Saturday, August 29, 2015

على صفاف الذكريات (29) // ز.كاظم

بسم الله الرحمن الرحيم 
في نفس العام 1993 تناولت التلفزيونات ووسائل الإعلام صورة لطفلة إفريقية وهي في حالة من الضعف الشديد، عريانة أهلكتها المجاعة حتى كادت عظامها تخرج من جلدها الرقيق، ملقية برأسها على الأرض، تجر جسدها المرهق بالضعف والجوع جرًا إلى أقرب مركز للأغذية، وبالقرب منها نسرٌ ينظر إليها وينتظر لحظة موتها بترقب ليقوم بأكلها.. صورة هزت ضمير العالم، وعرّت وجهه على ما يحدث في البلدان التي تحاصرها الحروب والمجاعة.. حروب لا ترحم ولا تذر.. ضج العالم، مَن هي هذه الطفلة؟ ومن أي بلد؟ وماذا حدث لها؟ هل لا تزال على قيد الحياة؟ أم …!!! وكيف أُخِذت هذه الصورة؟ وقد تم صب الغضب على من قام بتصوير هذا الحدث، المصور كيفن كارتر، والذي فاز بجائزة بوليترز من هذه الصورة.. أثيرت الضجة على المصوّر إذ أنه لم يساعد الطفلة بل تركها لحتفها ليفوز بالقبس الصحفي.. أي قلب امتلكه هذا المصور! يصوّرها لأنه كان يقوم بواجبه! ولم يقم بتقديم المساعدة لها خوفًا من العدوى، والتزامًا بالتعليمات! لم يهنأ المصوّر بالجائزة وانتحر بعدها بثلاثة أشهر..
ربما وجد العالم ضالته ليوصم عار وجهه على جسد المصوّر.. لم تكن الضجة إلا زوبعة كاذبة، ككذبنا على أنفسنا حينما نتجاهل وبإصرار وتعمد عن ما يحدث لغيرنا..
مِن أرض جنوب السودان الذي مزقته الحروب وانهكت أرضه وحرثه المجاعة والجوع جاءت هذه الطفلة السوداء، لتعبّر عن محنة الأطفال وتَعبر القارات لذلك الطفل الأسود.. استيقظنا ذات يوم على خبر خطف أحد الطلبة الخليجيين لابن صديقته –الجيرلفرند- الصغير، وزوجته من السود عليها مسحة من الجمال، ووالداها أبيضان بالتبني.. كانت الجيرلفرند تدرس معنا في كلية كلارك، وتعرف عليها صديقنا وتطورت العلاقة بينهما وسكنا مع بعض في مدينة فانكوفر.. كانت العلاقة بينهما هادئة جدًا لطبيعة هدوء صديقنا وكذلك هدوء صديقته.. إلا أنه يبدو أن حدث بينهما خلاف مما دفعها بالتهديد بتركه، الذي جعله يغضب ويأخذ الطفل معه ليركب سيارته وليختفي عن الأنظار..
نزل الخبر علينا كالصاعقة، ما العمل؟ كيف نصل إليه؟ كيف نقنعه بأن ما قام به قد يودي به إلى السجن! في ذلك العام لم تكن هناك وسائل للاتصال غير الهواتف المنزلية والعمومية..
جاء والد الخليجي بسرعة لإنقاذ ابنه من هذه المصيبة، وبينما هو في الجو على متن الطائرة وصلنا خبر أن صديقنا مع الطفل في كاليفورنيا!!! بعد منتصف الليل من يوم الحادثة، طرق باب شقتنا الإف بي آي وقاموا باستجوابنا ليعرفوا إن كانت لدينا أية وسيلة اتصال بصاحبنا.. كان الإف بي آي يريد أن يحل الموضوع قبل أن يصبح خارج اليد، خصوصًا أنه بخطف الطفل إلى ولاية أخرى فإن تلك القضية تحولت من قضية محلية إلى قضية فيدرالية مما استدعى تدخل الإف بي آي.. لم يدّخر الإعلام المحلي القضية، بل حوّلها لقضية إسلام! استئنا من التقرير التلفزيوني كثيرًا حيث أنه لم يكن دقيقًا وفيه تشويه لصورة الإسلام، والقضية لا علاقة لها بإسلام.. الكثير من عمليات الخطف بل والقتل تحدث في المجتمع الأمريكي ولا تتم عملية جر الدين فيها.. بالرغم من خطأ ما قام به صديقنا، إلا أن الزج بالإسلام في القضية لم يكن نزيهًا، ولكنه الإعلام..
أخيرًا تم التواصل مع صاحبنا الخليجي لنتفاجأ بقوله أنه ذهب بالطفل إلى مدينة ديزني لاند للنزهة!!! وهو في طريق عودته إلى الديار، ولكن بين حدود كاليفورنيا وأوريغون حين المساء تعرض لحادث فضيع جدًا نقل هو والطفل إلى المستشفى..
على عجل ذهب أبو الخليجي إلى مكان الحدث والذي يبعد عن منطقتنا حوالي الست ساعات.. قبلها بيوم أوكل الوالد إحدى المحاميات للترافع عن قضية ابنه، ولم يصل الوالد للمستشفى إلا والمحامية هناك قبله.
توفى الطفل من جراء الحادث.. ذلك الطفل الصغير الذي جاء أجله وهو لا يعلم ما يحدث حوله..
