من منا يتوه عن قهرية حقيقة الموت؟
من منا لم يُبتلى بفقد عزيز؟
من منا لم يقرأ آيات الله المحكمات التي تصر وتؤكد وتذكر، بأن لنا جميعًا موعد شئناه أم أبيناه، موعد ستُبلى فيه عظامنا حين تفارق روحنا أجسادنا.
للموت حقيقتان لا مجال للشك فيهما، ورغم أن الإنسان مقر مستسلم عاجز أمامهما إلا أنه لا زال يفر من الموت!
يقول رب الأرباب “قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ۖ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ”
نفر أولًا من حقيقة وحتمية لقاءنا بالموت، فنهز رؤوسنا لنطرد منه فكرة أننا قد نموت بعد هنيئة أو بعد سنة أو بعدهما!
كما نحاول الفرار من حقيقة وحتمية فقدان أحبة لنا، قد يختارهم الله في موعدهم الذي لا يعرفه أحد سواه، لنبتلى بعد ذلك بوجع الفقد.
الفقد..
الوجه الآخر للموت، حقيقة تحدث لا محالة فإما أن تقتنصك تلك الحقيقة ليفقدك محبوك، أو تقتنص تلك الحقيقة حبيبًا لك لتفقده، ثم تتعلم عبر درس الفقدان القاسي ذاك، أن لا أحد على وجه هذه البسيطة باق! وأنّ الموت لا يستأذن الأحياء، فقد يفر من كهل يظنه أحبته يحتضر على فراشه، ليفغر فاهه ويبتلع شابًا سليمًا أثناء لهو أو لعب!
ندرك حقيقة الفقد لكنا تائهون عن حقيقة الموت، ذلك أننا نلمس أثر الفقد على نفوسنا ونفوس من حولنا، بينما يغيب الأموات عن إدراكنا ويصعب على حواسنا تتبع أحوالهم.
هل من الصعب أن يتخيل إنسان أثر فقدانه لمن يحب؟ هو يدرك وجع ذلك التخيل فيسرع رافعًا كفيه لله ويتمتم بكلمات الدعاء ليبعد شبح الفقد عن واقعه وما هو ببعيد!
لكن..
من منا يدرك حقيقة الموت؟
ليجرب أحدنا بأن يتحدث عن موته أمام أحبته، سينهره محبوه حتمًا وسيطردوا كابوس فقده ويعطلوا تفكيره وتفكيرهم عن حتمية وقوعه.
ليخبر أحدكم صاحبه بأنه قد كتب وصيته، سيضع الصاحب يده على قلبه وربما اندفع راكعًا ساجدًا خوفًا من “فال” كتابة صاحبه لوصيته!
يذكر السيد الطباطبائي بحسب نقل سمعته من الشيخ زمان حسناوي في سلسلة محاضرات يتحدث فيها عن المعاد* ، أنّ ذكر الموت وما بعده قد ورد في القرآن الكريم فيما يقارب ألفي آية!!
فيما يبدو أنه إصرار على “العلم” بما ينتظر الإنسان بعد عالم الدنيا، إنها حجة يلقيها الله على عباده، إنها رحمة إلهيه وإعداد رباني للبشر ليكونوا عالمين بحقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة وحقيقة وجودهم على هذه الأرض!
يُخيّل لنا أننا خُلقنا في تاريخ ميلادنا وأنه ينتظرنا يوم ليُختَم فيه وجودنا، إلا أن الواقع القرآني ومن خلال أحاديث العترة عليهم السلام يقول إن الأرواح خلقت قبل الأجساد بألفي عام – ليست سنواتنا البشرية قطعًا – وأن لا فناء لروحك أيها الإنسان!
فعن عبدالله ابن عبدالرحمان، عن الهيثم بن واقد، عن ميمون ابن عبدالله، عن الصادق، عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام، ثم أسكنها الهواء، فما تعارف منها ثم ائتلف ههنا، وما تناكر ثم اختلف ههنا)
إنها رحلة تكاملية ينتقل فيها الإنسان من عالم لآخر، ويعتبر وجودنا على الأرض أدنى مستويات العوالم التي ننتقل بينها ولذلك سميت “الدنيا” ومرجع ذلك بحسب بعض الآراء لكونه العالم الوحيد الذي يمتلك الإنسان فيه القدرة على الطاعة والمعصية فيختار معصية الله!
رحلة تبدأ من عوالم لا نتذكرها، كعالم الأرواح والأصلاب والذر وتنتهي بعوالم لا نستطيع إدراكها كعالم البرزخ والقيامة حتى عالم الخلود في جنة الله أو ناره “الآخرة”! اذ لا فناء لروح الإنسان.
ما أود الإشارة إليه ومناقشته من خلال هذا المقال، هو خطأ نظرتنا القاصرة لوجودنا، إذ أننا نختزله في وجود دنيوي لا نتذكر ما قبله ولا نستطيع بحواسنا أن ندرك ما بعده.
