مشهد: كان الحفيد جالسًا في سكون غريب، يُطيل النظر إلى جده النائم على ذلك السرير (المرقد) في غرفته الحجرية البسيطة، لا يتخلل السكون إلا صوت سعف النخلة، التي تتوسط المنزل، مع هبات الهواء الخفيفة..كان الحفيد يتأمل في خشوع كل تفاصيل وتقاسيم ذلك الجسد النحيف، الذي بدى عليه الإجهاد والتعب والمرض، كان الجد يُفيق ويغفو، ولا زالت عين الحفيد ترقب تقاسيم الوجه الذي حفرته الأيام والسنون، بحلوها ومرها، (مزيج لا يعرف طعمه الكثير)، يتأمل السمرة التي صبغتها أشعة الشمس، وتلك اللحية البيضاء التي كان الحفيد يمسح الدموع عنها في مجالس الحسين عندما كان طفلًا يجلس في أحضان جده، ولا زالت عيون الحفيد ترقب تلك الضلوع التي برزت من تحت الملابس تعلو وتنخفض مع كل نفس، يتأمل اليد التي طالما حفرت وغرست وحصدت في ذلك البستان الصغير، وتلك الأقدام التي خالطت التراب والماء المتدفق في الجداول.
وبينما لا زال في رحلته التي أشبه ما تكون رحلة عرفانية في جسدٍ أراد ملامسة روحه.. عله يصل إلى سر ذلك الجسد النحيف رغم قوته.. سر التفاني والذوبان في هذه الأرض.. وسر العطاء رغم الحاجة.. وسر أن يزرع لتأكل الأجيال المقبلة رغم جوعه.
وإذا به يسمع أنيين خافتًا، وياللعجب ليس مصدره الجد، كان مصدره النخلة، لا تستغرب من أنيني ياولدي.. إنه أنين الجذور.. إنه أنين من أفنى عمره في العطاء.. إنه أنين الاغتراب.. فلم تعد الجذور تعرفكم.. ولم تعودوا تعرفون جذوركم.
كنا يا ولدي مع أجدادكم روحًا واحده، إذا تألمنا يتألمون، إذا عطشنا يستشعرون، ذابوا حبًا فينا، فلم تبخل عليهم هذه الأرض رغم قساوة الظروف، أنيننا على هذا الرجل، فهو آخر الرجال، وكم نخشى أن يطول الأنين، قبل أن يعود أبناء هذه الأرض إلى جذورهم، لتعود روح أجدادهم فيهم، يشقون الأرض فتنبع المياه العذبة، يزرعون الأرض فتثمر من نخيلهم الحياة، هم من مشى على الأرض هونًا، هم الأوتاد، هم القابض على الجمر، ولو كنا لفزنا.
No comments:
Post a Comment