Friday, April 24, 2015

الشُيُوعِيَّةُ، وإنْ غَابَ أو (غُيِّبَ) رَسْمُها (26) - "رُؤى من القرآن والعترة (7) / محورية وجود المعصوم (عليه السلام) في اتخاذ القرار.. بالبناء على ما مرَّ" // محمد علي العلوي



نَقْدُ الثقَافَةِ أكْثَرُ مشَقَّةً مِنْ نَحْتِ الجِبالِ قُصُورًا للسَلَاطِين..

عَمِلَ بعضٌ من أصحاب الأئمَّة (عليهم السلام) في وزارات الدولة الظالمة، مثل علي بن يقطين (رضوان الله تعالى عليه)، وهذا مثله في الجانب المقابل مِثلُ الجهاد تحت راية الإمام المعصوم (عليه السلام)، فلا هذا يُصابُ بأيِّ عقل، ولا ذاك يتمكَّنُ أيُّ عقلٍ من تشخيص صلاحه من فساده.

لِعَليِّ بن يقطين الحُجَّة يوم القيامة، ولزهير بن القين مثلها فيه، فالحضور القيادي للمعصوم (عليه السلام) حجة للمؤمنين يوم القيامة، وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لكميل بن زياد: "أخوك دينك، فاحتط لدينك بما شئت" (وسائل الشيعة للحرِّ العاملي، ج18 ص123).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "حلالٌ بيِّنٌ وحرامٌ بيِّنٌ، وشبهات بينَ ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرَّمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرَّمات وهلك من حيث لا يعلم" (الكافي للكليني، ج1 ص68).

عندما نخوض مواجهة مع الظالمين، فعلينا أن نسأل عن البواعث عليها؛ فلا يكفي أن يكون الآخر ظالمًا حتى نواجهه، ولا يكفي أن يكون طاغوتًا، ولا يكفي أن يكون مغتصبًا للحقوق!

نعم، هذا كلُّه يكفي غير المؤمنين لمواجهته، فهم - في أحسن الأحوال - يُريِدون إعادَةَ الأمُور إلى نصابها، وعلى هذا الطريق تُسَجَّلُ الضحايا قرابين عِزٍّ على طريق الحريَّة والإباء..

إنَّه أمرٌ لا بُدَّ أن يُحتَرم في جوانبه الصحيحة، ولا شك في أنَّ الداعين إليه ممدوحون عند كُلِّ عاقل، ولكِنَّ هذا لا يُسوِّغُ للمؤمن التأسي بهم في معادلات المواجهة مع الظالم؛ إذ أنَّ المؤمن لا تُحَرِّكه قضايا الدنيا ما لم يكن رضى الله تعالى محيطًا بحركته من مختلف جوانبها، وهذا متحَقِّقٌ في أخذه بالحلال البيِّن، واجتنابه الحرام البيِّن، وثمَّة طريقٌ آخر أظُنُّه طريق الاختبار الحقيقي للمؤمنين، وهو طريق اجتناب الشبهات بالاحتياط، وإلا فالوقوع في الهلكات كما نصَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله).

عندما نتحدَّثُ عن مواجهةٍ كما هو الحال المعروف في النظرية الشيوعيَّة، فنحن في الواقع نتحدَّث عن تضحيات ودماء وغير ذلك مِمَّا يحتاج لجهة تتحمل المسؤولية أمام الله تعالى يوم القيامة، ومثلها يتحملها عامة التابعين لها، فالاختيار مسؤولية أيضًا، وقد قال الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): "إنَّ الله عزَّ وجلَّ لما خلق العقل، قال له أقبِل فأقبل، ثمَّ قال له أدبر فأدبر، فقال تعالى: وعِزَّتي وجلالي، ما خلقتُ خلقًا هو أكرم عليَّ منك، بِكَ أثيب وبِكَ أعاقب، وبِكَ آخذ وبِكَ أعطي" (عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي، ج4 ص100).

