تعالى أعلمُ وأحكم.

في كلّ الأحوال، فإنَّ من المهمّ الالتفات هنا إلى أنَّ قوَّة العقيدة إنّما تتحقَّق عبر مسارٍ حواريّ مع كلّ الأسئلة والإشكاليّات الّتي تقف أمام أيّ فكرة، وبالتّالي، تثير الصِّراع بين الأدلّة، لتكون عمليّة التفكير النقديّ هنا هي العملية التي تتحرّك في دائرة الصراع هذه، لتصل في النّهاية إلى القناعة والاعتقاد عبر قوّة بعض الأدلّة على بعض، مع إلغاء الاحتمال المقابل أو إبقائه كوجهة نظر أخرى، أو عدم الوصول إلى القناعة والاعتقاد، والبقاء - تاليًا - في خانة الشكوك العلمية التي تحتاج إلى معطيات جديدة لتحسم المسألة.

من الاعتقاد إلى الإيمان

بعد أن ينتهي العقل من هذا المسار في إثبات فكرة ما، ويتأكَّد من أنّها فكرة حقيقيّة واقعيّة، وليست وهمًا أو خيالًا أو اختلاطًا ببعض الأفكار الأخرى، تدخلُ الفكرة إلى مجموعة الاعتقادات التي قد تكون أساسًا لمجموعة من الأفعال والممارسات الّتي غالبًا ما تكون عباديّة أو أخلاقيّة سلوكيّة، وهذه الممارسة العباديّة أو الأخلاقيّة، تمثّل عمليّة تربوية تقوم بربطٍ للفكرة العقليّة المجرّدة بالأوضاع الحياتيّة المتنوّعة، وهو ما يؤدّي إلى تحويلها إلى إيمان راسخٍ، مُفعمٍ بالمشاعر والأحاسيس الإيمانيّة، قابلٍ - بالتالي - لتحريك الإنسان نحو ما يتوافق مع إيمانه، تمامًا كما تحرّكه أيّ فكرةٍ هي جزءٌ من وجدانه وكيانه.

إلى هنا، نكون قد حاولنا تأكيد مبدأ، وهو أنَّه لا إيمان من دون فكر، ولا فكر من دون عمليَّة نقديَّة يتمّ فيها اختبار الأفكار المخالفة، وإثبات عدم صلاحيّتها لتعطيل القناعة بذلك الفكر، عبر الدّليل والبرهان الّذي يذعن له العقل ويستكين.

أهمّية الحوار في التّفكير النّقدي

ولعلّ من المفيد الإشارة هنا، إلى أنّ ثمّة نوعين من اختبار الأفكار المخالفة:

الأوّل: هو التفكير الذاتي، بمعنى أن أحدّد أنا - من موقعي الفكري والثقافي - الفكرة التي يطرحها الآخر، وأفهمها على ضوء ذلك، ثمّ أجيبُ عنها.

الثاني: هو الاختبار المباشر، وذلك عبر الدخول في عملية حوار حقيقيّ مع الآخر، والاستماع إلى وجهة نظره، والسّماح بالأخذ والردّ في عمليّة النقد، وصولًا إلى تشكيل القناعات.

والنّوع الثّاني هو الأدقّ؛ لأنّنا في النّوع الأوّل نناقش ما نتصوّره نحن من فكر الآخر، وهذا يسمح بهامش من الخطأ، وفي بعض الأحيان، قد تثبت لنا الوقائع أنّنا لا نناقش الآخر، وإنّما نناقش الأفكار الّتي نسبناها إليه وحسبناه يتبنّاها حسب تصوّراتنا!

هذا الأمر يفضي بنا إلى إدراك أهمّية الحوارات المباشرة، وانفتاح مجال النقد العامّ، بشكل عفويّ أو عبر مؤسّساته المفترضة، كالمؤسّسات العلمية الدينية (كالحوزات والمعاهد الدينية)، أو الأكاديمية (الجامعات)، أو مراكز الأبحاث والدراسات، أو الإعلام بمجالاته المرئيّة والمسموعة والمقروءة، ومنه وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، التي أفسحت في المجال أمام كلّ فردٍ في هذا العالم لإبداء رأيه، وإجراء تعليقه على أيّ قضيّة مهما كان حجمها وتخصّصها، وأيًّا كان مطلقُها وموقعه في تصنيفات المواقع والمقامات.

