Friday, May 15, 2015

الشُيُوعِيَّةُ، وإنْ غَابَ أو (غُيِّبَ) رَسْمُها (29) "رُؤى من القرآن والعترة (10)/ أطروحة التوافق -2-" / محمد علي العلوي

نَقْدُ الثقَافَةِ أكْثَرُ مشَقَّةً مِنْ نَحْتِ الجِبالِ قُصُورًا للسَلَاطِين....

يتشكَّلُ المجتمعُ من تيَّارات تُكوِّنُها توجُّهات ثقافيَّة وفكريَّة وعقائديَّة، يبقى بعضُها شتاتًا لا يشغل أكثرَ من مساحات المجالس وبعض الأعمدة المقالية، ويتطوَّر بعضٌ آخر في تنظيمات تتدرَّج من مجرَّد التقاءات تؤطرها التواقعات الثقافية، إلى تيَّارات أكثر تنظِّيمًا، فأحزاب قد تكون رسميَّة مُعلنة، وقد تكون سرِّية متوارية.

يخضعُ المجتمع إلى سلطة نظاميَّة، ربَّما كانت لأحد التيارات الموجودة، وربَّما تكون لتنظيم طارئ على المجتمع، وفي جميع الأحوال فإنَّ الدولةَ "هي تجمُّع سياسي يؤسِّس كيانًا ذا اختصاص سيادي في نطاق إقليمي محدَّد، ويمارس السلطة عبر منظومة من المؤسسات الدائمة" (تعريف الدولة – موسوعة ويكيبيديا الإلكترونية).

حاول المجتمع الفرار من تحكُّم السلطة الواحدة واستبدادها بالمواقع السيادية في الدولة، فابتكر أطروحة (الدولة المدنية)، وهي: "دولةٌ تحافِظُ وتحمي كُلَّ أعضاء المجتمع بغضِّ النظر عن انتماءاتِهم القومية أو الدينة أو الفكرية" (تعريف الدولة – موسوعة ويكيبيديا الإلكترونية)، وبالتالي فهي نظام يحكم على أساس نفي أيِّ موقف يبتني على أُسس قومية أو دينية أو فكرية، وبذلك فإنَّه لا مكان للتوجهات القومية أو الدينية أو الفكرية في المنظومة السياسية للدولة؛ وتوضيح هذا البناء: إنَّ الدولة القومية مالم تلتزم مبانيها القومية في منظومة الحكم فموضوع القومية حينها سالب، وبالتالي فهي ليست دولة قومية، وكذلك الدينية وغيرها من التوجُّهات الفكرية الواضحة.

وبعبارة أخرى: الدولة المدنية تقوم على فصل وإبعاد كُلِّ ما يميِّز بين المواطنين عن دستورها السياسي الحكام، وعلى رأس القائمة تأتي المباني القومية والدينية والفكرية، مع المحافظة عليها في مساحات بعيدة عن السياسة العامة نظرًا وعملًا.

نصل في المحصِّلة إلى أنَّه لا خيار للقوميِّ في الدولة المدنيَّة غير التخلي عن نظرياته في الحكم، ومثله الديني، وصاحب كل توجه فكري معين، ولا تمام في المقام إلَّا لصاحب نظرية (الدولة المدنية)!

نعم، هي تحمي القومي حماية مشروطة بعدم ممارسته لمبانيه القومية على المستوى السياسي، وهكذا مع الديني والفكري، وإلَّا لبطلت أسُسُها المدنية.
بعد قيام الأسُس العامة للدولة المدنية، فإنَّها تعتمد تكوين سلطات سياسية من نفس الشعب، ولذلك يقولون فيها بأنَّ (الشعب مصدر السلطات)، ومن أبرز مظاهر هذه العملية التداولية، اعتماد الانتخابات الحرَّة محورًا ثابتًا تدور عليه رحى الدستور المدني العام.

الانتخابات هي عملية تسليط الأضواء على شخصيات معيَّنة يتوجه لها المُنتَخِبُون بأصواتهم في ضمن نظام تصفية يصعد بواحدة أو أكثر إلى المناصب الشاغرة، فيكون صعودها بإرادة شعبية –كما يُعبِّرون-، غير إنَّ الذي أراه خلاف المُدَّعى!

فلندقِّق قليلًا..

تتوزع أصواتُ المُنتَخِبين على عدد المُتَرشِّحين، ثُمَّ إنَّها تتوزع ثانية على المجموعة التي تجاوزت الدور الأول، وفي الغالب يصل إلى المنصب المقصود من (لم ينتخِبه) أغلب المُنتَخِبين، ويتكرَّر هذا الأمر في مختلف الأشكال الانتخابية، ثمَّ يقال، وعن قناعة تامَّة، بأنَّه وصل إلى منصبه بإرادة شعبية!

