Friday, April 24, 2015

على ضفاف الذكريات (20) // ز.كاظم

 
 
بسم الله الرحمن الرحيم

 
في جاليتنا كانت هناك عدة حالات زواج من أمريكيات أَسْلَمْنَ فتشيعنَ، أولاها كانت للأب الروحي للمركز الإسلامي في بورتلاند الحاج أبي حيدر العراقي ذي العلم والتقى، وكذا الحال بالنسبة للبناني أبي طالب ذي القلب الطاهر، والإيراني فرامرز ذي الروح العالية والأخلاق السامية، والقطيفي أبي سارة ذي الروح المرحة..

معظم الزيجات التي عاصرتها كانت من رجال مسلمين لأمريكيات والحالة الفريدة في تلك الفترة وذاك المكان كانت لأخ أمريكي أبيض أسلم وتشيع أيضًا اسمه عبد النور وقد كان ملتحقًا بالحوزة في نيويورك وكان طالب علم متزوجًا من أمريكية شيعية من السود الأمريكان.. كانت النظرة الأولية لمثل هذه الزيجات تبعث في قلوبنا الاعتزاز بالهوية الدينية حيث كنا ننظر إلى مدى قوة الإسلام إذا تجسد كقناعة عند الإنسان ليجعل منه إنسانًا آخرًا مغايرًا، خصوصًا بالنسبة للنساء اللاتي يواجهن تغيّرًا جذريًا يتعلق بزي الحجاب في مجتمع تربينَ فيه على نمط يكاد يكون على النقيض، ناهيك عن نظرة أهل الأمريكية المسلمة التي تركت ملة أهلها واعتنقت دينًا يقيّد المرأة بصورة خاصة.. مع أن تلك النظرة أخف وطأة من نظرتنا نحن كمجتمعات مسلمة لمَن يترك الإسلام ويعتنق دينًا آخرًا. 

كان الإعجاب يتملكني - وربما تملّك غيري - حول طبيعة هذا التغير للأمريكان المسلمين على الصعيد الفكري والسلوكي.. كنتُ منذ الصغر أحمدُ الله على نعمة الإسلام وولاية أهل البيت عليهم السلام إذ لم أجد في الحياة أغلى من هذه النعمة التي حباني الله بها لأن أولد في وسط مسلم شيعي ينعم بوحدانية الله سبحانه وتعالى، واتباع نبي الهدى محمد ص وولاية علي أمير المؤمنين وبنيه عليهم السلام.. وكنتُ - ولا زلتُ - غير قادر على استيعاب فكرة أن أولد في مجتمع آخر غير الذي نشأتُ فيه، أو ربما لم أشأ أن أستوعب ذلك.. لذلك انتابتني الغبطة لهذه الزيجات التي وُفقن فيها هذه الزوجات الأمريكيات لأن ينعمن بالهداية.. كنتُ حينها شابًا يافعًا لم تصقلني التجربة جيدًا لأخرج بنظرة أكثر شمولية وواقعية وموضوعية، ليس لأن كل الزيجات من أمريكيات كانت فاشلة، بل لكون الكثير منها باءت بالفشل.. الأسباب كثيرة سأتطرق إلى بعضها لاحقًا في سياق المذكرات..  

مرت فترة على دراستي في كلية كلارك أنهيت فيها المواد المطلوبة للسنتين الأوليتين وحان الأوان لأن ألتحق بالجامعة، ولكن كيف ولم أقدّم اختبار التوفل بعد وهو أحد متطلبات القبول في الجامعة! هذا الاختبار الذي بمثابة الشبح المرعب للكثير من الطلبة، فمنهم من يقدمه عدة مرات، ومنهم من يدفع أموالًا طائلة من أجل أن يقوم غيره بتقديم الاختبار.. قدّمتُ رسوم الاختبار ومضت الأيام سريعة ولم يعد هناك متسعًا من الوقت.. ذات ليلة كنتُ زائرًا أحد الأصدقاء في شقته، حاتم من (القديح /القطيف)، وهو شاب يتمتع بالهدوء وحسن الأخلاق والأدب، وقدِم إلى أمريكا مع نبيل إذ هما من نفس المنطقة في القديح.. أثناء حديثنا أخبرته أنني سأقدم اختبار التوفل في الغد، فسألني إن كنتُ مستعدًا، ثم قال لي أن لديه كتابًا للتوفل مع بعض الاختبارات النموذجية.. فطلبتُ منه الكتاب، وقمتُ في الحال بقراءته وتقديم الاختبارات النموذجية في آخره.. مقدمة الكتاب تحوي الكثير من الدروس المختصة باختبار التوفل، وفي نهايته نماذج لبعض الاختبارات.. أعجبني الكتاب كثيرًا وتمنيتُ لو اطلعتُ عليه قبل هذا الوقت.. قدّمتُ الاختبار النموذجي وحسبتُ النتيجة فكانت جيدة فوق المعدل المطلوب بأربعين درجة.. 

