Friday, April 3, 2015

همسة لموجة الجلوات الأخيرة // أبو مقداد

 
 
اشتهرت البحرين بمواكب العزاء الحسيني، وهي عبارة عن مسيرات عزائية تسير في الشارع بخارطة محددة، يقود هذه المواكب شخص يقال له (شيّال أو رادود) أو كما مؤخرًا أُطلق عليه لفظ (ملا)، ويقوم هذا الرادود بإلقاء الأشعار الملحنة، بينما الجماهير المشاركة والتي هي من عموم الشيعة يقومون بدورهم باللطم على صدورهم في هيئة إيقاعٍ لهذه الألحان التي يلقيها الرادود. تُسير هذه المواكب عادةً في مناسبات وفياتِ أهل البيت عليهم السلام وخصوصًا في شهر محرمٍ الحرام بمناسبة عاشوراء (ذكرى استشهاد الإمام الحسين بن علي الشهيد عليهما السلام). وتتنوع هذه المواكب بين السير في الطرقات، والبقاء داخل المآتم أو الحسينيات وممارسة ذات الشعيرة في الداخل.
 
وبالطبع فإن الشيعة يعتقدون بأن اللطم هذا من الشعائر المستحبة التي يستمرون بإقامتها ويتوارثونها بناءً على أثرها في مجتمعهم واعتقادهم، ويستدلون عليها بتقرير من المعصوم نفسه، حيث يذكر في الروايات ممارستها بحضور المعصوم وموافقته عليها، بل وحثه في بعض الأحيان، منها: عن الصادق عليه السلام (وقد شققن الجيوب، ولطمن الخدود - الفاطميات - على الحسين بن علي وعلى مثله تلطم الخدود وتشق الجيوب) وغيرها العديد من الروايات والأحاديث.
 
لزَمنٍ قريبٍ كان من المهم في شخصية الرادود الذي سيقود المواكبِ هو التزامه وتقواه قبل كل شيء، حتى كادت أن تكون شخصية والتزام الرادود أهم من جودة صوته، فالكثير من رواديدنا القدامى لم يكن يمتلك الصوت العذب والشجي، ولكنه يملك الالتزام وإمكانية الأداء المؤهِّلة لأن يكون هذا الإنسان رادودًا، طبعًا هذا لا يعني إهمال جودة الصوت وإنما لم تكن هذه هي الأولوية والمعيار الأكبر، فقد كان في زمنٍ من الأزمان كاد أن يكون الرادود في المرتبة الثانية بعد علماء الدين، وهو قدوة بالفعل لغيره من الناس، فالرادود الحسيني شخصية متدينة عامة، عليه احترام اسمه وخدمته لمواكب الحسين، وأن يكون أول قدوة يعكس أخلاق ومبادئ وقيم أهل البيت عليهم السلام.
 
وبطبيعة الحال كما هو متعارف عليه في المنطقة، فإن العزاء بكل مهامه ووظائفه هو عملٌ تطوعي بشكلٍ تام، لا المنظم له، ولا المشارك فيه، ولا أي أحدٍ سيتقاضى أي أجرٍ على خدمته، بل هي لوجه الله، وقد يضطر أحدهم لدفع مبالغ من ماله الخاص لإقامته.
 
هذه بصورةٍ عامةٍ هيئة المواكب وروّادها ورواديدها، وإلى زمنٍ ليس بالبعيد كانت كذلك، كما إنها تتشابه إلى حدٍ ما في الكثير من تفاصيلها مع بقية المواكب في المجتمعات الشيعية الأخرى في بقية الدول.
 
في السنين الأولى في العقد الأخير، طرأ على العزاءُ أمرٌ، قد يُعتبر من باب التطوير في الشعيرة وأهدافها، وهو أن بعض القصائدِ صارت تُسجّل في الأستوديوهات الصوتية، وتُمنتج بشكل خاص، وتُطرح في الأسواق كلطميات شبيهة جدًا بتلك التي تُلقى في المسيرات العزائية أو في المآتم، مع ميزة جودة الصوت والانتقاء الخاص لفكرة الكلمات المطروحة، وشيئًا فشيئًا دخلت المؤثرات الصوتية والإيقاعات في عمل الرادود، وما عادت موهبة الرادود مقتصرة على منبر المأتم أو مايكروفون الموكب، بل تطورت بشكل كبير ودخلت فيها العديد من المُحَسِّنات والفنيَّات والتقنيات والإيقاعات، وأصبحت أكثر أكاديمية وحرفية وإتقان، وصار الإلمام بالمقامات الصوتية والطبقات المناسبة أمرًا ضروريًا لكل رادودٍ، وإلا تخلَّف عن الركب، وقد تبدو هذه الأمور في حد ذاتها تطورًا إيجابيًا في القصيدة العزائية المسجَّلة. ومع مرور الوقت أصبح وجود هذه الأستوديوهات متيسرًا للكثيرين، والعمل فيها متاح للكثير، وبالتالي تزامن كثرة وجود الأستوديوهات الصوتية مع كثرة اعتماد الرواديد على الأستوديوهات بالإضافة لوجود البعض الذي لا يستطيع التعامل إلا مع الأستوديو!
 
