Saturday, May 9, 2015

كلام الناس كالتراب يداس .. // إيمان الحبيشي



 
كان العرف الاجتماعي، أداة حاسمة في تحديد قرارات الإنسان في مجتمعنا، كان هو الصراط الذي يمشي عليه الناس، ومن شذَّ عنه فهو مذنب يحمل عاره ذووه وأبناؤه، ليسقط وربما يسقطوا معه في قعر نار جهنم الاجتماعية. ولأن الإنسان في الزمن الماضي يعيش على سجيته إلى حد ما، فقد أوجد لنفسه مجموعة من الضوابط الاجتماعية، في محاولة لرسم نسيج اجتماعي، ثابت ومستقر وشريف، تلك الضوابط كانت كحد السيف، من مد يده على نصله قُطعت! 

اليوم أي بعد عقود مضت، بعد الطفرة الاقتصادية وتغيير وجه الأرض. بعد ردم العيون وقتل الزراعة، وهجر البحر، وبعد أن تعرّفنا على الذهب الأسود، الذي كان سببا لنبتعد عن ذهبنا الأبيض "اللؤلؤ" وذهبنا الأزرق "البحر والعيون" وذهبنا الأخضر "الزراعة"، لا زلنا نسمع عن وجود ضوابط وأعراف اجتماعية، إلا أن التعامل معها من قبل الفرد والجماعة والمجتمع، قد تغير كثيرا إلى حد، ربما صار لا يشبه نفسه البتة.

كان أجدادنا وربما آباؤنا، يعيشون في بيوت وأحياء مفتوحة على بعضها، يتمكن خلالها الجار من أن يحصي عدد خطوات جاره، لكنه كان يغض البصر حفظا على عرض هذا الجار، فتلك "شيمة" أهل الدار، وعلى ذلك نستطيع أن نقيس الكثير من الأمور. حيث لم يكن ذلك المجتمع بحاجة لشرطي ليزجر شاب لأنه تحرش بفتاة!

كان يكفيهم رجل الدين الذي يحكم بينهم بالعدل، ويعظهم بنبذ الظلم، ويحثهم على العفاف والستر، كان يكفيهم وجود رجالات عرفوا بالشهامة ليفضوا نزاعاتهم التي كانت على حد بساطتهم، يسيرة مقارنة باليوم.

كان مجتمعا بسيطا حقا، لكنه أيضا كان غليظا جدا، فمن ذا الذي تجرأ على إدخال الراديو لمنزله؟ ومن الذي تجرأ ليمسك يد ابنته ليوصلها إلى المدرسة؟ ومن ذا الذي تجرأ فكان الشاب الأول الذي اقتحم صالة السينما؟ كان في ذلك الزمان القليل من الشجعان الذين ساهموا بإدخال وسائل الإعلام لمجتمعنا، وقذفوا بالمرأة لسلك التعليم، وساهموا في تحديث وسائل الزراعة ربما صار كثير من هؤلاء شخصيات يشار لها بالبنان، ويصفق لشجاعتها الأبناء، وتمتلأ صفحات التاريخ بأسمائهم، حيث أنهم وفي سبيل ما آمنوا به، واجهوا مجتمعهم الذي وقف ضدهم، وعيّرهم وربما قاطعهم، حتى صار يُنظر لكل "جرأة" على أنها فضيلة. 

اليوم لم نعد بحاجة لشجاع ليقحم التلفاز بيننا، وما عدنا بحاجة شجاع آخر ليُجلس النساء على مقاعد الدراسة، لكن بقت "فضيلة" مواجهة المجتمع حاضرة في النفوس، تنمو بين قلوبنا، دون أن نستشعرها حتى صارت "غدة" تتضخم وتفرز قيحا! 

أتفهم أن يختلف أفراد المجتمع في درجة التزامهم الشرعي مثلا، رغم أنه حق محض - الالتزام بالشرع - لا أجد أني بحاجة لأخوض في أهميته غمار أي نقاش، لكني لا أفهم كيف رُبِطت الشجاعة بمواجهة هذا الالتزام؟! فمحجبة تستلطف بأن تُلقي خصلات شعرها على جبينها، هي محجبة لا تلتزم بحدود الحجاب الصحيح، هذا أمر وارد وموجود لكن أن ترفع سيف "الشجاعة" لتدّعي أنها بخصلاتها، تحارب تخلّف المجتمع، وبأن الكلام حول ذلك حين تهمس بأذنها ناصحة محبة، هو كالتراب تضعه تحت أرجلها لتدوس عليه!!

