العادة رهن الممارسة والقدرة رهن التكرار من بعد التعليم، فالشيء الذي لم تعتد على ممارسته يقينا ستلقى صعوبة في التمكين فيه حتى وإن كنت قد تعلمت وحشوت عقلك بالمعلومات عنه، فمعرفة الشيء أمر وممارسة الشيء أمر مختلف تمامًا.
ربما يتعلم الإنسان النحو والصرف ويعرف أصول البلاغة والسجع ويخوض في بحر الإعراب والإملاء ويلتهم مئات الكتب قراءة ومطالعة وبحثًا، ولكنه يقف عاجزًا عن كتابة أربعة أسطر متتالية، فمعرفة مكونات وعناصر الكتابة لا تعني التمكين وإجادة ملكة الكتابة، وحدها الكتابة ثم الكتابة ثم الكتابة، معادلة بسيطة جدًا مفادها تكرار يتبع تعود.
الاهتداء إلى قدرة الكتابة من بعد مشوار التعلم والتكرار أمر طبيعي ولا يدعو للغرابة ولكن هذا ليس مبلغ حلمنا ولا غاية أمرنا، ما نصبو إليه في حديثنا هو عنصر توليد الأفكار، هذا الأمر الذي أنهك الكتّاب وأوصد أمام أحرفهم الباب، فمن دونه تفر الكلمة ويجف القلم.
في حقيقة الأمر ما دعاني لتوظيف عنصر الكتابة وتوليد الأفكار وإبرازها كنموذج للتعود والتكرار على أمر ما هو تشريفي من قبل أخت عزيزة بالإنضواء تحت راية مجموعة ارتقاء، ولا أخفي بادئ الأمر هزني الخجل وخالجني شيء من التردد، فهذه مسؤولية لا أستطيع عليها صبرًا ولا أحتمل فيها وزرًا، لذت بالتفكير فأرجعني نحو التردد مرة أخرى، هممت بالرفض وهمَّ بي نحو الموافقة.
وافقت أولًا احترامًا ومعزة لتلك الأخت التي أكن له عظيم الامتنان منذ عرفتها وثانيًا رغبة في التجربة وخوض غمار تحدي نفسي التي جبلت على الخجل الشديد والتردد في كثير من الأمور، قمعت نفسي الأمارة بالتردد وربطتها بمقولة اعقلها وتوكل.
بعد التوكل وتوطين النفس وبعد مرور ثلاثة أيام تقريبًا عاودني الشك وطاردني شبح التردد مرة أخرى، ماذا فعلت يا رجل؟ هل تعتقد بأن المهمة سهلة لهذه الدرجة؟ هل لك عهدًا بالكتابة أم هي محاولات يتيمة بائسة؟ أليست قدرتك على كتابة مقال أسبوعي هي ضرب من الخيال وصنف من صنوف العجز والمحال؟ هب أنك تمتلك مخزون مفردات بحكم القراءات السابقة وهب أنك تستطيع تعلم بعض مكونات الكتابة من نحو وصرف وإعراب ولكن ما الحيلة أمام توليد الأفكار وهي التي تشكل عصب الكتابة وأساسها الأول؟ وهل هناك تعليم نظري بحت تتمكن من خلاله أن تنتج الأفكار؟
قذفت كل تلك التساؤلات وراء عقلي وأمسكت بزمام الأفكار وإنتاجها، يوجد في المجموعة أكثر من مصحح لغوي ونحوي ولذا مسألة تعلم هذه العناصر مؤجلة الآن، أمتلك كم هائل من المفردات بحكم قراءاتي السابقة للكتب وهذه جنبة أخرى أزيحت من طريقي، بقيت معضلة الأفكار.
شكّل إنتاج الأفكار هاجسي الأول، حاولت مخادعة نفسي بالتخيّل فلم أجد سوى شرود الذهن أكثر فاكثر، تسمرت في غرفتي لعل الهدوء يقودني لفكرة ما فلم يكن هناك سوى خيبة متبوعة بملل، فتحت برنامج الكتابة لعل رؤية البرنامج تحفز عقلي ويذر أفكار فلم يذر ربع فكرة ولا حتى كلمة واحدة، أيقنت حينها بأن الأمر ليس هينًا وعذرت من لا يكتب، فالكتابة فكرة وليست أحرفًا.
وبينما كنت مع زملائي نمارس رياضة المشي اليومية ولأن الموضوع أشغل بالي وأتعب حالي غصت في عقلي وفتشت فيه عن فكرة لموضوع ما، فكانت المفاجأة وحدث ما لم يكن في الحسبان، ازدحمت وتقاذفت الأفكار في رأسي بدون سابق إنذار، تعاركت وتصارعت مع بعضها لنيل سبق البروز وأكثر من ذلك أيضًا جاءت تلك الأفكار بعناوينها وشواهدها وباكتمال أمثلتها.
لم أستطع تحمل إغراء المشهد فمسكت هاتفي ودونت ثم دونت ثم دونت ولا أبالغ ولا أجافي الحقيقة حين أقول بأني استطعت أن ادون أكثر من عشرة مواضيع، مكتملة الأفكار، مملوءة بالشواهد، غنية بالأمثلة.
