Thursday, July 16, 2015

على ضفاف الذكريات (23) // ز.كاظم

 

بسم الله الرحمن الرحيم


دائم القراءة، فحتى لو كان مستمعًا لمحاضرة، فلا بد أن تراه يقلّب صفحات كتابٍ في يده (أو كتيب أو جريدة أو مجلة).. كأني أنظر إليه وهو جالس يستمع محاضرة في المركز وفي يده كتيب يتجول بين صفحاته وهو ينظر تارة إلى الكتيب وتارة إلى المحاضر، وتارة يدير بوجهه إلى الأعلى متفكرًا.. تقول زوجته في صباح كل يوم سبت يدخل الغرفة بعد وجبة الإفطار وبيده جرائد ومجلات الأسبوع ومقص ويغلق الغرفة عليه ولا يخرج إلا بعد عدة ساعات، إذ يقوم بقراءة كل ما وقعت يداه عليه مع قص ما يحتاجه للأرشفة.. في حوارك معه يبهرك باعتماده لمصادر حديثه، وفي المقابل ينصت إليك باهتمام، ويحثك على الحديث ليستخرج ما في ذهنك وعقلك من أفكار وآراء..
 
لا أتذكر جيدًا إن كانت هذه الفكرة من بنات أفكاره ولكن يبدو أنها كذلك، إذ اقترح علينا - مجموعة من شباب المركز - أن نجتمع في كل أسبوع مرة لمناقشة كتاب، على أن يكون التحضير على الجميع ونتناوب تقديم التحضير في كل أسبوع.. وكان الاختيار لكتاب "المرسل.. الرسول.. الرسالة" للشهيد السعيد محمد باقر الصدر (قدس سره).. كانت الفكرة جميلة جدًا، إذ كنا نجتمع في مكتبة المركز على شكل حلقة، ويبدأ من تقع عليه مسؤولية التحضير بالشرح ثم تبدأ مناقشة الشرح.. 
 
 
كان يحضر ويجلس خارج الحلقة ولا يتداخل إلا للضرورة.. كان يستمتع كثيرًا بالآراء والأفكار المختلفة التي تُطرح.. الجميل في هذه النقاشات أنها متنوعة وجميلة جدًا كاشفة عن اختلاف الأفهام، فقد آتي بشرح معين ويأتي زميل آخر بشرح مخالف لشرحي، وهكذا.. في إحدى الليالي اتصل بي زميل وقال لي أنه مسؤول عن التحضير ليوم الغد وقد قرأ المقرر عدة مرات ولم يستطع أن يهضمه، فطلب مني أن نناقشه ونشرحه، وبالطبع قمنا بذلك.. كانت هذه التجربة مثمرة من عدة جهات: 
 
  1. تعلمنا أهمية التحضير للدروس، وهذه أفادتنا كثيرًا حتى على مستوى الدراسة الأكاديمية، فقبل أن يطرح الدكتور درسه نكون قد قرأنا الدرس مسبقًا لنكون أكثر استعدادًا وهضمًا للموضوع..
  2. تعلمنا أهمية الحوار والنقاش وتقدير الاختلاف وتباين الأفهام.. بكل صراحة كانت التجربة رائعة جدًا وذلك راجع أيضًا لتميّز الشهيد الصدر في كتاباته بحيث أنك تبذل جهدًا ذهنيًا كبيرًا في فهم واستيعاب ما يطرحه من أفكار ورؤى.. 
  3. تعلمنا أهمية الحوار والنقاش لتثبيت الفهم والاستيعاب أملًا في الوصول للمعاني والحقائق والنتائج.. فقد تقرأ وتظن أنك فهمتَ ما قرأته، ولكن بالحوار قد تجد أن فهمك غير كامل أو خاطئ، فتقوم بتصحيحه أو تثبيته..
  4. رفعت حس المسؤولية لدينا إذ أصبحنا ملتزمين بالتحضير قبل النقاش وكذلك الحضور والمناقشة والمبادرة في طرح الأسئلة والإجابة عليها..
  5. جعلتنا نتجاوز الهالة التي توضع على كتابات الصدر من أنه لا يفهمها إلا الراسخون في العلم.. 
 