وهنا مسائل ثلاث:

- الأولى:

عندما يأتي الكلام عن المواجهة وظروفها، فلا ظهور في ذلك لمصلحة الخنوع والقبول بالذل، فالاحتياط كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) "بما شئت"، ولذلك فإنَّ لمقارعة الظالم تأسيسات استغرقت من أهل البيت (عليهم السلام) ثلاثة قرون، وتظهر تأسيساتهم بالدرجة الأولى في بناء المجتمع الإيماني الذي عدَّ المعصومون (عليهم السلام) أهله أفضل من أهل كُلِّ زمان، فعَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْكَابُلِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (عليه السَّلام) أنَّهُ قَالَ: "تَمْتَدُّ الْغَيْبَةُ بِوَلِيِّ اللَّهِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ أَوْصِيَاءِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه و آله) وَالْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ .

يَا أَبَا خَالِدٍ: إِنَّ أَهْلَ زَمَانِ غَيْبَتِهِ الْقَائِلُونَ بِإِمَامَتِهِ الْمُنْتَظِرُونَ لِظُهُورِهِ، أَفْضَلُ أَهْلِ كُلِّ زَمَانٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَعْطَاهُمْ مِنَ الْعُقُولِ وَالْأَفْهَامِ وَالْمَعْرِفَةِ مَا صَارَتْ بِهِ الْغَيْبَةُ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُشَاهَدَةِ، وَجَعَلَهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ بِمَنْزِلَةِ الْمُجَاهِدِينَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه و آله) بِالسَّيْفِ، أُولَئِكَ الْمُخْلَصُونَ حَقًّا، وَشِيعَتُنَا صِدْقًا، وَالدُّعَاةُ إِلَى دِينِ اللَّهِ سِرًّا وَجَهْرًا". (بحار الأنوار للمجلسي، ج52 ص122).

وعَنْ جَابِرٍ أنَّهُ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ‏ عَلِيٍّ (عليه السَّلام) وَ نَحْنُ جَمَاعَةٌ بَعْدَ مَا قَضَيْنَا نُسُكَنَا، فَوَدَّعْنَاهُ وَقُلْنَا لَهُ أَوْصِنَا يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ.

فَقَالَ: "لِيُعِنْ قَوِيُّكُمْ ضَعِيفَكُمْ، وَلْيَعْطِفْ غَنِيُّكُمْ عَلَى فَقِيرِكُمْ، وَلْيَنْصَحِ الرَّجُلُ أَخَاهُ كَنُصْحِهِ لِنَفْسِهِ، وَاكْتُمُوا أَسْرَارَنَا، وَلَا تَحْمِلُوا النَّاسَ عَلَى أَعْنَاقِنَا، وَانْظُرُوا أَمْرَنَا وَمَا جَاءَكُمْ عَنَّا فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُ فِي الْقُرْآنِ مُوَافِقاً فَخُذُوا بِهِ، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مُوَافِقاً فَرُدُّوهُ، وَإِنِ اشْتَبَهَ الْأَمْرُ عَلَيْكُمْ فَقِفُوا عِنْدَهُ وَرُدُّوهُ إِلَيْنَا، حَتَّى نَشْرَحَ لَكُمْ مِنْ ذَلِكَ مَا شُرِحَ لَنَا، فَإِذَا كُنْتُمْ كَمَا أَوْصَيْنَاكُمْ وَلَمْ تَعَدَّوْا إِلَى غَيْرِهِ، فَمَاتَ مِنْكُمْ مَيِّتٌ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ قَائِمُنَا كَانَ شَهِيدًا، وَمَنْ أَدْرَكَ قَائِمَنَا فَقُتِلَ مَعَهُ كَانَ لَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ، وَمَنْ قَتَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَدُوّاً لَنَا كَانَ لَهُ أَجْرُ عِشْرِينَ شَهِيدًا". (الأمالي للشيخ الطوسي، ص232).