وبقدر ما كنت مختالًا فرحًا وأنا أدون العناوين تلو العناوين بقدر ما هزني غرابة المشهد، أيعقل من كان يقضي الساعات والايام في البحث عن خيال لموضوع يجد الآن الأفكار والفقرات منبسطة في عقله وتتسابق للقفز ونيل شرف التدوين؟ أيعقل أن تأتي كمية الأفكار تلك وهي مشبعة بإنهاك الجسد والعضلات؟ فلطالما قضيت الساعات تلو الساعات وأنا مرتاح الجسد وممسك بكوب الشاي الساخن ولكن يا حيف لم يطرق باب عقلي حتى ربع فكرة؟ هل هناك سر في الموضوع؟ وهل هناك علاقة طردية أو عكسية بين أعضاء الجسد؟
أسالت تلك التساؤلات لعاب الفضول في عقلي؟ يقينًا بأن الأمر ليس محض صدفة، يقينًا بأنها لم تكن سحابة صيف عابرة، لا بد من وجود جنبة علمية في الموضوع، لا بد من وجود قانون ورابط بين تنشيط الجسد وبين انفتاح الذهن وتوالد الأفكار، حقيقة لست متبحرًا في الفيزياء ولا أملك خبايا جسد الإنسان ولكن الشيء الذي أعلمه وأملكه ومتيقن منه بأن تعارك الأفكار في ذهني أثناء ممارسة الرياضة لم يكن بالأمر العابر.
شغلتني تفسير تلك الحالة حتى لذت للتنقيب لعلي أبلغ الأسباب فأطلع لمعرفة الجواب، وبعد عناء ومشقة القراءة ما بين دراسات وأبحاث وتجارب شخصية وضحت الصورة لي بالكامل وصدقت جميع تلك التوقعات، لم يكن الأمر صدفة ولم تكن ضربة أعمى بعصاه كما يقول المثل الدارج، بل هي حسابات دقيقة وروابط وثيقة بين أعضاء الجسد.
يقول علماء الأعصاب بأن ممارسة الرياضة تساعد على تنشيط الإنسان جسديًا واجتماعيًا وبيولوجيًا والأهم من ذلك ذهنيًا، فالقدرة على التركيز والتفكير تبلغ مستويات عالية، حيث يزداد تدفق الدم للمخ مما يؤدي لوصول نسبة كبيرة من الأكسجين.
كما تؤدي التمارين الرياضية دور المحفز على إنتاج الدماغ لبروتينات مهمتها الحفاظ على صحة وحيوية الخلايا العصبية وتشكيل خلايا جديدة داخل الدماغ، وأيضًا من شأن التمارين أن تحسن من مستوى هرمون النمو الذي تكمن مهمته في تعليم الربط بين الأشياء واستنتاجها داخل الدماغ.
ويجمع العلماء وبعد دراسات وافية وعن طريق استخدام أحدث الأجهزة في اختبار الخلايا العصبية بأن ممارسة الرياضة تساعد على منع انكماش الدماغ وضموره وتساعد بدرجة كبيرة في تحسين مرونة الإدراك.
ويشير المتخصصون كذالك بأن العقل وكحال أي عضو في جسد الإنسان يصاب بالترهل والضعف في حال قلة استعماله والأمر الملفت هو تأكيدهم بأن تحسين تفكير العقل عن طريقة الرياضة ينشط الدماغ أكثر من التفكير نفسه.
ومن المفارقات العجيبة والخاصة برياضة المشي تأكيد الباحثين بأن المشاعر الإيجابية تتوالد أثناء وبعد الممارسة بعكس الرياضات الأخرى التي تأتي مشاعرها بعد الانتهاء.
أما باحثو جامعة ستان فورد فأكدوا بأن المشي يعزز الإلهام الإبداعي وذلك حينما فحصوا مستويات الإبداع بين أشخاص تمشي مقارنة بآخرين جالسين، فتوصلت دراستهم إلى نتيجة أن الإبداع يرتفع لدى الشخص بمعدل 60 في المئة عند المشي.
ومن جانب آخر توصل باحثون يابانيون إلى نتيجة مفادها بأن الهرولة تنشط التفكير والإدراك وتزيد من وظائف الدماغ الحيوية وذلك بعد اختبار مجموعة من الأشخاص واظبوا على الهرولة ثم خضعوا لفحص في الذاكرة والإدراك والذكاء، ووجد الباحثون بأن الأشخاص الذين مارسوا الهرولة كانت درجاتهم عالية جدًا في اختبارات الذكاء.
الأبحاث بالمئات أو تزيد والدراسات بمثلها أم التجارب فهي لا تعد ولا تحصى وكلها تصب في خانة أن التمارين الرياضية تؤدي إلى تفجير ينابيع الإبداع وتفريخ الأفكار بصورة غير اعتيادية، ولكن ليست الرياضة وحدها من يستطيع فعل ذالك، فهناك العشرات من الاستراتيجيات والطرق التي تؤدي نفس المهام وتوصل إلى نفس النتيجة وربما يحالفنا الحظ إلى الوقوف أمام بعضها في مقال آخر.
29 أغسطس 2015
أقوال :
سيليا ريتشاردسون مديرة الصحة العقلية: الرياضة لا تفيد الجسد فحسب بل تساعد بشكل فعال في تنشيط قدرة الإنسان على التركيز والتفكير.
جون راتي مؤلف كتاب Spark: إن تأثير التمرين على أدمغتنا أكثر فعالية من تأثير الأدوية وحتى الطعام.
دان هيرلي في مقال حول (كيف نصبح أكثر ذكاء؟): هناك طريقة سهلة التحقيق ومثبتة علميًا لكي تصبح أكثر ذكاءً، اذهب لممارسة رياضة المشي أو السباحة.
أوبيزو خريج جامعة ستان فورد وحاصل على الدكتوراه في علم النفس التربوي: أن تفكير الشخص الماشي خارجًا من شأنه أن يفجر كل شيء من الينابيع.
No comments:
Post a Comment