من الطبيعي أنّنا هنا نتحدّث عن النّقد، بما له من مفهوم علميّ وآليّات تبقيه في إطار مناقشة الأفكار، وإثارة الأسئلة بطريقة منطقيّة، بعيدًا من المهاترات الكلامية وكلّ ما لا يمتّ إلى التفكير النقدي بصلة. قد تكون المسألة جدليّة هنا، ولكنَّنا لا يصحّ هنا عدم الاحتكام إلى ضوابط عامَّة بالإجمال، وهو - بكلّ الأحوال - موضوع آخر لسنا في مجال بحثه هنا، وإنّما أشرنا إليه لمناسبة الكلام.

السطحيّة الإيمانيّة

لعلّ ما قدّمناه يكفينا لبدء الكلام حول السطحيّة الإيمانيّة، والّتي نصف بها عادةً الجماعات التي تجمع بين أمرين:

1ـ منظومة من الفكر الاعتقادي المغلق والمحوري، بمعنى أنّه ثابت في مقولاته، غير حواري وإنما جدلي، وبالتالي هو غير منفتح على أفكار أخرى بطريقة نقدية حقيقية. ومعنى أنّه محوريّ، أنّ نقاشاته لأيّ فكرة أخرى هي عمليّة تستبطن آخر وتناقشه، ولا تناقش آخر في الواقع والحقيقة[2].

2ـ الإيمان اليقيني القابل للتحريك بدرجة خياليّة أحيانًا، بحيث تجد الواحد من هذه الجماعات مندفعًا نحو الموت من دون أن يرفَّ له جفنٌ، أو يهنَ له قلبٌ، كما أنّ مستوى عبادة هؤلاء تقوم على بذل جهود لا تقاس بها جهود الإنسان العاديّ في العبادات ذاتها.

ولعلّ من المناسب هنا إيراد ما أُثر عن النبيِّ(ص) من وصفٍ لمثل هذه الجماعات، ففي حديث أحمد بن حنبل بسنده عن أبي سلمة قال: "جاء رجلٌ إلى أبي سعيد فقال: هل سمعتَ رسول الله(ص) يذكر في الحروريّة[3] شيئًا، قال: سمعتُهُ يذكر قومًا يتعمَّقون في الدّين، يحقّر أحدكم صلاته عند صلاتهم، وصومه عند صومهم، يمرُقونَ من الدّين كما يمرق السّهم من الرمية..."[4]. وفي حديث البخاري عن رسول الله(ص)، إذ أتاه ذو الخويصرة وهو يقسم من الغنائم، وهو رجلٌ من بني تميم، فقال: يا رسول الله اعدل! فقال: ويلَك! ومن يعدلُ إلى لم أعدِلْ؟! قد خبتُ وخسرتُ إن لم أكن أعدل. فقال عمر: يا رسول الله، ائذن لي فيه فأضرب عنقه، فقال: دعهُ! فإنَّ له أصحابًا يحقّر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرأون القرآن لا يجوز تراقيهم، يمرقون من الدّين كما يمرق السّهم من الرّمية..."[5].

