بسم الله الرحمن الرحيم
في فترة من الفترات بدأت الحالة العامة لجاليتنا يغلب عليها المزاح وعدم الجدية، وقلّ فيها الحضور إلى المركز وصار الذهاب إليه مشقة وتعب، وكانت الانتقادات تصب في رتابة المحاضرات وعدم حيويتها، إذ كان الأخ أبو حيدر هو المحاضر الوحيد تقريبًا في ليالي الجلسة الأسبوعية.. انتشرت حينها الجلسات الأسبوعية في بيوت الشباب وخصوصًا ليلتي السبت والأحد (ليالي الويك اند).. كنا نجلس شبابًا نتسامر ونتحادث، نمزح ونضحك.. البعض يشاهد التلفاز، وبعضٌ يدخنون المعسّل، وآخرون يناقشون في أمور السياسة أو الدراسة أو غيرها من المواضيع المختلفة.. وفي أحايين كثيرة نتعاون على طبخ وجبة عشاء في ساعة متأخرة من الليل.. كان الإزعاج للجيران سمة من سماتنا إذ قد لا تمر ليلة لا تُرفع فيه شكوى علينا نظرًا لفوضتنا وصراخنا إلى وقت منتصف الليل بل حتى بعده.. كنتُ من المشاركين في هذا الجو، وكان يعجبني هذا الجو كثيرًا حيث أنه يزيل الهموم الدراسية، ويسري في النفس راحة..
لكن بعد فترة بدأت تطغى حالة سلبية من هذا المزاح إذ أصبح يمثل حالة من الازدراء بالآخرين والانتقاص منهم باسم المزاح والضحك.. بل أصبحت المهارة في إضحاك المجموع على فرد من الأفراد في طريقة كلامه أو منطقه أو أي شيء يتعلق به.. ثم يختم صاحب المزحة باعتذار باهت وأنه لا يقصد من مزحه أية إهانة أو استهزاء.. وللأسف، فلا أبريء نفسي من ذلك.. وأصبح كذلك من الصعب جدًا أن تفتح موضوعًا هادفًا للنقاش..
أتذكر ذات مرة كنّا جلوسًا في شقة أحد الأصدقاء وكنّا عددنا كبيرًا وكلٌ يتحدث مع صاحبه والفوضى قائمة.. دار نقاش هادئ بيني وبين أبي سارة - إذ كان بجانبي - حول علم الآثار والجيولوجيا وإن كانت مخرجات وآثار هذا العلم تتفق مع الدين الإسلامي.. أخذ النقاش حيزه ولفت انتباه الحضور، وخيم السكوت على الجميع وواصلنا - أبو سارة وأنا - حديثنا عن الموضوع لفترة طويلة أخذًا وردًا، والكل ملتفت منصت مستمع بانتباه شديد.. وفي لحظة خلاف بيني وبين أبي سارة حول نقطة ما في الموضوع، التقطها أحد المزّاحين وأطلق مزحة جعلت الجميع يضحك، انهدم الموضوع وعادت الفوضى من جديد.. التفتُ إلى أبي سارة وقلت له لنغلق الموضوع أفضل.
بعد مدة قليلة التفتَ إليّ صاحب المزحة وقال لا تزعل ترى مجرد مزحة.. وهكذا كنّا على هذا الموّال من السخرية والمزاح وتضييع الأوقات.. نسخر ونجرح ونؤذي بعضنا بعضًا وبعد ذلك نختمها باعتذار باهت: مجرد مزحة ها، لا تزعل!! أصبحنا لا نستطيع أن نتحدث في مواضيع هادفة والسبب طغيان حالة المزاح والهذر.. كما كان هناك بعض الأفراد يجلسون معنا لفترات طويلة ولا يتجرؤون أن يفتحوا أفواههم أو يناقشوا أو يتكلموا بل أكثر ما يمارسوه هو الضحك فقط، فالغالب عليهم السكوت وعدم المشاركة في النقاش.. يخافون أن يتكلموا لكي لا نسخر منهم أو نعلق على طريقة كلامهم أو نمسك كلمة ما من كلامهم لنجعلها مسمارًا في نعشهم من السخرية!! كانت سلاطة ألسنتنا لا ترحم متخذة السخرية من الآخرين أداة للمرح والمزح على حسابهم!! كيف وصل بنا الحال إلى هذا المستوى.. لا أدري!!!
