Friday, July 31, 2015

الحاضر والمستقبل و(زمن الطيبين) // محمد علي العلوي

 

 

إن كانت اللحظةُ القادِمَةُ مستقبلًا، فمِن الصعب أن يعيش الإنسانُ حاضرًا؛ فاللحظة لا تلبث (لحظة) إلَّا وطردتْها قادمِةٌ من الخلف..

وإن قلنا بالمستقبل، فهذا يعني نفي القول بتصرُّم الزمن؛ وإلَّا فلحظة الزمن من أين تأتي؟ وهل هي لحظة الحاضر المطرودة من (الخلف)؟

إذا كان الأمر كذلك، فهل الزمن حركة دائرية ولا تصرَّم فيه؟ أم هو وهم لا حقيقة له إلَّا في أذهاننا؟

يقول الله تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).

أفهم أنَّ الزمن ظرفٌ لا أكثر، ولا أراه متصرِّمًا، ولكِنَّ مرور المظروف مرورٌ في اتِّجاه واحد غير قابل للانعكاس مطلقًا، ولذلك فهو غير قادر على العودة إلى اللحظة التي تجاوزها.

كما وهناك تفاصيل في هذه الرؤية، ومنها أنَّ المظروف يبقى في ظرفه اللحظي ولا يغادره على الإطلاق، ولكِنَّ ماهيَّة جديدة تتحقق في الآن القادم ومع كلِّ آن.

هل نتصوَّرُ مدى تعقُّد مسألة الزمن؟

هي هكذا، هائِلَةٌ في لحظة كونية واحدة، يحِنُّ لها مظروفها الإنسان بمجرد وجوده في لحظة تحتضنه ليدخل خلقًا جديدًا في لحظة جديدة، وكلَّما فهم الإنسان مظروفَ (آنِه)، وأحاط بكونه نتيجةً خالِصَةً للحظاتٍ انقضى أمرُها، كلَّما تآلف مع لحظة لم تحن بعد، وكلَّما تغرَّب عن مظروفِ (آنِه) وما انقضى من لحظاتِ حياته، كلَّما استوحش المستقبل وتعلَّق بمعظم عاطفته بما انقضى، ولا يتردَّد في عدِّه (أروع الأزمنة).

نحنُّ كثيرًا إلى الماضي وأيَّامه التي نصفها بالبساطة والطُّهر وما نحو ذلك من توصيفات جميلة نخنق بها واقِعَ اللحظةِ في نظر أولادها الذين لم يعاصروا ماضينا، ونفس ما نقوله لهم ونتحسَّر عليه في صدورنا، يتكرَّر لحظة بلحظة على ألسنتهم لأنفسهم وفي ما بينهم، وسرعان ما سوف يجري منهم لأولادهم، وهكذا نمضي على خطِّ الزمن بعمومات ثقافية واحدة نتناقلها بتلقائيَّة مفرطة.

التيلغراف (telegraph) جهاز اتِّصالات يعتمد على ترميز الحروف بنبضات كهربائية يُرسِلُها عبر الأسلاك لآخر يقوم بطباعتها، فتكون مقروءةً للجهة التي تصل إليها..

هذا الجهاز ومن حيث المفهوم العام والظرف الموضوعي من مختلف جهاته وأبعاده، هو نفس الهاتف الذكي الذي نستعمله اليوم، ولكنَّ عقليةَ اليوم تستصغر تيليغراف الأمس، وعقلية الأمس تستعظم هواتفنا الذكية اليوم، ولكنَّ تلك العقلية التي اخترعت التيليغراف، لو حُدِّثت في ذاك العصر عن هاتف ذكي (في الخيال) لما استعظمتْ أمرَه؛ فمبادئه التصورية قائمة عندها، غير أنَّ سعتها التصديقية كانت في حاجة إلى التليغراف أولًا لتتسع معه شيئًا فشيئًا.