علّمَنا وبذل قصارى جهده في تطوير قدراتنا المعرفية والعلمية قراءة، وكتابة، وحوارًا..
 
هكذا كان أبو كميت..
 
كانت علاقتي بالأخ أبي كميت علاقة أخوية عائلية إذ كنت دائم الحضور في بيته لتناول وجبة عشاء أو غداء، وكنتُ أقوم بتوصيل زوجته إلى الجامعة أو توصيله هو أيضًا إذ أن نظره ضعيف فلا يحبذ السياقة وخصوصًا في الليل.. ذات مرة وبينما كنت أوصله إلى بيته دار نقاش بيني وبينه عن أحد المواضيع وأظنه حول المدرسة الإخبارية.. فاستلمني أبو كميت سؤالًا تلو السؤال، وهذه هي عادته.. دعني أوضح: إن كانت هناك خصلة تميز أبا كميت فهي خصلة السؤال، فهو دائم السؤال.. فعندما تُحاوره في مسألة ما، أو موضوع ما، فإنه لا يتركك هكذا بدون أن يقوم بفصفصة ما تطرح، ويأمَل منك أيضًا أن تفعل نفس الشيء لما يطرحه هو.. فلذلك قلتُ استلمني بالسؤال تلو السؤال.. كان يزعجني أنه يعرف جيدًا ما أريد قوله، وما أفكر به، ولكنه لا يقبل ما يعرفه، بل يجاهد على أن يسمع ما أعرفه.. فعندما طرحتُ بعض المعلومات والآراء التي لدي حول الموضوع، قام كعادته بالسؤال تلو السؤال.. حاصرتني أسئلته فلم أجد بدًا إلا بالهجوم عليه.. فصببتُ عليه جام غضبي رفضًا لأسلوبه وطريقته في السؤال وكأنه يهدف إلى تعجيزي وبيان ضعفي!!! 
 
بعد أن سكتُّ، التفت إلي وقال: ليس ذنبي أن تطرح فكرة لا تستطيع الدفاع عنها! غدًا عندما ترجع إلى بلادك ستتقاذفك الأفكار والرؤى والتوجهات من كل حدب وصوب، وسوف تطرح ما تؤمن به، فليكن طرحك قويًا قائمًا على العلم والمعرفة والدليل، فالقول بأن على الآخرين أن يفهموا ما تقول لن يشفع لك!
 
أغضبني رده جدًا.. ولم أكلمه لعدة أيام حتى هدأت فورة غضبي.. 
 
بعدها فكرتُ في كلامه فوجدته كلامًا صائبًا.. ربما كانت فورة غضبي لا من أجل أسلوبه بل لأن أسلوبه كشف عن مستوى ضعفي في الطرح.. فنحن نكره السؤال لأننا لا نعرف الإجابة أو نتوهم معرفتنا بالإجابة وعندما نجيب نجد أن إجاباتنا غير مقنعة للآخر بل ربما غير مقنعة حتى لنا.. فالكثير من الأفكار لم نخضعها للميزان العلمي وكثير من المعلومات لم نتحقق منها ولكن بنينا عليها الكثير من القناعات والمعتقدات.. ولعل مسألة الشيرازية أكبر دليل على ذلك، فكم بقيتُ بعيدًا عنهم أسمع عن خطرهم وأتحذر منهم.. والحقيقة أنهم لا يختلفون بتاتًا عنا، فهم مثلنا ونحن مثلهم وكل ما في الأمر أننا حجزنا أنفسنا في دائرة الجهل بالطرف الآخر ونسجنا الكثير من المعلومات الخاطئة الغير متيقنة عنهم حتى صورناهم خطرًا داهمًا على الأمة الإسلامية جمعاء! أتذكر في العام 2002 - أي بعد عشر سنوات من معرفتي واختلاطي بالشيرازيين - كنت في زيارة للبحرين، وكنا مدعوين في بيت أحد الأقرباء، وبعد وجبة الغداء دار الكلام وجال حتى وصل للشيرازية، فتلقفها الحاضرون، وأخي - حفظه الله - من الشباب الفاهم الواعي القارئ الذي انعكف على الكتب لفترة زمنية مما جعله موسوعة من العلم والمعرفة لكنه قام يطرح كلامًا قديمًا سمعته عنهم قبل سنوات طويلة.. نفس الأسطوانة ونفس الإشكاليات ونفس التهم.. تضايقت من الأمر، وسألته: كم كتاب قرأت للسيد الشيرازي أو المدرسي أو غيرهم! كم شيرازيًا تعرف ولك علاقة معه!! هذا الكلام الذي تقوله كنتُ أسمعه قبل عقود من الزمن، لكن تبين زيفه وعدم صوابه، وهذا الكلام هو هو نفسه.. نفس التهم ونفس القضايا.. وغالبها تُنقل من فم إلى فم من دون تحقيق بل حتى من دون تقوى وللأسف!  
 