وقد طلب الإمام عليّ من عبد الله بن عبّاس أن لا يحاججهم بالقرآن، وإنّما يحاججهم بالسُّنّة، فقال له: "لا تخاصمهم بالقرآن؛ فإنّ القرآن حمّالٌ ذو وجوهٍ، تقولُ ويقولون، ولكن حاججهم بالسُّنّة، فإنّهم لن يجدوا عنها محيصًا"[6]؛ وأغلبُ الظنِّ أنّ السّبب في ذلك، أنّ وجود وجوه مختلفة للكلام، يفترض عمليّة تحليليّة فكريّة عميقة، تردّ الفروع إلى الأصول، وتفهم المفردة في سياقها، وتقيس الكلام إلى مثله من الموارد، وتنظر في العموم والخصوص، والإطلاق والتّقييد، والمحكمات والمتشابهات، لتصل في النّهاية إلى تشكيل قناعة بالمراد.. وهذا الأمر لا يتمتَّع به هؤلاء، بسبب سطحيّة تفكيرهم، ولذلك كان لا بدَّ من ربطهم بالمحسوس أكثر من ربطهم بالمجرّد العقلي، فكان الأمر بمحاججتهم بالسنّة.

ولعلّنا نستطيع أن نفهم - انطلاقًا من ذلك - لماذا استطاع معاوية وعمرو بن العاص أن يخدعاهم في قضيّة التحكيم في حرب صفّين، عبر رفع شعار "لا حُكم إلّا لله"، الذي أفضى بهم إلى إرباك القيادة، والسّقوط تحت تأثير الخدعة، وبالتّالي، منع الإمام عليّ(ع) من تحقيق أهداف الحرب.. وقد روي عن عليٍّ قوله فيهم عندما سمع منهم مقولتهم تلك: "كلمة حقٍّ يُراد بها باطل. نعم، إنّه لا حكم إلا لله، ولكنَّ هؤلاء يقولون: لا إمرة إلّا لله، وإنّه لا بدَّ للناس من أمير بَرٍّ أو فاجرٍ، يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع به الفيء، ويقاتل به العدوّ، وتأمن به السُّبل، ويؤخذ به للضَّعيف من القويّ حتّى يستريح برّ، ويُستراحَ من فاجرٍ"[7]؛ فإنَّ الله لا يحكم النّاس بشكل مباشر، وإنّما ثمة نظام لا بدَّ من أن يتحرّك في حياة الناس، ولكنَّ هؤلاء - بسطحيّة تفكيرهم - حرّكوا الشعار في الواقع في غير موضعه، وتصوّروه على غير وجهه، فكان تطبيقه في الواقع دمارًا ووبالًا على الإسلام والمسلمين! وتحوّلوا في نهاية المطاف إلى قتلة وقطّاع طرق[8]، ووصل الأمر بهم إلى قتل عليٍّ(ع) وهو يصلّي في محرابه، وربّما قتلوه تقرّبًا إلى الله أيضًا!

إنّ التاريخ عندما يقصّ لنا كيف استطاع هؤلاء الذين كانوا بحيث يحقّر النّاس صلاتهم إلى صلاتهم، وصيامهم إلى صيامهم، فلكي نفهم من ذلك أنّ العبادة بمجرّدها لا تستطيع أن تصوغ شخصيّة متوازنة متماسكة أمام التحدّيات التي تواجهها في أفكارها واعتقادها، وتتطلّب منها موقفًا حاسمًا لا ارتباك فيه ولا تردّد، لأنّ دور العبادة أن تقوم بترسيخ الأفكار في وجدان الإنسان، ليدخل الإيمان في قلبه[9]، ولكنّها لا تؤسِّس فكرًا إيمانيًّا قويًّا، ولا توجد أخلاقًا قويمة، وإنّما تأتي العبادة في مرتبة ثانية، على ما ذكرنا آنفًا، بعد ترسيخ الفكر، عبر قواعد العلم والمنطق والبرهان والدَّليل الّذي يتحرّك على حدّ السّيف في الفكرة ودليلها، والرأي وبرهانه، والنقد ودلائله، حتّى إذا أصبحت الفكرة قادرةً على إثبات ذاتها من داخلها، عكسَت الحقيقة والواقع، وكان الإيمان - تاليًا - هو المحرّك لها في الحياة.

لمتابعة باقي المقال: http://arabic.bayynat.org/ArticlePage.aspx?id=22994


٢٨/١٠/٢٠١٦ / 27 محرَّم 1438هـ

No comments:

Post a Comment