وبعبارة أخرى، أقول: إنَّ العقلية التي اخترعت التيلغراف هي نفس العقلية التي اخترعت الهاتف الذكي بكل ما فيه من مزايا (تُبهِرُنا).

حنينُنا لبساطة الماضي، هو نفسُ حنين أحفادنا لبساطة اليوم، وخوفنا بالأمس من اليوم، هو نفس خوف أبنائنا من الغد، والوحيد الذي لا يخاف هو ذاك الذي يحتضن لحظات الزمن ليساهم بقوَّة ومن منطلق حقِّه التكويني في صناعة مظروفاتها وتجنُّب التغرُّب عن مصنوعات الآخرين.

لن يتمكَّن إنسانٌ من هذا الانفتاح المتقدِّم، ما لم يصرف أكثر وقته في قراءة الآخرين ثقافة وفكرًا وأدبًا ونتاجًا، قراءة منفتحة ومبنية على أسس ناضجة صحيحة، وفي المقابل، هو لن يجد خيارًا غير محاربة اللحظة والدخول في فوبيا الهروب المستحيل من القادم، ما لم يحقِّق ذاك الانفتاح، وهو انفتاح لا يوزن بحجم القراءة وتتبع الأخبار، ولكنَّ ميزانه هو القراءة وتتبع الأخبار بعقلية منفتحة تعادي الذاتوية معاداة القطبين المغناطيسيين المتنافرين لبعضهما البعض.

ثمَّة مسألة أعتقدها مهمَّة، وهي كالتالي:

اللحظة الزمنية لا تأتي، فهي ثابتة على خطِّها الخاص، أمَّا المتحرك فهو المظروف مطلقًا، وحركته بدفع تكويني جوهري طارد؛ وقوة الطرد يولِّدها امتلاء الظرف اللحظي السابق امتلاءً تكوينيًّا، وما لم يكن للإنسان فردًا وجماعةً يدٌ في صناعة مظروف اللحظة السابقة، فإنَّه يُقذَف منها نحو اللاحقة تائهًا لا يقوى على التعاطي الواثق مع واقعه الزمني.

وأخرى أيضًا:

من ضمن تفسيرات الحنين إلى الماضي والخوف أو القلق من المستقبل، هو أنَّ المستسلِمَ لوقائع الزمن، يخدعُ نفسه بالحنين إلى الماضي، ولكنَّ الواقع أنَّه فرِح بالتخلص مما كان مستقبِلًا له، فيُظهر شجاعةً بحنينه له بعد أن أصبح ماضيًا، ثم يكرِّر خوفه أو قلقه من المستقبل، ولكِنَّه سرعان ما يشرع في تبجيله والحنين إليه بعد انقضائه وابتعاده عنه بفعل تكاثر اللحظات بينه وبينه!!

ممَّا تقدَّم، يبدو لي أنَّ استراتيجية الإنسان في هذه الحياة الدنيا من المفترض أن تكون قد اتضحت، ولو في معالمها العريضة العامة..

يحتاج الإنسان إلى ترسيخ وتأصيل ثقافة الإصرار على التكامل مع كلِّ البشرية في صناعة الواقع، والتناغم معه بحيث يكون الطرد اللحظي في نفس (آن) التطلع لاحتضان مظروف اللحظة المستَقبَلة، ومن الواضح أنَّ التكامل مع الآخر المتوافق، لا يختلف عن التكامل مع الآخر المتعاكس، فهذا الأخير حقيقة قائمة، ومجرد التسليم ثقافة وفكرًا لهذا الواقع، يكفل التفكير في تحرُّك إبداعي لتحقيق مساحات صناعية أكبر في قِبال (المُعاكس).

وفي جميع الأحوال، فإنَّ الإنشغال بالآخر هو في الواقع انشغال عن صناعة مظروف اللحظة، وبالتالي الوقوع قهرًا في مصنوع الغير..

والنتيجة هي: الحنين إلى ما أسميناه (زمن الطيبين).

 

1 أغسطس 2015

No comments:

Post a Comment