في الواقع، لا يملك الناس غير التسليم لهذه العملية (الانتخابية)، بل وأكثر من ذلك حالة الطرب والانتشاء التي تقترن بها، فالأجواء تبعث على مثل ذلك؛ حيثُ الصور التي تملأ الشوارع، والمهرجانات الخطابية، واللقاءات والتغطيات الإعلامية، وغير ذلك من ظروف تنافسية تجعل من الانتخابات متعة تُوصف بـ(العرس)، ولست في مقام الاستهزاء أو السخرية على الإطلاق، ولكِنَّ العملية الانتخابية تعتمد في بعد من أبعادها الثقافية تقنيات التعامل مع سايكولوجية الجماهير.

الانتخابات معتركٌ سياسيٌّ يفتح الأبواب أمام مسوِّغات كبرى تتقدَّم ما يوفِّر الأصوات بأي ثمن كان، ولستُ في مقام الاستطراد بشواهد وأدلة مقدورة بالتتبع للقارئ الفطِن، ولذلك فإنَّني أنتقل مباشرة إلى القول بعدم صلاحية الانتخابات بجميع أشكالها، وأعلم جيِّدًا بأنَّ الأمر في حاجة إلى زيادة بيان وبسط، ولكنَّني أحجم عن ذلك لمصلحة مناسبة قادمة إن شاء الله تعالى.

• إشكال:
عندما ترفض الدولة المدنية الممارسة السياسية للقومية والدينية، فهذا أمر طبيعي؛ إذ إنَّ القومي أيضًا إذا ما كان الحكم بيده، فإنَّه يحافظ على منظومته السياسية برفض التدخل السياسي المبني على أسس دينية أو (مدنية)، ومثله الديني.

الجواب: إذا كان الأمر كذلك، فلا مُرَجِّح لتقديم الدولة المدنية على غيرها، بل قد تُقدَّم غيرها بالمُرجِّح المفقود في حال ثبوته.

• ما هو نِظام الحكم المفترض؟

أطرح هنا نظريتين، أُولهما النظرية الإسلامية العامة، وأقول (العامة) فرارًا من التفصيل في قرابة العشر نظريات يتبنَّاها فُقهاء المدارس الاجتهادية الإسلامية، ومنها حكومة الدولة المدنية المشار إليها، ولكن ببعض التعديلات، فمن أراد فليراجع بعض الكتب الفقهية المتخصصة في فقه السياسة وأنظمة الحكم.

وكيف كان، فإنَّ الإسلام يعطي الولاية المطلقة للفقه عن طريق الفقيه صاحب الولاية المطلقة، وبعضٌ لا يراها ممكنة في غير المعصوم (عليه السلام)، وبالتالي فهي تضيق بحسب ضيق ولاية الفقيه؛ وذلك لقصوره عن تحمُّل سعتها، ولكِن هناك من يراها في الولي الفقيه المعيَّن من مجلس خاص للخبراء القادرين على تعريف الأمة بالفقيه الأعرف والأعدل والأقدر على القيام بالأمر، وفي كلا الحالتين ليست الولاية للفقيه مستقلًّا عن الفقه، ولكِنَّها في الواقع للفقه من خلال الفقيه.

وينبغي الإطمئنان إلى أنَّ الفقه الإسلامي لا يستبدَّ بحكم على الإطلاق، ومثال ذلك عدم أخذه الزكاة من غير المسلم، وإن وجبت عليه؛ فهي لا تصح منه لانتفاء شرط القربة –كما يفيد بعض الفقهاء-، وهذا على خلاف الضرائب المفروضة في الدولة المدنيَّة على الجميع!

وليس ببعيد عن الأذهان الموقف السياسي لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) مع من خرج عليه في صفين بمباني دينية فكرية يعلمُ هو بطلانها، هذا وهو الحاكم وله ثوابته في منظومة الحكم، ولكِنَّها لا تكون على حساب الإرادة الشعبية؛ إذ إنَّه لا معنى لفرض الحكم أيًّا كان ما لم تتوافق عليه الثقافة السياسيَّة العامة.

قد يقال:

إذا كان الأمر كما تقول، فإنَّه لن يستقيم حكم على الإطلاق.

أقول:

تسيطر فكرة توحش المجتمعات على الثقافة العامة وبشكل عميق جِدًّا، ولذلك فإنَّ قمع المخالف خيارٌ استراتيجي تدَّعى له العلمية وتكتب لمصلحته البحوث المسوِّغة، ولكِنَّ الرؤية الإسلامية تقوم على محاربة الفتنة من جهة ورفض تجاوز الآخرين لأيِّ مصلحة كانت، كما وإنَّه يرى العقيدة محورًا لا يمكن التنكُّر إليه، فاليهودي -مثلًا- يهودي ومن حقِّه ممارسة يهوديَّته عباديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا وغير ذلك.

يقول الإسلام (لا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ)، ويقول في قِمَّةٍ من قممه (الْيَوْمَ أُحِلّ لَكُمُ الطّيّبَاتُ وَطَعَامُ الّذِينَ أُوْتُوا الْكِتَابَ حِلّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الّذِينَ أُوْتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنّ أُجُورَهُنّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)..

