ربما هي جزءٌ غير بشري في المجتمع، ولكن لحضورها مساحة واسعة ومستمرة، هذه هي النكتة.. والمراد بها أنها كلامٌ يسرِدُ موقفًا ما أو حدثًا ما، بطريقة كوميدية مضحكة، بسبب غرابة الموقف أو سذاجته أو ما شابه، وتتنوع النكات بحسب المواقف، فأحيانا تكون سياسية، وأحيانا تكون رياضية، أو اجتماعية أو ثقافية وما شابه، وتشترك جميعها في الإضحاك!
لا يُنكَرُ بأن لاستماع وقراءة وتبادل النكات الأثر الجيد في الترويح عن النفس وتوزيع الابتسامات على وجوه الناس، ولكن.. ماذا إن ساهمت النكات في خلق مشكلة اجتماعية ما؟ أسيظل للابتسامة معنى؟
وصلتنا من التأريخ قصصٌ كثيرةٌ عن أفراد ومجتمعات وشعوب، على هيئة نكات مضحكة، واستأنسنا بها وتبادلناها، بعد أن طبعت في أذهاننا صورة معينة عن ما تعبر عنه، ومن الصعب أن نتخلص من تلك الفكرة بسهولة بعد أن ترسخت في الأذهان عن طريق النكت..
فهذا جحا وأشعب مثلا، يعبران عن حالة معينة من البخل أو الغباء أو السذاجة، هذا ما وصلنا عن تلك الشخصيتين وببحثٍ سريعٍ حولهما لم أجد عنهما ما فهمتهُ من النكت المتداولة عنهما بيننا، أما بالنسبة لتيمورلنك، القائد الذي أسس الأمبراطورية التيمورية، والذي حاول أن يسترجع الامبراطورية المغولية، وصاحب الحروب العظيمة، تُختصر لنا سيرته بنكاتٍ حول مواقفه الوهمية مع جحا والتي تظهره في هيئة شبه المجنون!
إن لم تسمع بما سبق من النكات، فلا يمكن أن تفوتك النكات حول الهنود الأغبياء، أو الصعايدة الحمقى، أو السودانيين الكسالى، النكات التي طبعت هذه الصفات في أذهاننا حول هذه الشعوب، بينما الحق كان في أن في الهنود عباقرة اخترعوا رقم الصفر، وفي الصعايدة طاقات هائلة من علماء وأساتذة وشعراء ومثقفين وفي السودان طاقة عاملة هائلة، والملفت هو أن من الكثير ممن أطلق وابتدع هذه النكت كانت الجبهة المقابلة لهؤلاء بالحسد!
اليوم، في البحرين وبعض دول الخليج، يتنافس الكثير في ابتكار النكات وإطلاقها، مستغلين في ذلك برامج التواصل الاجتماعي، لا أنكر أنها تصاغ بطريقة مضحكة في العادة، ولكن تضحك من؟ على من؟
تنتشر هذه النكات بسرعة البرق بين البرامج المذكورة، وغالبا ما تصب في أقوال معينة مع ابتكارات متجددة، فبعض هذه النكات يعتمد على الاستهزاء من بعض اللهجات المختلفة في القرى كلهجة أهل المحرق أو أهل المنطقة الغربية أو أهل سترة أو المنامة وغيرها، والبعض الآخر يستهزء ويسخر من سلوكيات معينة قد تكون حقيقية أو تكون مبتكرة من خيال القائل، كفكرة (أم مشمر) و (أبو صروال وفانيلة)، وأما أحد أسوأ النكات حسب رأيي، هي نكات(خف علينا) و (قصاف الجبهة) فلماذا أشير هنا لخطورة هذه النكات وأركز عليها؟!
إن إطلاق هذه النكت بهذه الطريقة وتحت هذه العناوين - في تصوري - سيستمر في التسبب في خلق مشكلات اجتماعية حقيقية، بالإضافة لكونها ستكون مادة إعلامية تكتب تاريخ (البحارنة) للأجيال القادمة، لنُسمى فجأة أغبياء كالهنود والصعيديين مثلا، فاستمرار السخرية من اللهجات البحرانية الخاصة، أشعَر شريحةً لا بأس بها من الناس بالعار والخجل من أن تستخدم لهجاتها بأريحية كما هي، وجعلتهم يتصنعون ويقتبسون من لهجات غيرهم الـ أخف من لهجاتهم، والبعض يستعير لهجاتٍ مغايرة تماما، كي يهرب من لهجته الأم، وربما مارَس ذلك دون قصدٍ وإدراك، بل حرّكه له عقله الباطن اللاواعي، لذلك تجد الكثير اليوم ممن يستحي أن يتحدث بلهجته (الشينية) في مخاطبة الأنثى، ويستبدل مثلا كلمة (شحوالش) بالشين التي نُعرف بها نحن البحارنة بجيم غريبة عليها فتتحول لـ (شخبارج). أيضًا بسبب تكرار نكات أبو صروال وفانيلة وأم مشمر، صار الكثير في عقله اللاواعي معتقدا بأنه إن لبست زوجته أو لبس زوجها هذا الزي، فيعني أن هذا الرجل فاشل أو هذه المرأة فاشلة، وتبدأ الأمور تترتب سلبيا بناءً على هذا الأساس، وغالبا سيكون من غير قصد.. كما أن هذه النكت صورت المجتمع البحراني بأنه رجلٌ خالٍ من المشاعر والأحاسيس همه الأكل وملذاته ومتعجرفٌ لا يحمل أي شعور بالمسؤولية تجاه المرأة مثلا، وحولت المرأة البحرانية، لكائنٍ حي لا تحسن الطبخ ومهملة غير متمكنة من أداء واجباتها المنزلية وفاشلة ورجعية ومتخلفة ومتصفة بمواصفات العجائز ووو.. كل هذه رسائلٌ ترسل من خلال هذه النكات!