الخطأ في هذه النظرة في اعتقادي لا يقتصر على أننا نعيش هذه الدنيا بطولها وعرضها بحجة “أننا لن نعيش إلا مرة واحدة” فحسب بل يتجاوزها أحيانًا لدرجة أننا لا نقوى على أن نعيش أصلًا فضلًا عن أن نعد العدة لدنيا وآخرة!!
تحت وطأة الغفلة عن حقيقة الموت، كواقع ومرحلة مباغتة نحتاج أن نُعد أنفسنا ومن حولنا لها، قد تنسحب سنوات عمرنا من بين أيدينا دون أن نفكر فيما بعد هذه الدنيا ونحن نعتقد أن الموت بعيد عنا مهما تقدمنا في العمر! وكأنه مس من غرور يصيبنا كلما تمتعنا بالصحة والسعادة.
من آداب النوم المروية عن أهل البيت عليهم السلام أن تتوجه للنوم وكأنك لن تستيقظ منه! حتى أن هناك توصية بأن تبيت في فراشك وقد وضعت وصيتك تحت رأسك!**
من منا لا يعرف القاعدة الذهبية التي رواها الإمام علي عليه السلام: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا)
كلنا نعمل لدنيانا وكأنا نعيش أبدًا، فنفني الأعمار في النضال والكفاح من أجل واقع اقتصادي واجتماعي وسياسي أفضل لكن من منا يقف كل ليلة ليعمل أيضًا لآخرته وكأنه مفارق الدنيا غدًا؟
فيخشى الله حين يتوجه لمعصية، بل يخشى الله مما هو دون ذلك، فيخشى أن يبذّر مواردًا تحت يديه فيما لا يفيد الإنسان والمجتمع، ويخشى أن ينظر شذرًا لمؤمن أغضبه خشية أن تكون تلك النظرة الغاضبة آخر ذكراه، بل لربما غادرت قلبه أمراض الغيرة والحسد والحقد، لتحل محلها حالة من الرضا والقناعة فلا شيء يستحق أن يحيا إنسان وهو يبغض آخرًا وقد يغيب أحدهما فجأة من على أديم هذه الأرض، ولا شيء في الحياة يملكه آخر، يستحق أن يمد الإنسان بصره إليه وهو مغادره بعد حين! وفي ذات الوقت فقد يحث الخطى ليؤمن لعياله قوت أيام قد يغيب عنها سريعًا، وقد يمتلك العزم ليورثهم علمًا نافعًا ودارًا صالحة للسكنى وأوقاتًا جميلة يتذكرونها بعد رحيله.
متى ننظر بعين واسعة لحقيقة الحياة، لندرك أنها رحلة طويلة جدًا لا تبدأ مع صراخ الطفل حديث الولادة ولا تنتهي بسكنى القبر، وأن الموت محطة من محطات تلك الرحلة، حيث نترجل من قطار الدنيا لنركب قطار الآخرة، حيث الموت بوابة لحياة أبدية سرمدية تعتمد بشكل كامل على خطة العمل الدنيوية – الأخروية التي وضعناها واتبعناها ونحن في قطار الدنيا.
لا نحتاج لأن نتعلم كيف من الممكن أن ننظر لوجودنا في أبعاده المترامية الأطراف فحسب، ما أحوجنا لننقل تلك النظرة المتسعة الواعية لمن هم حولنا خصوصًا من التصق وجودهم بوجودنا فنكون مستعدين لملاقاة الموت بصدر رحب وثقة إيمانية وبشعور بالرضا لما خلفناه في هذه الدنيا، ونكون ويكونوا قادرين على مواجهة الحياة رغم فقد الأحبة الموجع واثقين مما ينتظرهم وينتظرنا لنوفر عليهم وعلينا جرعات ألم وصدمة شاء الله توفيرها علينا مما استغرق القرآن مئات الآيات التي تذكر الموت وما بعده ما بين ترغيب وترهيب وتوجيه.
لنعزز حقيقة أن الموت.. بوابة لحياة نأمل أن تكون في غاية اللذة.
همسة: الكثير من الدورات نلتحق بها لنتعلم فنون ومهارات الحياة لا بأس بين فينة وأخرى ان نلتحق بدورات تعلمنا فنون اجتياز مراحل الموت حتى نصل للسعادة الأبدية ***
29 أغسطس 2015
* يمكن متابعة سلسلة محاضرات الشيخ زمان حسناوي والتي ألقاها في شهر رمضان الأخير حول “المعاد” وهي سلسلة في غاية الروعة والأهمية والدقة عبر اليوتيوب .. الحلقة الاولى:
** المصدر كتاب مفاتيح الجنان للشيخ عباس القمي قسم آداب النوم.
*** يقدم الشيخ جعفر الستري الأمجدي دورات في غاية الروعة حول الحياة ما بعد الموت وبأسلوب سلس وممتع ومفيد.. يمكنكم الاطلاع على إعلان الدورات عبر حسابه في الإنستقرام : @alsetry
No comments:
Post a Comment