وقال عليٌّ (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر: "فإنَّهم صِنفان: إمَّا أخٌ لك في الدين، وإمَّا نظيرٌ لك في الخَلْق"، وكلُّ الأمان لأهل الذمَّة مقابل جزية يدفعونها، وكذلك لأهل الصلح أو الهدنة، والغريب أنَّ دعاة الدولة المدنية يستهجنون الجزية ويستنكرونها، ولكِنَّهما يعدُّون الدفع لتأشيرة الدخول والإقامة (حضارة ومدنية)!

فالتعامل الإسلامي يقوم على احترام العقائد في إطار الدولة السياسية، وليس نفيها.

ترفض (النخب) السياسية أطروحة النظام الإسلامي، ويبرِّرون رفضهم ببعض النماذج المخزية، وكأنَّ الذي يدعون إليه تُبرِزه نماذج ناصعة البياض، والواقع إنَّه أشدُّ خزيًا وأكثر ظلامًا، وزيادة على ذلك فإنَّ النظام الإسلامي شوهه التطبيق، ولكِنَّ النظام المدني يعاني الكثير في أصل قوامه، وهذا ما يحتاج منَّا إلى تأمل ودِقَّة.

وعلى أيَّة حال، فإنَّ الإسلام لا يفرض دولته لا بالقوة ولا بشيء غير القناعة، ولذلك، لا تقوم دولة الإسلام إلا من خلال إرادة شعبية حقيقية تطلق النواة وتروي التربة وترعى النبتة وتداري الثمرة، وما لم تتوفر على القناعة الشعبية الكافية، فإنَّها تكتفي بالفرد الواحد، وهنا الفرق بين العقلية الإسلامية الإيمانية، وبين غيرها.

ولكن، إن كان ولا بد من (المدنية)، فلتكن في طرحة (ديموقراطية حقيقية)..
قلنا في صدر المقال بأنَّ المجتمع يتشكَّل من تيَّارات تُكوِّنُها توجُّهات ثقافيَّة وفكريَّة وعقائديَّة، يبقى بعضُها شتاتًا لا يشغل أكثرَ من مساحات المجالس وبعض الأعمدة المقالية، ويتطوَّر بعضٌ آخر في تنظيمات تتدرَّج من مجرَّد التقاءات تؤطرها التواقعات الثقافية، إلى تيَّارات أكثر تنظِّيمًا، فأحزاب قد تكون رسميَّة مُعلنة، وقد تكون سرِّية متوارية.

ما أطرحه هنا، هو أن يُسجَّل الأفراد تسجيلًا رسميًا كل بحسب انتمائه، ومن ضمن الانتماءات جماعة (المستقلين)، ثم تقاس نسبة كل تيار أو حزب، ويُعطى مقاعد نيابية بحسبها، فيكون لكل توجُّه وجود واقعي في مجلس نيابي يمثل الشعب تمثيلًا حقيقيًا.

أمَّا الأفراد الذين يشكلون النسبة، فأمرهم راجع للجهة التي ينتمون إليها.
ومن جهة أخرى، فإنَّ التيارات والأحزاب تُلزَم باستعراض أدبياتها وأصولها الفكرية ونُظُمِها وخارطة أدائها بشكل دوري أمام جماهير الشعب، ثم تتاح الفرصة للانتقالات دون قيود على الإطلاق، وبهذا يكون التنافس فيما بينها تنافس ثقافي فكري بامتياز.

من خلال هذا التمثيل الواقعي يُصَاغُ نِظامُ الحُكمِ بعد تصدِّي المتخصصين لاستعراض مختلف الأنظمة وبشكل لا يتدخَّل فيه غيرُ العارفين بحيثيات كلِّ نظام ودقائقه، ومن هنا تنطلق الدولة ذات السيادة الشعبية الواقعية الواعية، ولن تحتاج في مثل مقامها لغير متحدِّث عن مجلسها المنتخب، مستغنية عن منصب الرئاسة الذي تكون ولايته لها مطلقًا من ولاية الدستور المصاغ عن علم ومعرفة.

لا شكَّ ولا شبهة في أنَّ المقام لا يحتمل التفصيل، هذا والحال أن الموضوع ضخم كبير، غير إنَّني أكتفي بهذه الخطوط العامة، على أمل أن يوفقني المولى تبارك ذكره للكتابة المفصلة في مناسبة خاصة.

ويبقى سؤالان أطرحهُما الآن وفي خاتِمَة كل حلقة من حلقات هذه السلسلة:

بأيِّ عينٍ وثقافةٍ ونَفْسِيَّةٍ ورُوحيَّةٍ نقرأ كتابَ الله المجيد وأحاديثَ المعصومين (عليهم السلام)؟

هل نحن على الطريق الصحيح أو أنَّنا في حاجة إلى مراجعات عاجلة وجادَّة جِدًّا؟

نلتقي في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى..
16 مايو 2015

No comments:

Post a Comment