تمكنت المحامية أن تُخرج الخليجي من القضية كالشعرة من العجين ذلك لأن الولاية التي يسكن فيها اعتبرته زوجًا للأم – بما أنه ساكن مع أم الولد ولمدة أكثر من ستة أشهر –، ولا يُعد أخذه للطفل اختطافًا..
مع ذلك، لا يتساهل القانون الأمريكي مع أية إساءة أو امتهان للطفل، إذ يستطيع أي طفل أن يرفع سماعة الهاتف ويتصل برقم 911 لتأتي الشرطة وتلقي القبض على الأب أو الأم إذا ما ادعى الابن عليهما بأنهما اعتديا عليه.. يُربى الطفل الأمريكي على أنه كيان له كرامته واحترامه، ولا يحق لأحد أن يعتدي عليه حتى لو كان أقرب الأقربين له.. في بداية الأمر كنتُ أستغرب من هذا الأمر، لكني استوعبته بعد اطلاعي على الكثير من القصص والأحداث وخصوصًا تلك القصص التي تقرأ أو تسمع أحداثها عن أم أصيبت بإحباط فقامت بقتل أولادها الخمسة الواحد تلو الآخر، أو تلك الأم التي تركت ولديها في السيارة وألقت بها في النهر لأن صديقها لا يحب الأطفال، أو ذلك الأب الذي يعتدي على أطفاله بالضرب المبرح وغيرها الكثير من القصص التي تحدث حتى في ظل صرامة القانون من قساوة تُمارس على الطفل..
واحدة من الخليجيات – والتي كانت مع زوجها المبتعث – ضربت ابنتها في إحدى المجمعات التجارية، فقامت إحدى الأمريكيات بالاتصال بالشرطة ليأتوا بسرعة وتم إلقاء القبض على الأم وأخذ الفتاة منها.. كادت هذه العائلة على وشك فقد ابنتها.. في الحال قام الزوج بتوكيل محامي، وبعد عدة محاولات وكتابة تعهد إلزامي بعدم ضرب الفتاة تم تسريح الزوجة وإرجاع البنت لها. في الحال وعند رجوع العائلة للمنزل قرر الأب أن يرجع إلى بلده حالًا.
الجالية العراقية التي جاءت من رفحاء بعد حرب الخليج الأولى اصطدمت مع القانون الأمريكي في خصوص رعاية الأطفال وأسلوب التعامل معهم.. من العادي جدًا أن يقوم العراقي بـ “بسط” ولده أمام مرأى الناس في قناعة منه أنه يؤدب ولده ويُربيه، لكن ذلك الأسلوب في العُرف الأمريكي يُعتبر مخالفة للقانون ويستدعي إلقاء القبض على الأب وأخذ الولد منه، وقد يقوم القانون بإعطاء ولده لدور الحضانة والرعاية أو لأبوين يرغبان في التبني، وقد لا يتمكن الأب من رؤية ولده أو ابنته بتاتًا.. لا يقتصر الأمر على مجرد إساءة التعامل مع الطفل بل حتى الإهمال قد يوقع الأبوين في مشكلة مع القانون..
والمرأة أيضًا تمتلك مساحة كبيرة جدًا في اهتمام القانون الأمريكي الذي يُحاول أن يُعوّض عن القسوة التي لاقتها المرأة في ظل التاريخ الأمريكي.. جاء أحد العراقيين المهجرين إلى منزله ليلًا وهو ثملٌ سكران، وقام بضرب زوجته ضربًا قاسيًا.. ولم يكتفِ بذلك بل أراد طردها من المنزل، فتشبثت المرأة بالبيت ولم تخرج.. اتصل بالبوليس ليخرجها من المنزل.. جاء البوليس على أثر بلاغه، وكانا اثنان: شرطي وشرطية.. ما إن دخلا المنزل حتى لقيا الزوجة وفي وجهها بقع سوداء من أثر الضرب الذي أنزله عليها زوجها.. وعلى الفور قامت الشرطية بتقييده وإلقاء القبض عليه، وقضى ليلته في السجن ربما متفكرًا في السبب الذي دفع الشرطة بسجنه عوضًا عن طرد زوجته من البيت!!!
لذلك كانت الحياة عند بعض العراقيين المهجرين صعبة جدًا، فالكبار منهم لم يتأقلموا مع الوضع نظرًا لاختلاف طبيعة الحياة من قوانين وأعراف، وكذلك لصعوبة المعيشة في ظل افتقاد المؤهلات من لغة ودراسة وخبرة، وقد كان البعض منهم يمتلك شهادات جامعية لكن لم يستطيعوا أن يعادلوها فكان عليهم أن يعيدوا سنوات الدراسة، وكذلك صعوبة التوفيق بين الدراسة والعمل.. أما الصغار فقد أندمج الكثير منهم بسرعة مخيفة.. فكانت العائلة العراقية بين نارين، نار تسعرها صعوبة الانخراط في المجتمع للكبار ونار يصهرها فقدان الصغار حد الذوبان في المجتمع الأمريكي.

يتبع في الحلقة القادمة..


29 أغسطس 2015

No comments:

Post a Comment