إنَّه لمن الصعب ونحن نعيش المادة ومعادلات الأرقام، أنْ نتمكَّن من استيعاب حقيقة القوة العظمى لمثل هذه التأسيسات في إرغام أنوف الظالمين والجبابرة، ولكِنَّها الحقيقة - كما أرى -، ويدل عليها قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)، فما هو حجم انتصارنا لله تعالى في واقعنا اليوم؟

لا يحتاج الجهاد إلى جيوش وأعداد، ولكِنَّه يحتاج إلى ثُلَّة مؤمنة تتمثل الطبيعة التي انتسب إليها أصحاب الحسين (عليه السلام) في كربلاء، وإلَّا فقضية مواجهة الظالم ورفع راية المقاومة والتضحية ليس مما يميز المؤمنين. فتأمل جيِّدًا.

إنَّها طبيعةُ التدين والتسليم الخالص للثقلين المقدَّسين، وتجنب التحايل عليهما بأيِّ شكل من الأشكال.

- الثانية:

هل يختصُّ قرار المواجهة مع الظالم وقيادتها بالمعصوم (عليه السلام)؟

هناك مجموعة من الشعارات والمقولات لا أعرف منشأها الحقيقي، ولكِنَّني أتمكن من قراءة آثارها الثقافية بشكل واضح، منها: الحقوق تنتزع ولا تؤخذ، ولا يفلُّ الحديث إلا الحديد!

لم أجد - بحسب تتبعي - أصولًا أدبية ثقافية في تراث الثقلين المقدَّسين لمثل هذه المقولات إلا بتكلُّف التأويل، أو ربَّما وُجِدَتْ مُعَارَضَةً بمحكمات أعرض عنها من أخذ بها، إمَّا غفلةً أو عن قصد!

وعلى أيَّةِ حال، فإنَّ مثل هذه الشعارات، تسبَّبتْ واقعًا في أنَّ بعض الثقافات حصرتْ المواجهة في القيام المباشر على الظالم، وبطريقة واحدة، شَعاراتُها من شاكلة تلك التي ذكرتُها قبل قليل.

أقول:

عندما نُقَرِّرُ حجم المسؤولية التي يتحمَّلها المتصدِّي برايَةِ المواجهة المباشرة مع الظالم، فإنَّ العقل لا يعارض تحركَّه من حيث هو قاطع بتحمُّله للمسؤولية كاملة، وبما أنَّه يقطع بما هو عليه، فمن الطبيعي أن لا يصادر قطوعات الآخرين، خصوصًا إذا كانت على نفس المستوى من الصدق الذي يقوم عليه قطعه.

وبالتالي، هناك من يقطع بضرورة المواجهة مع الظالم ولكن بأساليب أخرى غير الاصطدام المباشر، ولصعوبة عمل الاثنين في ساحة واحدة، فإنَّه من الضروري أن يعمد كلُّ طرف منهما لتسقيط الآخر، وهذا السلوك هو عين ما تؤسس له النظرية الشيوعية في المواجهة بين البروليتاريا ومن لا ينخرط فيها من سائر العمَّال!!

ما ينبغي أن يقال هنا:

طالما أنَّ أحدًا لا يتمتع بحصانة القيادة المعصومية التي تتعامل مع الحوادث بناءً على الانكشاف التام، فإنَّ الاصطدام الداخلي لا يمكن القبول به من جهة الشرع؛ فالقطع بلون اليقين مع عدم وجود المقدِّمات اليقينية، فيه نوع واضح من الجرأة على مقام العصمة.

نعم، إنَّه لا بُدَّ من إيجاد طريقة للتوفر على أكبر قدر من التوافقات الثقافية بين التوجهات المتعاكسة على مستوى الفكر والسلوك، وهذا لا يتأتَّى بمناقشات متوترة وتفريغات نفسيَّة مشحونة، ولا باصطفافات حزبية وتيَّاريَّة أو ثقافية وفكرية لا أشكُّ في عُقمِها، ولكنَّه رهين دراسات علميَّة معمَّقة تتبعها منظومة عمل ثقافي صحيح، وإلَّا فما يحدث اليوم لا أتمكَّن - شخصًا - من القبول به لا من هذا الطرف ولا من ذاك.