 
ننسج أوهامًا عن نوايا الآخرين.. نعرف معتقدات الآخرين أكثر مما يعرفوها هم.. قلوب الآخرين سوداء حاقدة تريد الشر بنا بل وبالإنسانية قاطبة.. لن يصارحوك بل سيكذبوا عليك حتى يتمكنوا من السيطرة عليك.. سيحدِّثونك بكلامٍ طيبٍ مذاقه عسل لكن فيه السم الزعاف.. فحاذر ثم حاذر..
 
الجهل.. ذلك الذي اكتشفته من خلال فورة الغضب التي أصابتني مع أبي كميت جراء ذلك الموقف.. جهل المعلومة، جهل الآخر، جهل العلاقة، جهل السؤال والجواب.. 
 
كان درسًا مفيدًا لي.. نعم لا يكفي أن تكون مقتنعًا بشيء ما، بل لا بد أن تكون قناعتك قائمة على الحجة والدليل والبرهان، وأن تكون مطمئنًا لقناعتك، قادرًا على محاورة نفسك ومناقشتها، وإن أردتَ أن تعرضها على الآخر، ففهمك سينعكس على أسلوب طرحك لهذه القناعة، فامتلك المنطق القويم والعلم الدقيق والبرهان السليم في طرح ما تقول وبأسلوب مؤدب ومتواضع.. أن تمتلك حب السؤال لكي تفهم وتستوعب فمن خلال الأجوبة تكشف عن أفهام وآراء وأفكار مختلفة لتنفتح على عالم من العلم والمعرفة.. 
 
كنّا في نشرة الانتظار نتعب حتى نحصل على مَن يكتب في باب فقرة التحرير "لنا كلمة"، فكلمتُ أبا كميت لكتابتها فطرح عليّ فكرة أن أكتبها بنفسي.. قلتُ له لم أكتب من قبل، ولا أعرف كيف أكتب.. قال أنت تتحدث جيدًا وتمتلك أفكارًا جميلة، قم بكتابتها وسأقوم بتصحيحها لك بعد انتهائك من كتابتها.. كتبت مقدمة التحرير فكانت:
 
"عندما يقدم يهودي ويقتل العشرات من المسلمين الأبرياء الصائمين أثناء تأدية الصلاة، يُعبّر عنه بأنه معتوه، وأنه مختل العقل، لتبرئته من المسؤولية القانونية والجزائية، بينما إذا أتى مسلم يريد أن يُدافع عن دينه وبلده فإنه بلا شك إرهابي، بل إن حكم الإرهاب يتعداه ليشمل كل الإسلام وكل المسلمين والعرب. والواقع إن تاريخ "إسرائيل" كله مجازر ومذابح فليست مجزرة الحرم الإبراهيمي هي الأولى ولن تكون الأخيرة، فالتاريخ لم ينس مجزرة "دير ياسين" عام 1948م ومذبحة صبرا وشاتيلا عام 82م وجريمة إطلاق النار على داخل حرم كلية الخليل عام 83م والتي قام بها مدنيون صهاينة وقتلوا إثرها عددًا من الطلبة، والجريمة التي قام بها "إسرائيلي" كان يرتدي لباسًا عسكريًا ضد العمال الفلسطينيين عام 90م حيث قتل عددًا منهم، وبالأمس القريب قتلوا عددًا من قياديي "حركة فتح" رغم حديث السلام المزعوم، وبرروا ذلك بأنه كان خطئًا استراتيجيًا، وهكذا فسلسلة المذابح والجرائم متواصلة ومتتابعة. وبعد الاعتداء على كل الحرمات، والبيوت ومواقع العبادة وشهر العبادة، على الشيوخ والنساء والأطفال، كيف يمكن التعايش مع الصهاينة، مع جزاري البشر ومصاصي الدماء؟ إن مذبحة الحرم الإبراهيمي كانت إنذارًا صهيونيًا وتأكيدًا على استحالة التعايش معهم ودليلًا صارخًا على أن "إسرائيل" إن لم تكن ضالعة في تلكم الجرائم فإنها عاجزة عن توفير الأمن للمواطنين الأصليين في فلسطين المحتلة. لقد كانت مجزرة دامية ومؤلمة عبر عنها الولي القائد السيد الخامنئي بقوله "إنها ألبست شهر الصيام لباس الحزن وأدمت قلوب المسلمين رغم إن الأجهزة الإعلامية الاستكبارية وذيولها تسعى جاهدة بأساليبها الماكرة للتعتيم عليها وتبسيطها والتقليل من بشاعتها".
 