سابقًا كان الموكب يعتمدُ على قوتين رئيسيتين، الأولى قوة الكلمة والفكرة المطروحة، والثانية التمكن من الأداء، لذلك كانت القصائد سهلة الحفظ والترديد، فرسالة القصيدة كانت الكلمة فقط، أما اليوم.. فإن القصيدة العزائية هي رسالةٌ فنية إعلامية بامتياز، والوظيفة هي إيصال الرسالة المطلوبه عبر قالب فني، من ناحية الكلمة واللحن والأداء والصوت وما شابه، والترويج لها إعلاميًّ، لذلك ومع اختلاف المقومات، اختلف الدور الذي تقوم به.
 
ربما واحدة من المشاكل التي دخلت على هذه الأجواء مؤخرًا، انعدام التخصص في المجالات الصوتية، وأصبح المعيار الأول هو جمال الصوت وجودة الأداء، ومن يملك هذا المعيار، فهو مؤهلٌ لأن يصبح رادودًا حسينيًا في المواكب، وأن ينشد الجلوات في أفراح أهل البيت، وأن يقرأ الأدعية في الأمسيات، وأن يقود التظاهرات السياسية، وأن يزفَّ العرسان، وأن ينشد الأناشيد الوطنية والدينية والسياسية وغيرها، وأن يمارس أي عملٍ يتم عبر الصوت، مما ساهم بدرجةٍ ما في ضياع أو ضعف هوية الرادود الخاصَّة كما السابق، وأصبح الرادود الحسيني اليوم.. مجرد صوت يُستخدم عند اللزوم في أي اتجاهٍ كان وربما بلا ضابطة!
 
المشكلة الرئيسية التي نتحدث عنها اليوم، هي واقعًا ليست منفصلة عن مجموعة مشاكل في ذات الاتجاه، إنما أحاول تسليط الضوء عليها بشكلٍ منفرد، وهي مرتبطة ثقافيًّا بأقرانها من السلوكيات والظواهر. فقد راجت مؤخرًا في المجتمع البحراني - على الأقل - فكرة إضافة مظهر جديد لمظاهر حفلات الزواج المترفة، فبالإضافة للصالة وأطقم الذهب والمصروفات الباهظة الثمن والغير ضرورية أبدًا والتي لا تمثل أكثر من شكليات للتباهي، ظهرت فكرةُ تسجيل قصائد زفاف لدخول الصالة، تحتوي على كلماتٍ يُذكر فيها اسم الزوجين وبعض كلمات المدح والدعاءِ والصلوات، وما لبثت هذه حتى تحولت لوصفٍ للعروسةِ وما هي عليه من حسنٍ وجمالٍ وكلام غزلٍ وكلٌ يـبدعُ وينوِّعُ في أفكاره، وبما أن الموكب حسب الظاهر (ما يوكّل عيش) فقد كانت فكرة قصائد الأعراس والجلوات مربحًا ماديًّا ممتازًا لهم، شيئًا فشيئًا وبتدرجٍ ربما غير محسوس اختلفت أجواء الزفات هذه من جهة، وزادت نسبة ضروريتها من جهةٍ أخرى، فالقصائد التي كانت تحتوي على أصوات التصفيق المصاحب لصوت (الرادود المنشد) أصبحت تشتمل على مختلف الإيقاعات والموسيقات الصاخبة المطربة، مقاربة لحد التطابق مع تلك التي يعتمدها المطربون في أغانيهم، وربما تفوقهم صخبًا، وأصبح البعض وبشكلٍ علني ينفذ بعض أغاني المطربين بنفس التوزيع الموسيقي والكلمات والعزف والتسجيل، ويغير أسماء العروسين فقط، و الطامةُ الكبرى أن هذه الأعمال يتعامل بها المنشدون والناس تحت مسمى (دي جي إسلامي) ولإضافة الشرعية أكثر تكون هذه الأغنية بصوت (الرادود الحسيني)!! كما أنها اصبحت من الضروريات التي لا يمكن أن يتم حفل زواجٍ بدونها، وإلا كانت عارًا ومنقصةً و (مو حليوة) في حق الزوجة على الأقل!
 
أجدني أقفُ أمام مشكلةٍ معقدةٍ جدًّا، فهي مرتبطةٌ بأكثر من نوعٍ من المشاكل، وأطرافها مترامية جدًّا، وتحمل أكثر من عنوان..
 
أولًا: من قال بأن هذه الأعمال، بهذه الضرورة؟
ثانيًا: كيف يمكننا القول (دي جي) و (إسلامي) في الوقت ذاته؟!
ثالثًا: هل لفظ إسلامي جاء فقط ليضفي الشرعية على العمل؟ أم أنه كان فعلًا يراعي الضوابط الشرعية؟!
رابعًا: ما الفرق بين أغنية يؤديها مطرب، وبين أغنية يؤديها منشد إسلامي أو رادود حسيني؟!
خامسًا: من المسؤول عن صناعة هذه الظاهرة؟ المجتمع؟ أم الرواديد؟
سادسًا...
سابعًا...
 