اشمأززت من هذه الحالة، ولفترة حاولتُ أن أنعزل عن هذه الأجواء، وإن شاركت فأفضل الصمت على الحديث.. كانت فترة مراجعة لما آلت إليه شخصيتي التي رأيتها تتمرغ في وحل المزاح الثقيل الذي لا يراعي حرمة أحد، وتعاني من الفراغ الذهني والفكري.. كانت النقاشات عقيمة لا جدوى فيها سوى إبراز الذات وتحقير الآخر مزحًا وسخرية..
الجالية كيان اجتماعي يتشكل بحسب مكوناتها وكذلك كانت جاليتنا، في البداية كانت تشكيلتها خليجية يعلوها نكهة قطيفية حساوية، وبعد عدة أعوام بدأت تتشكل على نحو آخر، فكانت النكهة مختلطة بين قطيفية وحساوية وعمانية وعراقية ولبنانية وإيرانية وأفغانية.. فالعمانيون لم يعد ذلك الواحد علي غلوم هو الوحيد منهم، بل ساهم وجوده في تشجيع وحث مجموعة من العمانيين للقدوم لمنطقتنا.. فأصبح لوجودهم إطلاقة وإنطلاقة فمنهم كان الملا حسين صاحب الصوت الشجي الجميل وذو الطاقة الإبداعية في فنون العزاء والإنشاد، ومنهم توفيق زميلي في إصدار نشرة الانتظار، ومنهم الساجواني الذي طور من النشرة وهيئتها وأبوابها وموادها.. ومنهم أيضًا مَن كان لوجوده أكبر الأثر في تشكيل الجو العام للجالية وبالغ التأثير في تشكيل شخصيتي بل وصقلها..
وعلى نحو آخر، فقد بدأت صفوف العراقيين اللاجئيين من رفحاء / السعودية (أنشئت فيها مخيمات لإيواء اللاجئين العراقيين بعد حرب الخليج الثانية عام 1991) في المجيء إلى منطقتنا وبدأت أعدادهم تتزايد شيئًا فشيئًا.. وكذلك وجود عائلة أفغانية تعرفت على المركز الإسلامي وجاءت إليه صدفة لترى أنها كانت لسنوات فاقدة لهذه الأجواء، فالتصقت به، وكانت سببًا في مجيء عوائل أفغانية أخرى..
العمانيون من عائلة اللواتيا.. يتكلمون باللهجة العمانية وهي لهجة جميلة فيها الكثير من الحيوية، وفيها أيضًا ألفاظًا غريبة عليّ ولها لكنة لطيفة.. كما أن لهم لغتهم الخاصة التي يتحادثون بها بين بعضهم البعض وأتصور أنها ترجع إلى الحيدرآبادية.. العمانيون ذووا أخلاق عالية ويتمتعون بحس إيماني وديني راقي، ولهم همة ونشاط واضحة.. أغلبهم كانوا في مرحلة دراسة البكلوريوس، ومن الملفت أن لا يوجد بينهم طالب هندسة وهو التخصص الغالب على أهل القطيف والإحساء، بل تنوعت تخصصاتهم في البزنس وإدارة أعمال وغيرها.. من ضمن المجموعة كان أبو ياسر، لكن أبا ياسر هذا كان مختلفًا بعض الشيء، فهو أكبر سنًا من الطلبة الموجودين ويبدو أنه تنقّل في ولايات مختلفة ردحًا من الزمن.. يعلو عليه الاحترام ودماثة الأخلاق ويعجبك كثيرًا حين تتحدث معه، ومع أنك تعلم أنه متحدث لبق، إلا أنه لم يكن ليشارك في أنشطة المركز من محاضرات وغيرها، بل ظل مستمعًا متحرزًا متحفظًا بعض الشيء.. والسبب في ذلك كونه شيرازيًا فلم يود أن يُثير أحدًا أو أن يكون سببًا في تخوف البعض.. مع أنه كان أحد العاملين النشطين على مستوى الولايات المتحدة، وله باع طويل في النشاط الإسلامي.. لم يكن ليلحق بمركز الشباب المسلم الذي كان في منطقتنا وتم غلقه قبل عدة سنوات.. فلم يكن له ملجأ إلا أن يحضر مركزنا..