ولهذا فليس على المسلمين إلا أن يدركوا مسؤولياتهم التاريخية تجاه فلسطين والأقصى والفلسطينيين المستضعفين. ولنعم ما قاله الولي القائد الخامنئي "على الشعوب أن تهب هبة رجل واحد وتفرض وجودها وتأثيرها على الأجواء الدولية والسياسية العالمية وبالشكل الذي يضيق الخناق على المجرمين القتلة".
 
ونختم كلمة الانتظار بما ختم به السيد القائد كلمته "وأسأل الله جل وعلا أن يمن على الشعوب الإسلامية بالوعي واليقظة لتنهض بواجبها تجاه القضية الفلسطينية خصوصًا وقد أصبحت اليوم أشد مرارة وأعظم مصابًا"."  
 
لم يغيّر فيما كتبته شيئًا بل أبقى الأفكار والصياغة كما هي وعندما سألته قال أنه يكره أن يقوم بتغيير أفكار الآخر ولو في الصياغة.. وكل ما قام به هو بعض التعديلات الإملائية والنحوية.. والنحو مع أننا درسناه في المدارس لسنوات طوال، إلا أنه لم يثبت في الذهن، بل كانت توصيلاتي لأم كميت إلى الجامعة كفيلة بترسيخه إلى هذا الوقت عن طريق عدة دروس في القواعد بصورة مبسطة وبسيطة..  
 
تعودنا في كل عام أن يقيم المركز الإسلامي مخيّمًا صيفيًا.. عادة ما يكون هذا المخيم في منطقة تبعد عن منطقتنا عدة ساعات (حوالي الثلاث ساعات تقريبًا).. ويكون في مكان تكثر فيه الطبيعة الخلابة من أشجار وأنهار وشلالات.. نقضي فيه ثلاثة أيام بعيدًا عن ضوضاء المدينة بين أحضان الطبيعة.. ونقوم ببرامج ثقافية وترفيهية متنوعة.. تكون هناك دعوة لسماحة أحد المشايخ الأفاضل في أمريكا.. كانت عليّ مهمة إيصال سماحة الشيخ من المطار إلى مكان المخيم، تبادلنا في تلك الرحلة أطراف الحديث حول مواضيع شتى من الثقافة والأدب والسياسة، فتنبّهتُ إلى انزعاجه من الجمهورية الإسلامية ولم يكن كذلك من قبل.. كان مصدر انزعاجه هو استقبال الجمهورية لطارق عزيز في تلك الأيام، وسماحة الشيخ كان من العراق فأبدى امتعاضًا على الجمهورية في استقبال هذه الشخصية الضالعة في دماء الشعب العراقي.. لم أشأ أن أتداخل كثيرًا في هذا الموضوع، فأنا من محبي الجمهورية، ولم نتعود الانتقاد القاسي عليها في تلك الفترة، بالرغم من ذلك الموقف إلا أن الرحلة للمخيم كانت جميلة جدًا وممتعة إذ كان سماحة الشيخ سهل الحديث فلم نلتفت إلا ووصلنا إلى مكان المخيم..  