ما أفهمه، هو أنَّ قرار المواجهة المباشرة مع الظالم لا يقتصر على المعصوم (عليه السلام)، ولكِنَّه مشروط عقلًا وحِكمَةً بوجود جهة ذات عقليَّةٍ راجِحَةٍ، وقُدرَةٍ واقعيَّةٍ على تحمُّل المسؤولية الكاملة أمام الله تعالى.

وما أفهمه، إنَّه لا يحِقُّ لأحدٍ أن يحمل الآخرين مسؤولية خياراته هو، وهذا أمر من المعيب مناقشته أصلًا، فالقضية محسومة أدبيًا، ومن المعيب، بل ومن الشؤم أن تشتغل مختلف التيارات والتوجهات على تجيير الدين انتصارًا لنفسها وتسقيطًا لخيارات الآخرين.. هذا عيب كبير يكشف عن معائب مركَّبة.

- الثالثة:

لا شكَّ في أنَّ البناء العلمي والمعرفي يحتاج إلى أوقات ومراحل متطاولة، إلى أنْ يظهر ثقافة وفكرًا في حياة الإنسان فردًا ومجتمعًا، وفي المقابل، فإنَّ حركة التسارع والتطارد على نسق (Action) في مصطلح أفلام هوليود، أقرب للتفاعل من قِبل عامة المجتمع البشري الذي يهوى المشاهد السريعة المثيرة (وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً)، ولذلك فإنّني أتوقع لشخصية (ثورية) حقيقية أو سينمائية، شهرةً أكثر من شهرة صدر المتألهين الشيرازي، أو الفارابي، أو المفيد، أو الطوسي، أو المحقِّق الكركي..!!

هؤلاء صنَّفوا للإنسانية، وشيدوا صروحًا للعلم والمعرفة، ولكِنَّهم ليسوا مما تهواه القلوب مثل أيِّ شخصيَّة ذات ثقافة خطابية كما حُرِّر في سيكولوجية الجماهير.

وبالتالي، فإنَّه ليس من الصحيح اختزال التشيع في فكرة المواجهة المباشرة مع الظالم، بل هو في أصله اختزال أدعو لمراجعة مقدِّماته مراجعة جذرية؛ فما أعتقده هو أنَّ تيار المنهج الخطابي (بحسب موازين الصناعة) قد طغى بشكل أو بآخر، ولسبب وآخر على عموم الثقافة التي يعيشُها شيعَةُ أهل البيت (عليهم السلام)، وخصوصًا في القرن الأخير، وعلى وجه الخصوص بعد طروِّ بعض التحالفات بينهم وبين جهات وتيارات (غير إسلامية)!

بعد هذه الإشارات في المسائل الثلاث، فما ينبغي الإلفات له، هو أنَّ المؤمن لا يصحُّ منه الانحصار في حدود هذه الدنيا وموازينها، وهذا ما أشرتُ إليه في المقال السابق من خلال القوسين (قوس الأنبياء وقوس الإمام المهدي عليهم السلام).

فلنتوجه الآن بالنظر في تركيز القرآن الكريم على حقيقة الآخرة وضرورة الإيمان بها وبما يكون فيها من الوفاء الإلهي بالوعد (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء * وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ * وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ * يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ * لِيَجْزِي اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَذَا بَلاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ).
هنا تحدٍّ آخر، وهو تحدِّ مقاومة الوقوع في ظلمات الظلم، فينقلب طالبُ الحقِّ إلى مشروع لظلم جديد بعناوين جديدة، والحال (كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى)، أي يستغني برأيه ويستقل به عن مصدر النعم، وهو الله تعالى والخلفاء من آل محمد (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وبهذا الاستغناء يطغى الإنسان بعد أن كان على الجبهة المقابلة.

من الواضح لي، إنَّ الاحتياط بتجنب اقتحام الشبهات لا يتمُّ إلَّا بالانشغال الداخلي على صعيد التأسيس والبناء، وهذا في حدِّ ذاته دعاء عملي للإمام المهدي (عليه السلام) بالفرج، وهو ما يحتاج منَّا إلى تأمل ودقة نظر.

