المشهد الأول:
في بدء الخليقة، حيث العالم كله في أربعة أشخاص .. يتغلّبُ الحسدُ والحقدُ على قابيل، تبدأ أول حربٍ على الحقيقة، الحرب التي ربما كُتب لها أن لا تنتهي ما دامت هناك حياة .. قابيلُ يرفض حقيقةَ تقبُّل الله قربانَ أخيهِ هابيلَ دونَ قُربانه، فيرتكب الجريمة التي أنهت ربعَ سُكَّان الكرة الأرضية، حتى تخلو لهُ الأرض! ما الذي صنعهُ قابيل آنذاك بفعلته هذه؟
المشهد الثاني:
كان من الصعبِ جدًا على نوحٍ النَبي أن تتدمّر وتغرق قريته ويُهلكَ من فيها في غضونِ لحظات، خصوصًا أنهُ استغرقَ 950 عامًا في دعوتهم لدين الحق، كان من الصعبِ عليه أن يستسلمَ ليأسهِ منهم، ولكنهُ أمر الله!! فماذا حقق النبي نوح في دعائه هذا؟
المشهدُ الثالث:
يقفُ النبي محمدٌ (ص) في جمعٍ غفيرٍ من الحجاج تحت الشّمسِ اللاهبة، ويأخذ بيد ابن عمه" من كنت مولاه فعليٌّ مولاه ... " علي الذي قال عنه" علي مع الحق والحق مع علي" وبعدها بأيامٍ يموتُ رسولُ الأمّة، فتنقلبُ أمّة محمد كلّها على عقبها، عدا عليّ الإمام وأهل بيته و أربعةٌ من أصحابه، بينما بقية القوم منشغلونَ بتقسيم كعكة الخلافة التي أورثها النبي للإمام عليّ نصًا، فيُعزل عليٌّ عن منصبهِ، ويَلبس جلباب الحقِّ من لم يعرفوه أبدا...! ما الذي حدث تحديدًا؟
المشهد الرابع:
مسلم بن عقيل في الكوفة .. يفصل بينهُ وبينَ عمر بن سعد ستار فقط، إما أن يغدر ويقتل عمرًا فينتصر الحسين في حربهِ ويقضي على فاجعة عظمى ستحدث في كربلاء .. أو أنه يضحي بمصلحته فيمسك عن الفتك، والنتيجة أن يفجع العالم بقتل الحسين بأبشع صورة!! ما الذي فكّر فيه آنذاك و كيف قرر؟
المشهد الخامس والأخير:
الحكّامُ والطغاة .. يضربون أروع الأمثلة في سلب شعوبهم مختلفَ الحقوق، من أجل الحفاظ على هذا الكرسي، ومصالحه، فما الذي يفعلونه هم أصلًا؟
ثمةَ عاملٍ مشتركٍ بين هذه المشاهد الخمسة، التي بدأت منذ بدء الخليقة واستمرت لهذا اليوم بعدة صور ومشاهد لا تُعد ولا تُحصى، وبتصوري أن هذا العامل المشترك هو المشكلة الأساس التي فتكت بالمجتمعات بكل مستوياتها وطبقاتها، فحين يفكر كلٌّ منا في مصلحتهِ الخاصة وينتصر لها في مقابل أن يُضحّي بالحق والحقيقة، فمن الطبيعي أن يتفشى في مجتمعاتنا مرض الأنانية ضد الحق.
حينها تُداس كل القيم والمبادئ والأديان والإنسانية والنُّبل والصفات الحميدة، مقابل المصالح الشخصية، وبالتجربة والملاحظة، سنرى أنه من النادرِ جدًا أن تجتمعَ الحقيقة معَ المصلحة في إطارٍ واحد، فيكون الاختبارُ أمامَ البشرية حينها بين الحقيقة والمصلحة، ومن المؤسف أن الغالب هم يتجهون دائما للتضحية بالحقيقة لتحقيق المصلحة، الأمر الذي عمل على محاربتهِ مائة وأربعةٌ وعشرون ألفَ نبيّ بالإضافة للمعصومين.
المشكلة تتفاقمُ ويتضاعفُ أثرها حين يتحول هذا السلوك من ممارسات على المستوى الفردي إلى ظاهرة وثقافة عامة في مجتمع، وحين تتحول من ممارسات من عوام الناس، إلى ممارسات من قِبَلِ المؤسسات المجتمعية والدينية، فتساهم في تشكيل مجتمعات خالية من كل حقيقة، تسيطر فيها المصالح الفردية.
حين نقف اليوم أمامَ دينٍ حق قد كُسّرت أضلاعه، وتم نحتهُ باحترافية تامة ، وصهره بنار الواقع لتطويعه كما تقتضي المصالح الشخصية لمن يبحث عنها باسم الدين طبعًا، فسنصل إلى مجاميع مختلطة من متدينين وغير المتدينين تسلَّقت الدين الجديد كي يخدم مصالحها بالدرجة الأولى، كما سيرفض خليط دين المصلحة أي محاولة للعودة لدين الحق.
المجتمع الذي تحدّه حكومةٌ وعلماء ومثقفون ومؤسسات جميعها تبحث عن مصلحتها قبل كل شيء، ماذا يتوقع من أفراده غير أن يعيش كل فردٍ منهم الأنانية التامة، فيتفكك المجتمع بأسره، ويسهل اختراقه أو القضاء عليه.
أن تختفي الحقيقة على حساب المصلحة ذلك يعني خلق حالة هجينة ومزدوجة ومشوهة لا يمكن التمييز فيها بين حقٍ وباطل، وبين صالح وفاسد، تختفي القيم، وتموت المبادئ، وبالتالي ينعدمُ الصلاح ويحل محله الفساد، حينها لن تتمكن من معالجة هذه المشكلة مهما تفاقمت، ولن تتمكن من إشاعة الحقيقة مهما تعرّفت عليها، فمصلحة الـ " أنا " انتشرت وسحقت كل فرصةٍ للمصلحة العامة أن تبرز.
ختاماً .. لن ينفعنا التدين، ولن تنفعنا مواجهتنا للظلمة وقوى الاستكبار، ولن يتقدم المجتمع والأمة أبداً؛ إن لم ننتصر للحق والحقيقة ولو على حساب مصالحنا الشخصية، فالدين الخالي من القيم ليس أكثر من طقوسٍ وهوية، ومواجهتنا للظلمة وقوى الاستكبار لن تكون سوى مشاريع لإنتاج ظلَّام جُدد، والمجتمع الذي يتجنب أن يقول الحقيقة خوفًا على مصلحته، سيظل في وحل التزييف والتزوير أبدا.. هذه المشكلة حقيقية لم تكبر لهذا الحجم إلا من بعد السكوت عنها حفاظًا على المصلحة.
أبو مقداد
19/11/2013
No comments:
Post a Comment