أما قضية (خف علينا) فهذه أداة وجدت لتقتل كل إبداع وطاقة بطريقة تجعل القاتل والمقتول يضحك!!
فمثلا اليوم لو حملت كتابا ورقيا، وجلست في مقهى شعبي لتقرأة، فببساطة قد يقول لك أحد معارفك، خف علينا يالمثقف، واستمرار هذه الحالة ستجعل كمًّا لا يستهان به من أبناء المجتمع يخجلون من أن يحملوا معهم كتابا ليقرؤوه مما يساهم بالطبع في تخلف المجتمع، وعلى هذا المثال قس عشرات مئات الأمثلة.. خف علينا!
أيضا عبقرية قضية (قصف الجبهة) التي وجدت – حسب فهمي – فقط للافتخار والضحك على إحراج الآخرين والاستهزاء بهم، تحت مسمى نكتة من أجل الإضحاك، والمصيبة أن هذه باتت تصرفات عادية جدا متوقعة من الجميع!
قد يبدو الأمر مضحكا في بدايته إلا أن ما يترتب عليه، قد يصح ان أطلق عليه أنه كارثة!
فهذه الصور والرسائل التي تصنعها هذه النكات سترسم لوحة قبيحة تتركها في تاريخ البحارنة وسنكون نحن مسؤولون عن تلوين هذه اللوحة بواسطة نكتة، كما أنا ستساهم في التحكم في الكثير من السلوكيات التي أيضا ستبني مستقبل هذا المجتمع بواسطة.. نكته!
الأمر تطور كثيرًا حتى أصبحت هذه النكتة تحيط بكل جوانب حياتنا، فلا يكاد حدث يمر في أسماعنا إلا وبادر ذهننا في صنع نكتة حوله، ولا يهم إن كانت هذه النكتة قد تجرح أحدا ما، أو تؤذيه، فكل شيء صار قابلا للاستهزاء والسخرية، حتى أسماءنا، فاسم جعفر الذي ينسب لإمام المذهب الشيعي الذي نفتخر بانتسابنا إليه، صار بفضل نكت (جعفرو) اسمًا خاصًا للنكت والضحك، ولا عجب لو انقرض هذا الاسم من بين أسماء الجيل القادم أو ما بعده بسبب النكت!
حتى المناسبات والأمور الدينية لم تسلم من هذه المشكلة، ففي ليلة القدر العظيمة التي يصفها القرآن بأنها خيرٌ من ألفِ شهرٍ، أتفاجأ العام الماضي بعدة رسائلٍ تصلني من بعض الأشخاص مفادها (لا تقولون لي أسامحكم لأن الليلة القدر.. وبكره ترجعون تغتابوني) أو (سامحوني الليلة وابرو ذمتي.. وبكرة بنرجع مثل قبل) وما شابه أو أن يتحول هلال شهر رمضان المبارك لقضية ضحك واستهزاء من الصيّام، مما يمس أصلا في قدسية المناسبة، أيضا كما صار الحديث أو القراءة حول الأمور الدينية مدعاة للاستماع للعبارة السخيفة (خف علينا يالمؤمن يا آية الله يا شيخ زمانه)!
نعم.. كل هذه المشكلات ستنتجها لنا النكت التي ضحكنا عليها كثيرًا، المقال هذا لا يدعو لتعميم النكد والحزن وضيق النفَس في المجتمع، ولكن ما أقوله أنه لا يمكن أن نساهم نحن في صنع هذه المشكلات كي نضحك، بينما يتدمر المجتمع نتيجة لضحكنا!
يقول الجاحظ" إذا أردت أن تقتل خصمك، فاجعله أضحوكة للآخرين" ونحن إذ نجعل أنفسنا أضحوكة للآخرين، فلا نتوقع أن ينهض المجتمع من جديد ليعيشَ بعنفوانه ونشاطه وإبداعه.
2 مايو 2015
No comments:
Post a Comment