 

 
في اليوم التالي صباحًا بعد وجبة الإفطار كنّا جلوسًا في الهواء الطلق مستمتعين بجمال الأشجار وهي تحيطنا، متبادلين أطراف الحديث.. وكان بيننا السيد مجتبى وفرهاد وهما إيرانيان كبيران في السن تقطر من على محياهما الطيبة، وتسمو روحهما بالأخلاق وطيب النفس.. لم يزورا إيران لفترة طويلة جدًا إذ كانا من الهاربين من إيران الشاه وظلا في أمريكا طوال تلك السنين.. كانت إيران الثورة لهما كيانًا مقدسًا يتوقان لرؤيته ويرون فيه حلم الأنبياء.. بينما نتحادث جاء الشيخ وجلس بين المجموعة وتم تناول أطراف الحديث معه.. سأل السيد مجتبى الشيخ سؤالًا عن تجربة الدولة الإسلامية في إيران، فجاء رد الشيخ باهتًا، فقلتُ في نفسي ربما لم يفهم الشيخ السؤال كون السؤال باللغة الإنجليزية، فأحببتُ أن أوضح السؤال للشيخ فقلتُ: إن ما يقصده السيد هو أن تجربة الدولة الإسلامية على نهج أهل البيت لم تكن لتحقق منذ عصر الإمام علي "ع" إلا في عهدنا في الجمهورية الإسلامية، فقاطعني الشيخ قائلًا: وهذه دولة إسلامية!، قلتُ له: إيران ليس دولة إسلامية؟!، فقال: دولة إسلامية تستقبل المجرم طارق عزيز!!.. وأضاف كلامًا يوحي بعدم شرعية الدولة الإسلامية في غياب الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف.. كان حديثنا باللغة العربية، ولم أود أن أواصل في النقاش لئلا يسبب هزة عند البعض، فسكتُّ وأحجمتُ عن مواصلة الحديث.. لكني اتصلتُ في أبي كميت وقلتُ له أن يجهز هو وعائلته حالًا.. لم يتمكن أبو كميت من حضور المخيم كونه مشغولًا بأمور الدراسة في اليوم الأول من المخيم، ولم يكن ليقطع تلك المسافة لوحده فقرر عدم الحضور مع أنه كان يتوق للحضور.. اتصلتُ فيه وذهبتُ إليه يوم السبت لأحضره.. ثلاثة ساعات ذهابًا وأخرى إيابًا.. وفي أثناء الدرب جالت بي الأفكار إذ لم أستوعب حينها انتقاد الشيخ بل وطريقة انتقاده وكنتُ على معرفة سابقة بالشيخ ولم يكن ليشكك في كون الجمهورية الإسلامية في إيران دولة إسلامية، بل لم يكن يحمل فكرة عدم شرعية الدولة الإسلامية قبل الظهور! 
 