وجودك في منصة خدمة الإمام الحسين يجب أن تكون أكبر رادع لك من أن تمارس هذه السلوكيات البعيدة كل البعد عن صفتك كخادم، فالحسين أكبر طريق ينبغي أن يدفعنا السيرُ فيه للإستقامة، والمحافظة، والالتزام، لا أن نستغل خدمتنا له في ممارسة ما لا يناسب نهجه ولا يتفق مع مبادئه ولا يُرضيه.
 
طبعًا كما - ذكرت - أخصص المقال لهذا الموضوع غير متناسٍ بقية المشاكل والظواهر الموجودة في حفلات الزواج إنما أخصص المقال لهذا الموضوع لما له من ارتباطٍ مع الخدمة الحسينية، وربما لإساءته له، وإن كان بدون قصد!
 
لكَ أن تعمل ما تريد، لستُ بمسيطرٍ عليك، ولست بأكثر من ناصح لك. أن تغني أو تنعى لكن لا يكن ذلك باسم الحسين، وعبر استغلالك لخدمة الحسين.
 
لست في صدد مهاجمة هذه الفئة، ولا أنسى جهودهم الجبارة في قيادة المواكب، وكذلك لا أُحمِّلهم كل اللوم والمسؤولية، إنما هم من إفرازات المجتمع، المجتمع الذي بدرجة ما يتقبل عملهم، بل ويُقبل عليه إقبالاً شديدًا، فالغالبية العظمى من الزيجات في يومنا هذا تطالب هؤلاء المنشدون والرواديد بأن يقدِّموا لهم مثل هذه القصائد والأعمال، وبالتالي فإن المجتمع هو من يوفّر هذه السوق أصلًا، وهو المسؤول عن نشوء وتفشي هذه الظاهرة وتحولها لضرورة لا يمكن الاستغناء عنها، فحديثي هنا لا أوجهه كاتهامٍ لرواديدنا الأعزاء، لا. بل هو لفتُ نظرٍ للمجتمع، كل المجتمع، لظاهرةٍ نحن من ساهمنا في ابتلائنا بها، ولا بد لنا من أن نوجه الظاهرة من جديد لتصحيح مسارها، وما الرواديد الا إفرازٌ من إفرازات المجتمع على أية حال.
 
العملية تكاملية، في طرفٍ منها يقف الرواديد، وفي طرفٍ آخر يقفُ العلماء والجهات المسؤولة عن التوعية، وفي الطرف الثالث يقف المجتمع، ولا بد من عملية تقييمٍ وتقويم. لكل هذه الممارسات من جميع الأطراف.
 
- فمسؤولية الجهات التوعوية أن تعرف الطريق الصحيح التي تؤدي رسالتها فيه بسلاسة وليونة باللغة التي تناسب لغة العصر ولغة العوام من الناس، بدون أن تخرج عن الإطار الشرعي فتكون كضابطةٍ شرعية، فمن غير الصحيح أن يطالَب أبناء هذا العصر بالجمود على ما كان في قديم الزمان، ولكن من غير الصحيح أن يترك الحبل على الغارب بلا رقابة!
 
- وعلى الرادود أن يحافظ على قدسية انتمائه للحسين وخدمته للحسين، وعدم الإنجرار لمثل هذه الأعمال التي قد تؤثر على اسمه كحسيني، وبالتالي ستؤثر سلبًا على المنهج الذي ينتهجه، وأن يعي بأنه لا يمكنه أن يكون رادودًا حسينيًا، ومطربًا في الوقت ذاته.
 
- أما المسؤولية الكبرى تقع على عاتق المجتمع؛ فهو الذي أفرز الرواديد وهيأهم، وهو الذي حثَّ وشجع على صناعة ظاهرة الجلوات أو الزَّفات غير المنضبطة في حفلات الأعراس، وهو الذي ساهم في تحويلها من أمرٍ مضافٍ لظاهرةٍ ضرورية الحصول!
 
الموضوع متشعبٌ جدًا ولا أظن أن مقالا سيفيه، ولكن من هنا دعوة لمؤسسات المجتمع الدينية، كالمآتم والمساجد وبعض الجهات التي تحمل أو ينبغي أن تحمل على عاتقها مسؤولية التوعية أو التعليم الديني، أن تهتم وتركز على إعداد الجيل القادمِ بالإضافة للجيل الحالي دينيًا، للمحافظة على جودة إنتاجهم وعدم الانحراف بما يعملون، كما وأوجه دعوة جادةً ومهمة لهذه المؤسسات في كل قرية للتعاون مع الجهات التي تعنى بتنشئة الرواديد وصقلهم، أن تتم العملية تبادلية أن يعدَّ أحدهم الفرد صوتيًا وفنيًّا، في الوقت الذي يُعَدُّ فيه هذا الشخص دينيًا، فمن سيقود موكب الحسين، جديرٌ به أن يكون قدوةً لغيرهِ وأن يكون داعيًا للحسين بغير لسانه أيضًا.
 
 
4 إبريل 2015

No comments:

Post a Comment