قد تستغرب من هذا الأمر أن لكل فئة أو حزب أو تيار مسجده ومركزه ومكانه لكنه الواقع الذي يفقع عينيك والذي يجعل من الجماعة الواحدة المنتمية لنفس المذهب والطائفة عدة جماعات وأحزاب وفئات.. ذكرتُ سابقًا أنه كان للشيرازية مكانًا يجتمعون فيه وكان معهم الشيخية – مقلدي الشيخ بن زين الدين الأحسائي -.. كانوا كيانًا خاصًا منغلقًا، أو ربما نحن كنّا منغلقين عنهم.. فيما كان مركزنا يجمع مقلدي السيد الخوئي والسيد الخميني وغيرهم.. أتذكر جيدًا حينما أثيرت مسألة القبلة بين مقلدي السيد الخوئي وكانت في اتجاه الشمال الغربي على بُعد 90 درجة من الاتجاه العام للقبلة وهو الشمال الشرقي.. فأصبحنا على هذه الحالة منقسمين بعضنا يصلي في اتجاه وآخرون يصلون في اتجاه آخر..
صدع رأسنا الشباب العماني ببشارة مقدم طالب آخر من عمان.. وصلت شهرة هذا الرجل قبل أن يصل هو إلى منطقتنا.. وفي العادة فإني أشمئز من هكذا إشهار وتضخيم في وصف الآخرين.. كان رجلًا يكبرنا قليلًا سنًا، وكانت معه عائلته – زوجته وابنته وولده -. أبا كميت.. رجل نحيف جدًا يلبس نظارة زجاجها كأنها قاعدة قنينة شراب البيبسي من ثقلها، وبسيط جدًا وغير متكلف في التعامل.. وكانت زوجته قوية الشخصية، بل حتى ابنته – سكينة - ذات الخمس أعوام تتحدث وتتعامل مع الآخرين بثقة عالية جدًا.. تتحدث بلباقة ويبدو على حديثها حدة الذكاء..
لم تمض فترة طويلة وإذا بأبي كميت يلقي محاضرة علينا وكانت عن القراءة.. لا أعلم إن فَطِن أبو كميت للحالة الثقافية الموجودة لدينا فأراد استنهاضنا من خلال هذه المحاضرة، أو أن الأمر مجرد صدفة.. لا أتذكر ماذا قال في تلك المحاضرة لكن الذي أتذكره جيدًا أن هذه المحاضرة كانت كفيلة بتغيير مجرى حياتي.. ذهبت إليه بعد المحاضرة وسألته بعض الأسئلة من ضمنها، ماذا أقرأ، فقال لي: إقرأ كل ما تجده تحت يديك.. قلت له: ولكن في القراءة الغث والسمين، كيف تميز الأفكار والمواضيع الهادفة من الفاسدة؟، فقال: اقرأ، اقرأ، اقرأ، بعدها ستصبح لديك مَلَكة القراءة ما بين السطور.. أثّرت فيّ هذه المحاضرة كثيرًا، وعند رجوعي للبيت كنت متمددًا على الأريكة وبالقرب مني كتاب.. أمسكته فلم التفت إلا على نهايته!! وكنتُ قبل ذلك لا أستطيع أن أنهي صفحة واحدة دون أن يغشيني النعاس.. أتذكر أنني كنت أقرأ قبل مجيئي إلى أمريكا، لكن بعد مجيئي اقتصرت القراءة على كتب الجامعة فقط.. لكن بعد محاضرة أبي كميت أصبح الكتاب لا يفارقني، حتى لو كنتُ واقفًا في الطابور، أُخرج الكتاب وأقرأ.. شعرتُ حينها بقيمة القراءة، وكيف أن القراءة تمد القلب والعقل بإكسير الحياة..