في اليوم التالي ذهبتُ إلى مركز الاختبار واختبرتُ وكان الاختبار سهلًا جدًا ربما يرجع السبب الأكبر لتلك الليلة مع الأخ حاتم.. الإعداد لاختبار التوفل يتطلب الدراسة والممارسة للغة الإنجليزية، ولكن أكبر خطوة مساعدة هي الإعداد للاختبار وذلك عن طريق اقتناء الكتب المختصة بهذا الاختبار والقيام بالإجابة على الأسئلة النموذجية.

بعد فترة جاءت النتيجة وكانت فوق المعدل المطلوب.. فرحتُ كثيرًا فقد استوفيت جميع المتطلبات للالتحاق بالجامعة.. كما ذكرتُ سابقًا، فإن دراسة اللغة في المعاهد الأمريكية بصورة عامة لا تعتمد تدريس التوفل بصورة مباشرة، إنما تقوم بتعليم الطالب متطلبات اللغة من قواعد، وقراءة، وسمع، وتحدّث وغيرها، وهي الكفيلة بأن تؤهل الطالب لأن يجتاز اختبار التوفل بسهولة، لكن هذه الطريقة ليست المثلى، إذ أن إدخال برنامج تأهيلي لاجتياز اختبار التوفل من ضمن التعليم في اللغة ضروري إذ من شأنه أن يُهيئ الطالب أكثر لطبيعة الأسئلة المطروحة في الاختبار ليتمكن من اجتيازه بسهولة.
 

التحقتُ بجامعة ولاية بورتلاند، وهي جامعة تقع في وسط (الداون تاون) مدينة بورتلاند، أوريغون.. تأسست الجامعة في عام 1946، وتوفر دراسة البكالوريوس والماجستير وكذلك الدكتوراه في سبعة عشر من المجالات العلمية. هناك فروق كثيرة بين الكلية والجامعة أولها عدد الطلاب في الجامعة فهو أكثر بكثير من عدد طلاب الكلية.. أتذكر جيدًا طابور التسجيل للمواد، إذ كان يستغرق الساعات الطوال انتظارًا لتسجيل تلك المواد.. كذلك فإن قاعات المحاضرات عادة ما تكون مليئة بالطلبة على خلاف فصول الكلية.. لكن الفارق الأكبر بين جامعة بورتلاند وكلية كلارك كان في أخلاقيات وطبيعة معاملة المدرسين للطلبة، والتي ستكشف المذكرات القادمة جزءًا من تلك الفروقات..  

 

من الأمور التي تقوم بها أي جامعة يلتحق بها الطالب من جامعة أخرى أو كلية هو معادلة المواد، وكثيرًا ما يتم ضياع بعض الساعات خصوصًا للمواد الاختيارية.. فالطالب الذي يدرس على حسابه الخاص مخيّر بين أمرين إما دفع الرسوم الباهضة للجامعة ابتداءً بالدراسة من السنة الأولى في الجامعة، أو ضياع بعض المواد حين ينتقل من الكلية للجامعة. 