أُوقِفُ القارئ الكريم في هذا المقال على خطبة للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وأدعوه للتكفر في ملاحمها، وقياسها ليس على واقع الحياة اليوم، بل على خصوص واقعنا كشيعة لأمير المؤمنين (عليه السلام)، ثُمَّ فليكن السؤال التالي:

هل تحتاج مجاهدة الظالمين والطغاة لمؤهلات إيمانية خاصة، أو أنَّها لا تحتاج إلى أكثر من عضلات وقلوب كزبر الحديد؟
عن عبد الله بن عباس، قال: "حججنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حجَّة الوداع، فأخذ بحلقة باب الكعبة وأقبل بوجهه علينا، فقال: معاشر الناس، ألا أخبركم بأشراط الساعة؟

قالوا: بلى يا رسول الله.

قال: مِنْ أشراط الساعة إضاعة الصلوات، وإتّباع الشهوات، والميل مع الأهواء، وتعظيم المال، وبيع الدين بالدنيا، فعندها يذوبُ قلبُال مؤمن في جوفه كما يذوبُ المِلحُ في الماء ممَّا يرى من المنكر فلا يستطيع أن يغيِّرَهُ، فعندها يليهم أمراءُ جورة، ووزراءُ فسقة، وعرفاءُ ظلمة، وأمناءُ خونة؛ فيكون عندهم المنكر معروفًا، والمعروف منكرًا، ويؤتمنُ الخائنُ، ويُخَوَّنُ الأمين في ذلك الزمان، ويُصَدَّق الكاذب، ويُكَذَّب الصادق، وتتأمَّر النِساءُ، وتُشاورُ الإماء، ويعلو الصبيان على المنابر، ويكون الكذب عندهم ظرافة وسببَ الطرب، فلعنة الله على الكاذب وإن كان مازحًا.

وأداء الزكاة أشدُ التعب عليهم وخسرانًا ومغرمًا عظيمًا، ويُحقِّرُ الرجلُ والديه ويسبَّهما، ويبرُّ صديقه، ويُجالِسُ عدوَّه، وتشارك المرأةُ زوجَها في التجارة، وتكتفي الرجالُ بالرجالِ والنِساءُ بالنساءِ، ويُغارُ على الغلمان كما يُغار على الجارية في بيت أهلها، وتشبَّه الرجالُ بالنساء، والنساءُ بالرجال، وتركب ذوات الفروج على السروج، وتُزخرف المساجد كما تُزخرف البِيَعُ والكنائس، وتُحلَّى المصاحِفُ، وتُطوَّل المنارات، وتكثُرُ الصفوف، ويَقِلُّ الإخلاص، ويكثُرُ الرياء، ويؤمَهم قومٌ يميِلُونَ إلى الدنيا، ويُحِبُّون الرئاسة الباطلة.

فعندها قلوبُ المؤمنين متباغضة، وألسنتُهم مختلفة، وتحلَّى ذكور أمتي بالذهب، ويلبسون  الحرير و الديباج وجلود السمُور، ويتعاملون بالرشوة، والربا.

ويضعون الدين، ويرفعون الدنيا، ويكثُر الطلاقُ، والفراق، والشكُّ، والنِفاقُ، ولن  يضر الله شيئًا، وتكثر الكُوبَة، والقِيناتُ، والمعازِفُ، والميلُ إلى أصحاب الطنابير والدفوف والمزامير وسائر آلات اللهو.

ألا ومَنْ أعان أحدًا منهم بشيءٍ مِنَ الدينار، والدرهم، والألبسة، والأطعمة، وغيرها فكأنَّما زنى مع أُمِّه سبعين مرة في جوف الكعبة.

فعندها يليهم أشرارُ أمتي ، وتُنهتك المحارِم ، وتُكتسب المآثم، وتسلُط الأشرار على الأخيار، ويتباهون في اللباس، ويستحسنون أصحاب الملاهي والزانيات، فيكون المطرُ قيظًا، وتغيظ الكرام غيظًا، ويفشو الكذب، وتظهر اللجاجة، وتفشى الفاقة.