ذات يوم عَلِم أبو كميت بأن هناك كتبًا للشيرازية مدفونة في المخزن، فلم يسكن حتى أقنع مسؤولي المركز أن يخرجوها ويضعوها في المكتبة للقراءة.. وكانت كلمته دائمًا،، دعوا الناس تقرأ وتختار لنفسها..
بين أبي ياسر وأبي كميت جولات وصولات.. فهذا شيرازي وهذا خوئي.. وعلى عكس الحالة السائدة سابقًا من الكلام وراء الظهور وتبيان الخطر الحقيقي من ذاك التيار أو تلك الفئة.. كانت تقام الحلقات ويكون الحضور العماني غالبًا فيها يتصدر الحوار كل من أبي ياسر وأبي كميت، يتعرضان فيه للاختلاف المرجعي، ولكن... بكل أريحية واحترام.. كانت الحوارات ساخنة.. جادة.. حادة.. لكنها لا تخرج عن إطار احترام الآخر.. بل أنه بعد مجيء أبي كميت إلى منطقتنا، فإن أول ما قام به هو دفع أبي ياسر للمشاركة في الأنشطة والبرامج فتفتق هذا الرجل عن قدرة عجيبة في الخطابة وإثارة المواضيع.. كنتُ حينها انتهل من هاتين الشخصيتين علمًا وتعاملًا..
سكنتُ مع أبي ياسر في فترة العطلة الصيفية – ثلاثة أشهر- في شقة أبي كميت خلال زيارته لعمان.. تعرفتُ على شخصيته أكثر إذ كانت حياته مثال الانضباط والاستفادة من الوقت إلى أقصى حدوده.. كنا نتحاور كثيرًا وفي مختلف المواضيع، وكنا نعمل في النشرة أيضًا، وغيرها من الأمور، لكن الذي استفدته من هذا الرجل هو تشجيعه لي للتحدث أمام الآخرين وإلقاء المحاضرات.. كانت لدي مادة في لغة الخطابة في الجامعة، وهذه المادة من المواد التي يأخرها الطلبة – سواء كان عربًا أو أمريكان – نظرًا لكونها تتطلب شجاعة وجرأة في التحدث والخطابة أمام الآخرين.. أحد متطلبات المادة الدراسية هذه هو تقديم محاضرة لمدة معينة عن موضوع ما يستخدم فيه الطالب أدوات الخطاب لجذب انتباه المستمعين.. ساعدني أبو ياسر في اختيار موضوع الخطابة فكان موضوعًا سياسيًا بامتياز عن السياسة الأمريكية الخارجية.. تلخصت مساعدة أبي ياسر في اختيار الموضوع، والحوار حوله مما كوّن لدي هائل معرفي جيد للإلقاء، وفي طريقة الإلقاء وكيف أتغلب على حالة التخوف في التحدث أمام الآخرين.. كان عدد الطلاب كبيرًا في هذه المادة اذ استغرق الإلقاء ثلاثة أيام لجميع الطلبة.. المميز في هذه المواضيع المطروحة كانت ثلاثة مواضيع ذات جدوى حازت على اهتمام الحضور، أحدها كان لطالب أمريكي أبيض عن المجازر التي قام بها الأمريكان البيض لشعب الهنود الحمر.. والموضوع الثاني كان للزواج التقليدي في الإسلام لطالبة باكستانية كانت ماهرة في الإلقاء وطرح الموضوع، والموضوع الثالث كان موضوعي حول السياسة الأمريكية الخارجية والتي قالت لي المدرسة أنني طرحت الموضوع على أمريكان ولم استفزهم أم استثيرهم سلبيًا بل أثرت انتباههم بشكل إيجابي للممارسات والتناقضات في السياسة الأمريكية الخارجية.
لا زلت أدين بالفضل في اجتياز هذه المادة بجدارة للأخ أبي ياسر، ولكن لم تكن تلك الفائدة الوحيدة بل إن تشجيعه دفعني للمساهمة والمشاركة في إلقاء المحاضرات في المركز الإسلامي أيضًا..
أما أبو كميت فسيتبع ذكره في الحلقة القادمة..
11 يوليو 2015
No comments:
Post a Comment