نظرًا لانتقالي بالقرب من جامعة بورتلاند، قررتُ أن أرحل عن مدينة فانكوفر الهادئة لأرجع مرة ثانية لمدينة بيفرتون، لكن هذه المرة اتفقتُ مع أحد الأصدقاء البحارنة أن نسكن سويًا نتقاسم الحياة المعيشية في شقة تقع على شارع الميري روود في مدينة بيفرتون. كان السكن جديدًا نوعًا ما وراقيًا، ليس كشقتي السابقة، لكن إيجارها كان غاليًا ولذلك قررنا أن نسكن سويًا، إضافة أن علاقة الصداقة بيني وبين طلال قد توثقت كثيرًا في الفترة السابقة.. التقيتُ بطلال عند أحد الشباب في مدينة سيلم وهي مدينة بين بورتلاند وكرفالس، إذ كانت كرفالس هي المدينة التي جاء إليها طلال. دعوته لزيارة بورتلاند فأعجبته المدينة والجالية فيها.. وقد كان زميلًا للدراسة معي في كلية كلارك وكان يسكن في نفس مدينتي السابقة فانكوفر..  

 

تميزت علاقتي بطلال بالقوة كونه بحراني مثلي، بل من نفس العاصمة المنامة التي نشأتُ وترعرعتُ فيها، لا بل من نفس المنطقة - فريق المخارقة -.. كنا من نفس العمر تقريبًا إذ أكبره بعامٍ واحد.. كان طلال شابًا مؤمنًا حليمًا خلوقًا سمحًا، لا تكاد تفارق الابتسامة وجهه، ولم أره غاضبًا قط إلا في موقف في المركز الإسلامي حينما أراد أحد اللبنانيين أن يطرح مشكلة ابنة اخته من زوجها على الملأ، رأيته ينتفض قائمًا ليوقف اللبناني عن طرح الموضوع إذ لا يصح طرح مثل هذه المشاكل العائلية على الملأ وبهذه الصورة خصوصًا أن الزوج اللبناني لم يكن حاضرًا.. 

حياة الطالب ليست كلها دراسة، بل إن جزءًا كبيرًا منها فراغ قد يستثمره الطالب في صقل طاقاته وتطوير إمكاناته، أو قد يهدره في إضاعة الوقت وتفويت الفرص، لكن الحنين للوطن دائمًا ما يكون كالسحابة المثقلة بالرعد والبرق والمطر على جَدَب الفراغ.. كنًا - طلال وأنا - نقضي بعض أوقاتنا في سرد قصة هنا أو موقف هناك نشمّ منه رائحة عبق البحرين.. تستهوينا قصةٌ أحداثها تقع في أزقة المنامة، أو شيلة "لطمية" لغازي العابد كتلك التي تبدأ بـ "على مر السنين، يا رسول العالمين" أو "أذكر يومًا وصلت رسالة، من أمي الحبيبة، من داخل الأسوار في العراق، من داخل المدينة" أو مهدي سهوان "شلال الدماء الهادر" أو "إننا نبكي على عالمنا الإسلامي"، أو سيد محمود "مجرمة دولة أمية"، أو مجيد الحلواجي "شيعتي مهما شربتم ماء عذب فاذكروني".. تهفّ أرواحنا لمأتم الشهيد الذي كان يُعدّ أكبر موكبٍ عزائيٍ في المنامة في عقد الثمانينات وكيف كان يصرّ على الخروج بالرغم من قساوة القبضة الأمنية الحديدية.. نتحسر على أيامٍ قضيناها في عصر يوم الجمعة نركب على الدراجات الهوائية - سياكل - قاصدين عين عذاري لنسبح في مائها الأزرق الصافي.. نتوق إلى قطعة خبز ساخن من خباز عبدالرزاق مع جبن المثلثلات.. نتذكر حادثة استشهاد الشهيد علي العلي وكيف تجمع الناس عند مسجد "مؤمن" وقت المغرب لينتهي المؤذن من الأذان وليبكي قليلًا ثم ينادي ماذا تنتظرون، اذهبوا إلى المستشفى، ليتوجه الناس بصورة جماعية إلى المستشفى وينتزعوا الجسد المعذّب وتبدأ بعد ذلك حقبة الثمانينات الضارية..

كلما كتمت الغربة على مناسم أنفاسنا، أخرجنا أكسجين الذكريات لنستنشق هواء الحنين لأرض أوال..  


يتبع في الحلقة القادمة..

 
25 إبريل 2015

No comments:

Post a Comment