على العموم، وصلتُ إلى بيت أبي كميت وكان وعائلته جاهزين، وركبنا السيارة وفي الطريق أخبرته بما حدث.. لا أتذكر إن كان قد استغرب من حديث الشيخ، إلا أنه أشكل على الشيخ في عدة أمور حول شرعية الدولة الإسلامية.. وصلنا المخيم ليلًا، ولم نتمكن من الحديث مع الشيخ حول الموضوع.. بصراحة لا أتذكر لماذا أصررتُ على إحضار أبي كميت، هل كنتُ آمل أن يكون بمثابة صمام أمان إذا ما أراد الشيخ أن يفجّر الموضوع مرة أخرى، أم كنتُ آمل أن يحجّه في رأيه، أو ماذا! لكن الذي أتذكره جيدًا أنه في اليوم التالي وعلى بُعد مسافة من ضوضاء الحضور كان أبو كميت هناك يتحدث مع الشيخ تحت ظل شجرة بعيدًا عن الأنظار.. فاقتربتُ منهما فسلّم عليّ الشيخ وذكر معرفته بأبي كميت عن طريق الهاتف وكيف أنه كان سعيدًا بلقائه.. ثم واصلا حديثهما - وكان أحد اللبنانيين واقفًا يستمع إلى حديثهما - حول الدولة الإسلامية.. لا أتذكر تفاصيل الحوار لكن الذي أتذكره هو أن أبا كميت كان دقيقًا جدًا في استشهاده بمصادر اعتمدها في الرد على مسألة الدولة الإسلامية وقد اختار شخصيتين لهما ثقلهما عند الشيخ وهما السيد محسن الحكيم والشهيد الصدر.. ثانيًا: كان أبو كميت قوي الحجة باعتماده على المصادر - وتلك كانت إحدى مميزاته – فعندما يطرح فكرة، فكان يُرجع أصلها إلى هاتين الشخصيتين وإلى المصادر التي استقى الفكرة منها، ثالثًا: كان حديثه مع الشواهد والمصادر مترابط جدًا لدعم الفكرة محل النقاش، فلا تكاد تجد ثغرة فيما يطرح.. كل ذلك خيّل لي أن الشيخ - حفظه الله - كلما أراد مخرجًا سده أبو كميت في وجهه.. لكن لم يكن للنقاش ليكمل نظرًا لحلول وقت صلاة الظهرين، ومن بعده كان الرحيل.. سلما على بعضيهما وكان الشيخ سعيدًا جدًا بحواره مع أبي كميت حول الموضوع، وقد لحظت تغيّر نبرة الشيخ حول الموضوع من الهزل إلى الجد.. 
 
هذه الحادثة ظلت حاضرة معي في كشف القوة الحقيقية عند الإنسان ألا وهي العلم.. ما أجمل أن تكون قادرًا على محادثة الآخر ولو كان عالمًا وفي مجال علمه بما تملك من علم رصين قائم على الحجة والبرهان.. العلم ليس محصورًا في مكان أو جهة أو زي، بل تستطيع أن تطور من ذاتك وقدراتك الذهنية والفكرية لتخدم محيطك ومجتمعك.. هناك جانب آخر للتو التفتُ إليه في أبي كميت وهو أنه كان لنا مثالًا جميلًا حاولنا أن نقتدي به.. كان من الضروري لنا كشباب في بلاد الغربة أن توجد لدينا تلك القدوة التي نُعجب بفكرها وبأسلوبها وبطريقتها لكي تحثنا وتشجعنا على القراءة والعلم والمعرفة في بلاد تتضخم فيها الملذات والملهيات والتفاهات.. ومع ذلك كله فهناك طرفة لا بد من ذكرها حول أبي كميت.. 
 
في أحد الأعياد أصدرت إحدى النشرات تكفيرًا لنا الشيعة – من مسجد الصبور للوهابية الذي ذكرته سابقًا -، فهاج شباب مركزنا وقرروا المواجهة خصوصًا وأن معهم أبا كميت.. لم يكن أبو كميت متشجعًا لكن غلبة العدد كانت كفيلة بأن ترضخه، فذهب هو ومجموعة من الشباب المنفعل إلى مسجد الصبور ليواجهوا اتهاماتهم وافتراءاتهم عن الشيعة.. وصلوا إلى المسجد وعلى الفور أخذهم بعض مسؤولي المسجد إلى إحدى الغرف بعيدًا عن حضور المسجد.. دار الحوار حول سبب تكفيرنا، فكان ردهم أننا  - الشيعة - نكفر الصحابة ونشتمهم وإلى آخره، فقام أبو كميت يشرح لهم أن الشيعة لا يكفرون ولكنهم أيضًا لا يُعطون العصمة للصحابة فهم يخضعوا كل شخص لميزان العمل الصالح تقييمًا ونقدًا كما هو الحال مع غير الصحابة إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.. بعد أكثر نصف ساعة من الإسهاب في الشرح، جاء رد أحدهم ولكن لماذا تكفرون الصحابة وتشتموهم!!! التفت أبو كميت إلى صحبه وطلب منهم أن يمشوا لأنه يبدو أن لا فائدة من الحديث! نعم، فهناك من طبع في ذهنه صورة عنك ولن تستطيع أن تغير تلك الصورة مهما حاولت..  
 
 
  
 
يتبع في الحلقة القادمة 
 
17 يوليو 2015 

 

No comments:

Post a Comment