فعندها يكون أقوامٌ يتعلَّمون القرآن لغير الله، فيتَّخذونه مزامير، ويكون أقوامٌ يتفقَّهون لغير الله، ويكثُر أولادُ الزِنا، ويتغنّون بالقرآن،فعليهم من أمَّتي لعنة الله ، ويُنكِرون الأمرَ بالمعروف والنهيَّ عن المنكر حتّى يكون المؤمن في ذلك الزمان أذلَّ من الأَمَة، ويُظهِر قُرّاؤهم و أئمتهم فيما بينهم التلاوم والعداوة، فأولئك يُدعون في ملكوت السماوات الأرجاس الأنجاس.

وعندها يخشى الغني من الفقير أن يسأله، ويسأل الناس في محافلهم فلا يضع أحدٌ في يده شيئًا.

وعندها يتكلَّم من لم يكن متكلمًا.

فعندها تُرفع البركة، ويُمطرون في غير أوان المطر، وإذا دخل الرجلُ السوقَ فلا يرى أهله إلا ذامًّا لربِّهم، هذا يقول: لم أبع شيئًا، وهذا يقول: لم أربح شيئًا.

فعندها يملكهم  قومٌ إن تكلَّموا قتلوهم، وإن سكتوا استباحوهم، يسفكون دمائهم ويملأون قلوبهم رعبًا، فلا يراهم أحدٌ إلَّا خائفين مرعوبين.

فعندها يأتي قومٌ من المشرق، وقومٌ من المغرب، فالويلٌ  لضعفاء أمَّتي منهم، والويلُ لهم من الله، لا يرحمون صغيرًا، ولا يوقِّرُون كبيرًا، ولا يتجافون عن شيءٍ، جثَّتهم جثَّة الآدميين، وقلوبهم قلوب الشياطين، فلم يلبثوا هناك إلَّا قليلًا حتى تخور الأرض خورةً حتى يظن كلُّ قوم انَّها خارت في ناحيتهم، فيمكثون ما شاء الله، ثم يمكثون في مكثهم فتُلقي لهم الأرض أفلاذ كبدها.

قال: ذهبًا وفضةً؛ ثم أومأ بيده إلى الأساطين، قال: فمثل هذا، فيومئذٍ لا ينفع ذهبٌ ولا فضةٌ، ثم تطلع الشمسُ من مغرِبها.

معاشرَ الناس، إنِّي راحِلٌ عن قريب، ومنطلقٌ إلى المغيب؛ فاُوَدِعَكم وأوصيكم بوصية فاحفظوها: إنِّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن تمسكتم بهما لن تضلُوا أبدًا.

معاشر الناس، إنِّي منذرٌ، وعليٌّ هاد.
والعاقبة للمتقين، والحمد لله رب العالمين". (مستدرك الوسائل للميرزا النوري، ج11 ص372).

أقول: من يقومُ - بالله عليكم - على الظالمين؟ وتحت قيادة من؟

ثُمَّ أقول: ما هي الوظيفة الشرعية للمؤمنين في ظلِّ هذه الأجواء الموبوءة؟

ليست القضية في إزالة الظالمين، ولكنَّ القضية كلَّ القضية أنْ لا نكون ظالمين نحن مكان ظالمين.

هل نحن أقرب إلى الوقوع في مزالقٍ وظلماتٍ وقع فيها غيرنا.. أم لا؟

تأمَّلوا الدلائل والعلامات.

وفي المقال القادم إن شاء الله تعالى، أناقش التداخلات بين الدولة في المفهوم القرآني العتروي، وبينها في المفهوم السياسي الذي أسَّسه معاوية بن أبي سفيان!

ويبقى سؤالان أطرحهُما الآن وفي خاتِمَة كل حلقة من حلقات هذه السلسلة:

بأيِّ عينٍ وثقافةٍ ونَفْسِيَّةٍ ورُوحيَّةٍ نقرأ كتابَ الله المجيد وأحاديثَ المعصومين (عليهم السلام)؟

هل نحن على الطريق الصحيح أو أنَّنا في حاجة إلى مراجعات عاجلة وجادَّة جِدًّا؟

نلتقي في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى..



25 أبريل 2015

No comments:

Post a Comment