تحول المجتمع من مقيد بسلاسل غليظة، اسمها الأعراف الاجتماعية، التي قد تكون حقا، وقد تكون ابتكارا اجتماعيا ما أنزل الله به من سلطان، إلى مجتمع يعتبر "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" تخلف وجب الدوس عليه، هو تحول يحتاج منا لوقفة جادة، بينما نمرر القيم والمبادئ لأجيال لتمررها لأجيال قادمة. 

نعم شجاعة أن أقف بوجه عادة اجتماعية سلبية، كحالة الفرز المقيتة التي يمارسها المجتمع، عبر إدخال من رضا عنه الجنة وإخراج من غضب عليه إلى النار. لكن ليست شجاعة أن أدوس القواعد الدينية والاجتماعية التي أقرها الله، حفظا للإنسان وتوجيها به إلى درجات الكمال الاجتماعي والبشري، ذلك أن فعل كل فرد ينعكس على مجتمعه بالضرورة، وبشكل تراكمي وغير محسوس. منذ سنوات بسيطة ما كان عيد الأم ليذكر إلا في بيوتات معدودة، لكنه صار اليوم عيد رابع في مجتمعنا، يزور تقريبا كل منزل، بجميع الآثار الإيجابية والسلبية التي يتسبب بها، ذلك فعل تراكمي صار قيمة في المجتمع وبشكل غير محسوس.

نحن مسؤولون إذا فيما نمارسه من أفعال، تنعكس بالضرورة على مجتمعنا، ومن هنا صار معرفة الفرق بين "الشجاعة" و "التسلح بها" أمر ضروري لأن نفهمه. فان كنتُ عازمةً مثلا على أن أضرب بعرض الحائط قيمة إنسانية أو اجتماعية أو دينية حقة، فلأكن شجاعة، لا عبر دوس "واجب" المحيطين بي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل في الاعتراف بخطأ ما أمارسه، وبالمحاولة الحثيثة لتركه مثلا، أو لا أقل "الخجل" من الله والكف عن إلباس ما أشاء لباس الشرع، فان كنت حقا أهتم لشرع الله، فالواجب أن أمتثل له واعية بروحيته، لا أن أستغل بعض كلماته وآياته وتوصيفاته، مقتطعة ما شئت منها ليوافق ما أردت، لأسنّ قاعدة جديدة يتناقلها من أراد السير على ذات النهج، حتى تُلبَس ثوب الحق بينما هي باطل محض.
 

إحدى الأخوات رفضت "تدخل" صديقتها في "شأنها" حين همست لها أثناء خروجهما من المنزل، بأن تستر وجهها المليء بالماكياج، مزمجره بعلم ورضا زوجها بكونها متبرجة! المصيبة أن ذات الأخت تدخل في نقاشات مستفيضة معلنة الحرب ضد قاعدة "أن المرأة لا تخرج إلا بإذن زوجها"! فحينا يكون ذلك الزوج مجرد إنسان لا يملكها كزوجة، وحينا يكون هو الرب الذي ترتضي برضاه، وإن كان في رضاه غضب المعبود!

عُطِّلت "فريضة" الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ما بين أشداء على المؤمنين، يحتكرون الفهم للدين في عقولهم، وهم بلا عقول، لا يخجلون من سفك الدماء المحرمات تحت بند أمر بمعروف، وما بين جهلة أو غافلون، يريدون أن تُسيّر الدنيا كما يشتهون، فالدين عندهم دائما وأبدا دين يسر ويسر، ينقضون على من يمارس تلك الفضيلة، وإن بالتي هي أحسن، حتى صار يتقي شرهم بتبرم خفي وإشاحة وجه، ولا أدري إلى أي زمان نحن ماضون.


٩ مايو ٢٠١٥

No comments:

Post a Comment